لن تعود كرة القدم إلى موطنها، بسبب هاري ماغواير
لافتة رُفعت في ستاد خليفة الدولي في كأس العالم 2022

عقب انتهاء إحدى مباريات مانشستر يونايتد، وبينما يمشي في الممر المؤدي إلى غرفة الملابس؛ ألقى إليه بعض الجماهير ورقة. انحنى «ماغواير» ليلتقطها؛ ظنًا منه أن هؤلاء المشجعين يريدون توقيعه، لكن الورقة كانت تحمل رسالة مقتضبة وقاسية في الوقت نفسه: «اخرج من نادينا، يا صاحب الرأس الكبير».

أثناء موسم 2021-2022، قام معهد «آلن تورينج» بحصر أكثر اللاعبين تعرضًا للإهانة عبر وسائل التواصل الاجتماعي خلال النصف الأول من الموسم، في الدوري الإنجليزي الممتاز. احتلَّ «هاري ماغواير» المركزَ الثاني، إذ تعرض للإهانة عبر 8954 تغريدة، ولم يسبقه سوى كريستيانو رونالدو، نجم اليونايتد وقتها، الذي انفرد بالمركز الأول (12520 تغريدة).

إهانة رونالدو جزءٌ من الروتين اليومي للكثيرين. أمر منطقيّ مفهوم، ضريبة أن تكون من بين الأفضل في تاريخ اللعبة. لكن كيف اكتسب ماغواير تلك السمعة السيئة؟ وبأي ذنبٍ استحقّ تلك الإهانات المتكررة؟ وما سرّ تحول أغلى مدافع في تاريخ الدوري الإنجليزي إلى أضحوكةٍ لا يقيمُ لها مدربه ولا زملاؤه ولا الجمهور وزنًا؟

نار سولشاير وجنّة جوارديولا

ليس سرًا أن المدرب (العبقري) «بيب جوارديولا» كان يرى في ماغواير بديلًا جيدًا لقائد فريقه وخط دفاعه المعتزل فينسنت كومباني، عطفًا على الأداء الرائع الذي قدمه المدافع الإنجليزي في نسخة كأس العالم 2018، ومن قبل ما قدمه في موسمه الأول في ليستر سيتي، إذ كان أفضل لاعبي النادي في هذا الموسم.

اهتمامُ «بيب» باللاعب، جابهَهُ اهتمام «سولشاير»، وتنافس القطبان على توقيع المدافع الإنجليزي، الذي حرصت إدارة ليستر على استغلال الموقف وبيعه لأعلى سعر. فكان من نصيب جانب مدينة مانشستر الأحمر.

كان يومَ سعدٍ على إدارة الثعالب، التي استطاعت تأمين أكبر قيمة انتقال مدافع في تاريخ الدوري الإنجليزي، لكنه كان يوم شؤم على ماغواير، الذي لم يكن يعلم أنه يُساق إلى حتفِه بلا إرادة ولا رغبة.

لم تكن سنته الأولى في «أولد ترافورد» تحمل أي ملمح من ملامح وضعه الحالي، فقد لعب في هذا الموسم عدد دقائق أكثر من أي لاعب آخر في العالم. بعض تلك المباريات لعبها تحت تأثير مسكّنات الألم، لينظر إليه سولشاير بعين الجدارة ويعلنه قائدًا للفريق، بعد ستة أشهر فقط من وصوله إلى النادي.

في ذلك الوقت لم تكن الشياطين حمرًا، وإنما كانت أقرب للوداعة منها إلى الشيطنة: ملّاكٌ كريهون، هيكل إداري مهترئ، وجوه جديدة أكثر من المعقول في التشكيل الأساسي، وبالطبع مشكلة السوبرليج التي ألقت بظلالها على الجميع.

لم يكن ماغواير وسط هذا المعترك سوى نبتة منزلية خَجلى باهظة الثمن، رآها أحدهم وهي تنثر سحرًا في بستانها الرطب، فعزم على اقتنائها. ولكنّ قدر النبتة المسكينة أن صاحبها الجديد يعيش في بيئة قاسية، والنجاة فيها تحتاج لمعجزة.

هناك سؤال يفرض نفسه بقوة: ماذا لو تمسك به غوارديولا وأدخله في بيئة مثلى للنمو والازدهار؟ بيئةٍ قلّما تُحاسَبُ فيها النباتات على أسعارها الباهظة، لأنها تستتر خلف ظلالِ بُستانيٍ عبقري، سيجبرها على نثرِ العطر في الوقت المناسب، وإن لم تفعل، فلا مشكلة، يكفيها زهوُ هذا العبقري وألقابُه مؤونةََ الإشراق ونثر السحر.

أظن أننا لن نعرفَ الإجابة أبدًا.

قصة هبوط على شاطئ اليونان

كيف كان قبل أن يذهب إلى فرنسا؟
كان يضحك، كثيرًا.

على غرار زعيم عصابة البيكي بلايندرز «توماس شيلبي»، هنالك حدث فارق تتغير بعده حيوات الشخصيات الرئيسة في القصص الواقعية والخيالية. بالنسبة إلى ماغواير، كان هذا الحدث رحلته الصيفية إلى اليونان في عام 2020، فما الذي حدث هناك؟

عزم ماغواير على قضاء عطلة صيفية عائلية على جزيرة «ميكونوس» اليونانية استعدادًا للموسم الجديد، قبل أن تأخذ الأمور منحى فوضويًا أثناء إحدى السهرات، بتعدي مجموعة من الأفراد على أخت اللاعب وحقنها بأحد العقارات المهدئة، مما جعلها تفقد الوعي.

تطور الأمر بعد ذلك لمشادّات وتهديدات، تعرض فيها اللاعب للضرب والإهانة من أفراد الشرطة الذين ظنّ أنهم سيختطفونه في بداية الأمر، فبادلهم الضرب والإهانة. بل إنه حاول رِشوة أحدهم، لئلا يتطور الأمر أكثر من ذلك، ولكن انتهى به المطاف في السجن.

حُكم على ماغواير بالسجن لمدة 21 شهرًا و10 أيام. لِيُطلقَ سراحه بعد ذلك إثر الاستئناف المقدم من محاميه وتسهيلات النيابة التي اعتبرتها سابقة في سجله النظيف، ولكونها مجموعة من الجنح وليست جريمة جنائية.

في دراسة أجراها ثلاثة باحثين في علم النفس بجامعة الإمام الطبطبائي في طهران عام 2019، على مجموعة من لاعبي كرة القدم المحترفين، تبين أن هنالك مجموعة من العوامل الخارجية، التي يصاحبُ أثرُها أداءَ وسلوك اللاعبين في أرضية الملعب. وللدهشة، كان أهم تلك العوامل: العائلة ومشاكلها وقضاياها.

بدأ الموسم الجديد بعد تلك الواقعة بقليل، وكما توقعتْ الدراسة بالضبط: لم يظهر ماغواير بمستواه المعهود في بداية متعثرة للفريق، تلقى خلالها هزيمة مذلة بسداسية أمام توتنهام، قبل أن يتحصل على طرد في مباراة ودية مع منتخب الأسود الثلاثة ضد الدنمارك، بإنذارين في مدى نصف ساعة فقط!

حاول ماغواير بكل الطرق أن يتصالح مع تلك الحادثة، التي غيرت تمامًا من حضوره في الملعب، حتى إنه استعان برئيس علم نفس الأداء في الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم «إيان ميتشيل» لمساعدته في تخطي تلك العثرة، لكن شيئًا ما كان قد فقده اللاعب إلى غير رجعة: ثقته بنفسه!

أيها الحظّ: علَامَ تعاندني؟

«لماذا دائمًا أنا؟» لو كان ماجواير يملك جرأة «بالوتيلي»وجموحه في الملعب، وقرر أن يخلع قميصه بعد إحراز هدف مهم -في مرمى الخصم بالطبع- ويتجه للكاميرات والجماهير، لكانت تلك العبارة مرسومة على قميصه الداخلي: أيها الحظ، لماذا دائمًا أنا؟

في المباراة الافتتاحية للمنتخب الإنجليزي أمام إيران في كأس العالم 2022، أسهم ماغواير في تقدم الفريق بأربعة أهداف، قبل أن يشير لمدربه بأنه يجد صعوبة في الرؤية بشكل جيد، ولأنه سيئ الحظ، باغته «مهدي تارمي» وأحرز الهدف الأول لإيران، ليخرج بديلًا بعدما تسبب في استقبال هدف.

وحين نزلَ بديلًا في مباراة فريقه أمام «إشبيلية» في ربع نهائي بطولة الدوري الأوروبي الموسم الماضي، وقبل نهاية المباراة بثوانٍ، ارتطمت الكرة برأسه ثم في شباك فريقه، بهدفٍ أغرب من الخيال، لا يمكن أن يلومه عليه عاقل.

يرى «ريو فيرديناند» المدافع الذي ملأ هذا الحذاء قبل ماغواير بسنوات، أن ما يمر به ليس إلا فترة حظ سيئ، تعرض لها هو نفسه وغيره من اللاعبين. لكن أخطاءهم لم تسفر في كل مرة عن هدف، ولم تُضخّم بهذا الشكل ولم تسترعِ هذا الانتباه، على عكس الحاصل تمامًا مع ماغواير، الذي يلاحقه سوء الحظ، ولم يبقَ له سوى نشر صورته على «إنستجرام» مع تعليق: «أخبروا الحظ أننا أحياء، فليبتسم لنا ولو مرة».

ثلاثة بدائل للانتحار، الأخيرة لن تعجبك، يا هاري!

تبدو فكرة الانتحار سيئة على كل حال، ولا نظن أن «ماغواير» يملك حلًا جذريًا لما يلاقيه من صنوف الإهانات التي ضاق بها ذرعًا، بخاصة أن زعيمها جمهورُ فريقه ومنتخبه الوطني، الذين يدافع عن ألوانهم ما استطاع لذلك سبيلًا.

لذلك فهنالك ثلاثة بدائل نظن أنها يمكن أن تمنع هاري من الانتحار، وتمنحه خاتمة مرضية -على الأقل- لرحلة كفاحه التي بدأها في شيفيلد ومنها إلى القمة:

1. اللعب وراء الأبواب المغلقة

نعرف أن الفكرة ساذجة ومستحيلة التطبيق، لكن نتائجها فعّالة جدًا ومجربة. فقبل جائحة «كورونا» كان اللاعبون ذوو البشرة السوداء الأكثرَ اضطهادًا في إيطاليا، وحين أتت الجائحة وفرغت الملاعب من الجمهور ، قرر ثلاثة من علماء الاقتصاد في جامعة كوبنهاجن دراسة أثر المدرجات الفارغة على نفسية هؤلاء اللاعبين وانعكاساته على أدائهم في الملعب، فكان هنالك تحسن بنسبة 3% بين المباريات التي لعبوها في وجود الجماهير وتلك التي لعبوها خلف الأبواب المغلقة. هل يمكن أن تفعل مانشستر ذلك من أجل عيون ماغواير؟

2. الاعتزال المحلي واللعب الدولي

صدقني لستُ هنا للسخرية من هاري، وأنت لم تخطئ قراءة الجملة، ولكن أداءاته على مستوى المنتخب الإنجليزي جيدة جدًا، وساوثجيت مدرب المنتخب يرى فيه ركيزة لا استغناء عنها في فريقه الدولي، أسهمت في وصوله للمربع الذهبي لكأس العالم 2018، ونهائي اليورو 2020.

كذلك يرى زملاؤه في الفريق، الذين هاجموا الجمهور من أجله وعلى رأسهم قائد المنتخب هاري كين. ولم يتجرأ عليه أحدهم كما فعل «أونانا» في المباراة الثانية له فقط بقميص الشياطين الحمر.

3. الانتقال لفريق آخر

لم ترق تلك الفكرة للمدافع الإنجليزي، رغم كونها الأقرب للمنطق، ما يدفعنا للتساؤل: هل أصبح مصابًا بمتلازمة ستوكهولم؟ أم إن العروض التي تصله تنكأ جرح قيمته السوقية وقتها؟ لقد شعر بالإهانة حقًا من قيمة العروض التي قدمت تِباعًا من «ويستهام»، لكن ألم يخرج هو على الملأ ليعلن بكل أسى وحزن أن المدرب الجديد للشياطين الحمر «إريك تين هاخ» قد سحب شارة القيادة منه ولا يفكر به كمدافع أساسي في حقبته الجديدة؟

هل يجب أن نشعر بعد كل هذا بالتعاطف مع ماغواير؟ الإجابة متروكة لك بالطبع. لكن توني كروس لم يكن ليفعل، إذ يرى أن التعاطف والشفقة لا مكان لهما في عالم كرة القدم، خصوصًا مع لاعبٍ يتقاضى في سنة واحدة أضعاف ما يمكن أن يتقاضاه ملايين الأفراد في عمر كامل في أشغالهم العاديّة.

الحمد لله أن توني كروس ليس البوصلة الأخلاقية لهذا العالم، ليس لأن ماغواير مستحق للتعاطف بالفعل، ولكن لأنه يرى أن البشر بشكل أو بآخر مستحقّون دومًا لِما هم فيه.