تبدو المقدمات تائهة، مُحيّرة إذا كنّا سنتحدث عن شخص نحبّه، نفضّل وجوده ونقضي جزءًا كبيرًا من يومنا برفقته، وبرفقته هنا لا يعني التواجد جسديًا (أو شخصيًا)، ولكن التواجد قد يكون له صور متنوعة، مثل حالتنا اليوم، عبر مقطوعات موسيقية، يتردد صداها باستمرار في المنزل.

رغم أنني كتبتُ هذه التدوينة بمناسبة عيد ميلاد أسطورة الموسيقى التصويرية في هوليوود «هانز زيمر»، أو «هانز تسيمر» (إذا كنت سأكتبها صحيحة وفقًا لطريقة نطقها بالألمانية)، إلا أنني صِغتُها وتحدثت فيها عن جزءٍ كبير من مشوار زيمر لتكون «أبدية»؛ يمكنك الرجوع إليها إذا كنت تود التعرّف إلى هانز زيمر في أي وقت، وليس فقط في عيد ميلاده.

أثناء التحضير، عدت للبدايات والبحث في المصادر عن مشواره في صناعة الموسيقى التصويرية، فوجدتني أقابل شخصًا ألّف الموسيقى التصويرية لأكثر من 150 فيلمًا منذ الثمانينيات، تنوعت بين موسيقى أفلام سينمائية، وثائقية، وألعاب فيديو، ومقدمات بعض المسلسلات.

شاهدتُ خلال رحلة البحث هذه أكثر من 4 ساعات أفلام وثائقية ومقابلات صحفية- عنه ومعه- تتناول زوايا مختلفة من مسيرته مثل: البدايات، وكيف يؤلف الموسيقى، وماهية الموسيقى في حياته، وكيف يعثر على تلك الأنماط الساحرة التي نسمعها؟ وغير ذلك.

كانت بدايتي مع هذا الفيلم الوثائقي (أعلاه) من عام 1995 الذي سُجّل بعد حصوله على جائزة الأوسكار لموسيقى فيلم «The Lion King»، والذي قرّبني إليه كشخص أكثر منه عازف ومؤلف موسيقى تصويرية، وأود استهلال الحديث به، إذ يتحدّث فيه زيمر بالألمانية والإنجليزية، وسحَرني للغاية بحديثه العفوي عن موسيقى «The Lion King»، ورأيه في الأفلام التي ألّف لها الموسيقى، بل وحتى طريقة جلوسه.

فرانكفورت ولندن: بداية دؤوبة

ولد هانز في فرانكفورت، ألمانيا الغربية في 12 سبتمبر/أيلول عام 1957، لأم موسيقية (تحب الموسيقى)، وأب مهندس يُعرّفه هانز بأنه مخترع أيضًا. جميع المصادر التي تناولت مسيرته لا تذكر أن له إخوة، فيبدو أنه كان الطفل الوحيد في أسرته.

يحكِ هانز عن طفولته بأنه أحبّ الموسيقى بسبب بيانو أهدته له والدته، إذ كان يتعلّم عليه العزف منذ كان عمره 3 سنوات، كما كانت والدته تعلّمه عزف بعض المقطوعات القصيرة بطريقة صحيحة، وليس مجرد ضربات متفرقة على المفاتيح. تأثر في طفولته وشبابه بموسيقى «إنيو موريكوني»، خصوصًا بالموسيقى التصويرية لفيلم «Once upon a time in the West» التي ألهمته ليصبح مؤلفًا للموسيقى التصويرية للأفلام.

يفخر بأنه تعلّم الموسيقى تعلّمًا ذاتيًا، كما أنه لم يدخل الجامعة، ولم يستطع البقاء في 8 مدارس مختلفة، وذات مرة حصل على دروس البيانو لمدة أسبوعين فقط.

توفي والده وهو في السادسة من عمره، وكان يراقب حُزن والدته دائمًا ولم يجد سوى البيانو ليعزف عليه من أجلها. يتحدث عن ذلك في هذه المقابلة بأنه كان يعتقد أنه إذا عزف على البيانو جيدًا، فهذا سيجعل منه ولدًا صالحًا في نظر والدته، وقد يُسعدها ذلك، وبحسب قوله، وجد أن العزف يساعده أيضًا على تخطي فقدان والده- أو عدم تواجده في المنزل- بشكلٍ ما، رغم أنه لم يعِ تمامًا معنى الفقد في تلك السن الصغيرة.

انتقل إلى إنجلترا في السبعينيات، وكانت بداياته في العمل مع العديد من الفرق الموسيقية الصغيرة مثل «The Buggles»، والفرقة الإيطالية «Krisma». وفي الثمانينيات دخل زيمر في شراكة مع «ستانلي مايرز»، مؤلف موسيقى تصويرية وملحن بريطاني ألّف الموسيقى التصويرية لأكثر من 60 فيلمًا، وأسسّا معًا استوديو «Lillie Yard recording studio» لإنتاج وتسجيل الموسيقى التصويرية.

يعزف زيمر منذ بداياته في السبعينيات بطريقة المزج «Synthesizer» (موسيقى إلكترونية)، إذ يستخدم آلة إلكترونية- لوحة مفاتيح- لتوليد الأصوات التي يتم تعديلها إلكترونيًا باستخدام الكمبيوتر، ثم يحوّلها بعد ذلك إلى آلات لتُعزف.

ألّف زيمر ومايرز الموسيقى التصويرية لعدّة أفلام شهيرة مثل: Moonlighting، وSuccess is the Best Revenge، وInsignificance، وMy Beautiful Laundrette. أمّا الموسيقى التصويرية الأولى لهانز منفردًا كانت لفيلم «Terminal Exposure» للمخرج «نيكو ماستوراكيس» عام 1987، وكان منتج الموسيقى التصويرية لفيلم «Last Emperor» عام 1987 الذي فاز بجائزة الأوسكار لأفضل موسيقى أصلية، أمّا موسيقى فيلم «Rain Man» للمخرج «باري ليفينسون» فكانت نقطة التحول في مسيرة زيمر وانتقاله لهوليوود.

قصة موسيقى فيلم «The Lion King»

إذا أخبرك أحدهم أن هناك قاعدة، فاكسرها.. هذا هو الشيء الذي يدفع الأمور للأمام.
هانز زيمر، الإعلان الرسمي عن «master class»

لا يعزف زيمر مجرد أنماط، بل يجعل من المقطوعة أداة لتروي حكاية بطريقة ما. فنراه يسافر إلى جنوب أفريقيا للتعرّف إلى الجوقات والطبول الإفريقية التي استخدمها في الموسيقى التصويرية لفيلم «The Power of One» عام 1992، ثم كان الحدث التالي عندما خاطبته ديزني لتسجيل الموسيقى التصويرية لفيلم «The Lion King» عام 1994. لم يتمكّن زيمر هذه المرة من السفر إلى جنوب إفريقيا، لكن ديزني رتّبت له لقاء مع «ليبو إم»، منتج وملحن من جنوب أفريقيا، والذي يمكنك تمييز صوته الجهوري في افتتاحية أغنية «Circle of Life».

حصل هانز على جائزة الأوسكار عام 1995 عن موسيقى هذا الفيلم الخالد. يحكِ هانز أنه عندما وصله طلب ديزني لعمل الموسيقى، فكّر أولًا كيف سيؤلف موسيقى لفيلم رسوم متحركة من أفلام ديزني المليئة عادةً بالأميرات والقصص الخيالية، لكنه أراد أن يؤلف الموسيقى على أي حال من أجل ابنته ليأخذها إلى العرض الأول للفيلم، نظرًا لانشغاله طوال الوقت، لكنه عندما قرأ القصة، وجد نفسه أمام قصة قوية، وأمر «خطير»، عن فقد الأب، عن شبل صغير فقَد والده، وكيف سيتعامل مع الوضع بعد ذلك.

خلال مشاهدتي لكافة المقابلات التي أُجريت مع هانز حول الموسيقى التي يؤلفها، لاحظت أنه عندما يصل إلى الحديث عن موسيقى «The Lion King»، فإن التأثر يبدو واضحًا عليه، يصمت قليلًا، تلمع عيناه بدموع يمكن رؤيتها، ثم يدير وجهه عن الكاميرا أو يتغيّر المشهد.

هو بنفسه يحكِ أنه لم يستوعب فقد والده إلا بعدما أصبح أبًا، وللمصادفة، كانت ابنته «زوي» في السادسة من عمرها عندما ألّف موسيقى هذا الفيلم، ويتحدث أن هذه الموسيقى تحديدًا كتبها من أجل والده. يتحدّث عن أنه تعمّد أن يكون مشهد موت الأسد سيمبا جميلًا (مؤثرًا/ مُحزنًا) لعِظم دور الأب، ولم يكن لأي شيء أن يتمم تلك المهمة سوى الموسيقى. وبالفعل، ما زال مشهد موت الأسد سيمبا يبُكيني، وبالتأكيد يفعل الشيء ذاته مع كثيرين حول العالم.

وفي هذا يؤكد زيمر دائمًا أنه لم يكتب ثيمات الموسيقى من أجل الأعمال التي تُعرض عليه، ولا من أجل المال، بل من أجله ولنفسه في المقام الأول، وحتى تصبح راسخة في أذن منْ يسمعها. يحك في الوثائقي الذي استهللُت به حديثي عنه، بأنه تعرّض ذات مرة لنوبة أدخلته المستشفى، فلم يجد سوى الموسيقى، أو كتابة ثيمات الموسيقى لتُخرجه من الوضع الذي كان فيه.

موسيقى فيلم «Interstellar»: لقائي الأول بـ «هانز زيمر»

منذ ظهور اسمه في الثمانينيات وحتى عام 2014، ألّف زيمر عشرات المقطوعات من الموسيقى التصويرية، أشهر المقطوعات الفريدة التي نعرفها لأفلام مثل: Gladiator، وThe Pirates of the Caribbean، وInception، وMission Impossible 2، وThe Ring 2، وThe Dark knight، وغير ذلك من الأفلام، إلا أن موسيقى فيلم Interstellar كانت المحطة، المعزوفة، التي حلّقت به إلى ما بين النجوم فعلًا في عالم صناعة الموسيقى التصويرية.

وكما الكلمات في الروايات؛ يستخدم هانز الموسيقى ليُهديك أبعادًا أخرى تُمكّنك من تخيّل عالم ربما لم تره من قبل ولن تراه أبدًا، لكنه عالم تعرفه موجود في عقلك فقط.

لم أتعرّف على اسم هانز زيمر سوى من خلال هذا الفيلم، واكتشفت- يا للمفاجأة السارّة- أن كل الموسيقى التصويرية التي سمعتها وأحببتها كانت من تأليفه، وبالتحديد أول موسيقى تثبت في ذهني، وهي موسيقى فيلم الرعب «The Ring 2» التي بقيِتُ أسمعها ليلة كاملة بعد سماعها لأول مرة في سنوات الجامعة. لكن ما دفعني للبحث عن اسم مؤلف الموسيقى التصويرية لفيلم Interstellar؛ هي تلك التجربة النفسية الفريدة التي مررت بها خلال مشاهدة الفيلم.

لا أبالغ فعليًا، وربما يشاركني العديد من الناس في ذلك، لكن مشاهدة الفيلم لم تكن تجربة مشاهدة فيلم عادي تدور أحداثه في الفضاء، أو أنه مليء بالنظريات العلمية فحسب، بل لأنه أعطاني نظرة جديدة لعالمي بعد انتهاء المشاهدة.

كنت في الـ 24 من عمري وقتها، وكنت أمرّ بتجربة شخصية آلمتني بشكل حاد، وشعرتُ أن ذلك الفيلم، تلك المشاهد المهيبة في الفضاء، القصة، علاقة الحب الوطيدة، العميقة بين الأب وابنته، الموسيقى… تفاصيل كثيرة جعلت من هذا الفيلم مكانًا ومتّسعًا آخر يتلقّفني من كآبتي، ويضعني على بداية طريق أكثر اتّساعًا، إلى بين النجوم فعلًا، وما زلت أتذكر ذلك الشعور بالاتساع المكاني الذي منحته الموسيقى فقط أثناء مشهد العبور عبر الممر الدودي.

لهذا أتحدث باستمرار عن الفيلم، وعن موسيقاه، وعن كل تفاصيله باعتباره «الطوطم» الذي يعيدني إلى تلك التجربة النفسية الفريدة التي أحب العودة إليها مرارًا، بعيدًا عن النقد الفني أو ما الذي قصده نولان في الفيلم.

عندما كتب هانز زيمر موسيقى الفيلم، كان يرغب– هو والمخرج كريستوفر نولان وباقي فريق العمل- أن يمنحوها ميزة فريدة تجعلها تذكرة سفر عبر الزمن، تتجاوز حدود عالمنا لتُحلّق بنا بعيدًا. فكانت آلة «الأرغن ذو الأنابيب» في كنيسة «المعبد» في لندن هي الخيار الصحيح. وُضعت أنظمة التسجيل في أروقة الكنيسة، ثم بدأ «روجر ساير»، عازف الأرغن ومدير الموسيقى في الكنيسة، بعزف النوتات التي كتبها زيمر.

 يصف هانز الموسيقى- بشكلٍ عام- بأنها محادثة فيها سؤال وإجابة، إنها جسر يصف شعوره ويعبر عن شيء ما موجود في عقله، ولديه في كل مقطوعة موسيقية حكاية. ويصف هانز فائدة «عدم تعلّم الموسيقى» أن ذلك منحه اتساعًا ليكتب نوتات من قلبه.

مقطوعات متفرقة

في موسيقى فيلم «The Dark knight» كتب هانز مقطوعة «?Why So Serious» لتكون خاصة بشخصية الجوكر، ليكون حاضرًا من خلال هذه المقطوعة فحسب.

وفي المشهد الأخير من فيلم «Inception» كانت مقطوعة «Time» وحدها تروي قصة نهاية حلم/ واقع كوب في مشهدٍ صامت يتبادل فيه الأبطال النظرات، إذ يمكنك سماع حديثهم وفهمَه من خلال صوت الموسيقى فقط. حلم كوب الجميل بالعودة لأطفاله ورؤيتهم. حلم تجاوز الزمان والمكان ليصبح هو واقعه.

في موسيقى فيلم «Dunkirk» على سبيل المثال، استخدم هانز نغمة شيبرد اللانهائية في مشاهد الفيلم ليضعنا، ومن خلال الموسيقى مع زوايا المَشَاهد، في تجربة حقيقية كما لو كنت موجودًا في معركة دانكرك. وبجانب نغمة شيبرد، استخدم المقطوعة الموسيقية «Nimrod» في العديد من مشاهد الفيلم بخاصة المشهد الأخير، الذي كان بمثابة وداع وتكريم لجنود الحرب. نهاية الفيلم مع تلك النغمة كنت اعتبرها مشهد تأبين فعلًا للجنود قبل أن أعرف تفاصيل الموسيقى، وهذا مثال آخر عن أن زيمر يستخدم الموسيقى ليروي حكاية.

في الفيديو التالي، والذي يفضّل أن تشاهده- وفي هذه القناة الفريدة- يشرح «عيسى نجم» موسيقى الأفلام، وكيف يتم توظيفها في المَشَاهد، ويا إلهي كم سعدت للعثور على فيديو موسيقى فيلم دانكرك لأفهم فعليًا كيف يعمل زيمر ليجعل من كل مقطوعة موسيقية حكاية منفصلة. وهذا الفيديو ساعدني في كتابة الجزء الخاص بموسيقى فيلم دانكرك.

بقي أخيرًا أن أقول إن آخر إصداراته -وقت كتابة هذه التدوينة- هي الموسيقى التصويرية لفيلم «Dune» المرتقب عرضه في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، والتي جعلتني أتصوّر عالم الفيلم قبل مشاهدة إعلانه.

اقرأ أيضاً: أكثر من كونها نغمات: كيف نستمع للموسيقى؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.