لا يحتاج «حمزة نمرة» إلى بيان وتعريف؛ فالفنانُ الذي غرسَ جيتاره في طينة مصر، وزاحم بأغانيه الهادفة لغير الشوق والهجر والفراق، ملوك وهضاب الأغنية المصرية، ما زال باستطاعته انتزاع الأضواء كلما ألقى في الساحة من إبداعاته حجرًا جديدًا.مُقِلٌّ لكن مُجيد، هكذا عوّدنا «حمزة» أنه كلما طال غيابه حتى يكاد يُنسى، أن يعود بقوة تجعلنا نعتقد أنه كان حاضرًا دومًا.على مدار الأيام الماضية، احتلت أغنية «داري» الجديدة لـ«حمزة نمرة» –الممنوع من الغناء في مصر- صدارة «التريند» في مصر على الـ«يوتيوب»، بعدد مشاهدات تجاوز الـ20 مليون حتى الآن. وأجزم أن هذا الرقم كان ليصبح أضعافًا، لولا خوف الكثيرين منا أن يفتحوا رابط الأغنية، فيفتح عليهم «حمزة» عبرها أبواب جحيم الشجن والذكريات، التي يحاولون إيهام أنفسهم بأنهم أحكموا غلقها كثيرًا أو قليلًا، باللامبالاة الحقيقية والمصطنعة.

أثبت «حمزة» أنه من مرايا هذا الجيل الصادقة، ليس فقط في اختيارات الكلمات والألحان التي تتجسّد فيها أرواحنا وانفعالاتنا دائمًا، إنما حتى في أدائه نفسه.

حفلت مواقع التواصل بالكثير من التعليقات على الأغنية. لكن ما لفت نظري وجود نسبة ليست بالقليلة من الهجوم نالها «حمزة» بتهمة «العكننة» على الشباب، ونشر الإحباط!ويبدو أنه قد توقع مثل رد الفعل هذا، فحاول عبر اسم الألبوم المحتوي لـ«داري» بث جرعة من الأمل في الألم، فحمَّلْه بوعد: «هطير من تاني»، لا نعرف إن كان باستطاعة «حمزة» أو استطاعتنا الإيفاء به!

كذلك أكثَرَ غيري –ولا داعي لمزيد- في الحديث عن المفارقة بين أغنيات «حمزة» أيام استشراف الأمل قبل الثورة، وتجسد الحلم –ولو مؤقتًا- بعدها، حيث كان ألبوم «إنسان» العبقري وما غنّاهُ في سنوات المحن الأخيرة.

وبالفعل أثبت «حمزة» خلال كل هذه المراحل أنه من مرايا هذا الجيل الصادقة، ليس فقط في اختيارات الكلمات والألحان التي تتجسّد فيها أرواحنا وانفعالاتنا في كل مرحلة، إنما حتى في أدائه نفسه. والذي كان في أروع صوره عندما كان مبدعه يتنفس الأمل، بينما اختنقت موصّلات إبداعه ولو قليلًا في السنوات العجاف.

شخصيًا لا أعتبر «داري» أروع ما غنى «حمزة نمرة»، ولا أشد ما مسّني من أغنياته. فأغنية «احلم معايا» التي ذاعت منذ تسعة أعوام، والتي قارن الكثيرون بين حالتي «داري» في أدائها، وفي أداء الأغنية الأخيرة، ما زلت أجدني أدندنها متأثرًا، وكأنني لم أسمعها إلا البارحة. لكن رغم ذلك أجدني في موضع الدفاع عن «داري» وعما احتوتْهُ من جرعة قيّمة من الحزن النبيل، والذي جاء في وقته تمامًا.

كل اللي معاك في الصورة غاب .. وطنك والأهل والصُّحاب.
من كلمات أغنية «داري» لـ«حمزة نمرة».

يُخطئ الكثيرون بظنهم أن مشكلة جيلنا الآن هي الإحساس المضاعف بالحزن، والذي يعطل عن العمل لاستعادة ما فات، ومن هنا انتقدوا أغنية «حمزة» الجديدة لأنها ستزيد الحزانى حزنًا، وتشعل يأسًا لا ينخمد.

لم يكن صوت «حمزة» ولا الكلمات هي أهم ما في الأغنية، إنما إخراجها الذي جعله أيقونة من حزن جيلنا المتجسِّد. هذه الشعيرات البيض التي بدأت تغزو رأسه، تغزو أرواحنا ورؤوسنا كذلك.

ليس الحزن هو المشكلة أبدًا، فهو على الأقل علامة على وجود بقية من الروح والمشاعر. المشكلة الحقيقية في أنه «مع دقة عقرب الساعات .. بتموت جوانا ذكريات»، وإن «إحساسك كل يوم يقل»؛ والمحصلة الأليمة لما سبق هي أنك أصبحت «ما بتديش أي حاجة اهتمام .. أهلًا أهلًا، سلام سلام» كما ورد في كلمات أغنية «داري».قد يتهمني البعض بالسادية أو المازوخية أو كليهما لرأيي –والذي أكتبه وأنا أستمع الآن لأغنية «داري» للمرة العاشرة على التوالي اليوم- والذي ملخصه أن إثارة هذا العمل الجميل لمشاعر الحزن هو أروع وأهم مميزاته. لقد أعاد لي حمزة قدرًا من الشجن، ظننتُ أن الأعصاب المسؤولة عن تكوينه ونشره في أرجائي قد تلفَت منذ زمن إلى الأبد. عتابي الوحيد لحمزة بخصوص «داري» هو أن جرعة الشجن لم تكن كبيرة بما يكفي لكي أستطيع أن أنتزع ولو دمعتيْن دافئتين أحيي بهما وجهي الذي حنّطَته برودة الشتاء الطويل، ووجدتني أخرُّ صريعًا أمام رائعة «تميم البرغوثي»:

إذا عجز الإنسانُ حتى عن البُكى .. فقدْ باتَ محسودًا على الموتِ نائلُهْ.

لكنني أعترِف أن عتابي لـ«حمزة» من باب «العَشَم»، فما ذنبُ كلماته في عجزها الجزئي أمام روحٍ تتصحَّر، وتحتل زواياها الصخور؟ وأشهد أنه حاول حثيثًا تفجير ينابيع الحزن بكل ضربة من ضربات «داري».

اقرأ أيضًا:«داري يا قلبي»: ما أبعد اليوم عن البارحة

لم يكن صوت «حمزة» ولا الكلمات هي أهم ما في هذه الأغنية، إنما إخراجها الذي جعله أيقونة من حزن جيلنا المتجسِّد. هذه الشعيرات البيض التي بدأت تغزو رأسه، تغزو أرواحنا ورؤوسنا كذلك.

نحن العجوز الذي كان يلقي حجر النرد على الطاولة، ويحاول تجسيم اللامبالاة، أو لا جدوى المبالاة، ونحن كذلك الطفل الذي ظهر يتجول هنا وهناك في براءته اللامبالية.فروع الأشجار التي ظهرت في بداية الأغنية، وقد ثكلتْ أوراقها، واعتلتها الغيوم، نمتلئ بمثلها. تلك الشوارع المقفرة رغم ما تبقى فيها من جمالٍ هي قلوبنا. كل تفصيلة في كل مشهد، تبث حزنًا عميقًا ورقيقًا في آن، ويتأبط ذراعيه الوحدة والغروب. تستحق هذه اللوحة من الشجن الخام عيار 24 كل كلمة دفاع، وكل دمعة حاولت أن تتكوّن، أو تكونت، واحتُبِسَتْ أمام السلك الشائك بين الحياة والموات. وتستحق قصة جيلنا المزيد من هذا الحزن المخلص النبيل.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.