هاروكي موراكامي كاتب ياباني معاصر ولد بطوكيو سنة 1949. حاز على جوائز وتكريمات عديدة، وذاع صيت شهرته بفضل أعماله الكثيرة التي ترجمت إلى أكثر من 50 لغة. «كافكا على الشاطئ»، «Q841»، «ما بعد الظلام»، وغيرها من الروايات المصنفة «الأعلى قراءة»، والتي جذبت العديد من القراء حول العالم.

المتتبع لأعمال هاروكي يلاحظ الحضور الطاغي للموسيقى في كتاباته، ففي العوالم الغرائبية التي يخلقها في أعماله، دائما ما نجد إحدى شخصياته شغوفة بالموسيقى، أو حوارا بين اثنين منهما عن مقطوعة موسيقية، بطريقة محببة وتعليمية، إن صح التعبير. في هذا المقال نعرض لسيرة هذا الكاتب العظيم الذي جعل من كتاباته معزوفات ناطقة بالغرابة والجمال في آن.

من الدراسة الجامعية إلى مسئول عن «حانة»

كونه ابن أستاذ للأدب الياباني بإحدى الكليات، فإن هاروكي فتح عينيه ليجد نفسه بين أحضان الكتب. يحكي عن طفولته في أحد حواراته قائلا: «كنت طفلا وحيدا، منعزلا، وقلقا. قضيت أيامي محجوبا عن الأنظار، منعزلا مع قططي وكتبي». تأثر في بداياته بالأدب الروسي، فقرأ «الإخوة كارامازوف»، «الجريمة والعقاب»، «الحرب والسلم»، ثم تأثر فيما بعد بكتابات فرانز كافكا وغيره ممن تصطبغ أعمالهم بـ «الواقعية السحرية»، وذلك ما أضفى فيما بعد على أعمال هاروكي مزيجا غريبا وجميلا من السريالية وأجواء السحر والفانتازيا.

بعد دراسته الجامعية اتجه ليصبح مسئولا عن حانة بيتر كات Peter Cat لموسيقى الجاز بأحد أحياء طوكيو لمدة ثماني سنوات (ونلاحظ هنا عشقه للقطط من خلال اختيار اسم الحانة). داخل أسوار هذا المكان توطدت علاقته بالموسيقى بشكل كبير، وانتقل من عاشق للموسيقى إلى متذوق رفيع لها. قام هاروكي بنشر مذكراته عن هذه السنوات التي قضاها مديرا لحانة الجاز في وقت لاحق في مجموعتين منفصلتين من المقالات تحت عنوان: «بورتريه في الجاز Portrait in Jazz» سنة 1977 و2001.

روعة اللقاء الأول

أول لقاء لي مع موسيقى الجاز كان عام 1964 عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري. كان حفلا للفنان آرت بلاكي Art Blakey وفرقة «رسل الجاز» في مدينة كوبي، عاصمة محافظة هيوغو، حيث حصلت على تذكرة كهدية في عيد ميلادي، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أستمع فيها حقا لموسيقى الجاز.. لقد أدهشتني وهزتني.

هاروكي ورغم عدم دراسته للموسيقى وعدم درايته بها، فإنه شعر عند سماعه لموسيقى الجاز بشيء غريب: «شعرت بموسيقى غريبة وخاصة تجول برأسي، وتساءلت في سري عما إذا كان من الممكن نقل تلك الموسيقى إلى الكتابة.. وهكذا وجدت أسلوبي الخاص».

استمد إذن هاروكي خطه الروائي من الموسيقى، إذ وجد تشابهات عديدة وغايات مشتركة بين الكتابة الموسيقى.. ففي كلتيهما نجد ذلك «الإيقاع» الطبيعي والثابت الذي يأسرنا.. في الكتابة نجد ما يشبه «اللحن»، وهو ذاك الترتيب الملائم للكلمات المتناسبة مع الإيقاع، نجد كذلك «الانسجام»، في تلك الأصوات العقلية الداخلية وفي تلك الأصداء الروحية التي تدعم المعاني، ونجد كذلك «الارتجال الحر»، كون القصة تأتي بحرية وبتدفق من الداخل، من العوالم الداخلية للكاتب.

مقطوعات موسيقية حاضرة في أعماله

كما سبقت الإشارة إلى ذلك بداية، فإنه لا تكاد تخلو رواية واحدة من روايات هاروكي من ذكر للموسيقى على لسان إحدى شخصياتها، بل حتى عناوين بعض أعماله عبارة عن مقتطفات من أغان أو مقطوعات ما. فعنوان روايته «كـافكا على الشاطئ» مأخوذ من الأغنية التي تؤلفها وتعزفها على البيانو الآنسة ساييكي، وعنوان روايته الأخرى «الغابة النرويجيّة» ما هو في الواقع إلا عنوان أغنية روك للبيتلز (The Beatles)، والأمثلة كثيرة.

أمر آخر مهم هو تعدد الأنواع الموسيقية الحاضرة في أعماله، من الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا، إلى الروك والجاز.. ذلك أنه حسب نمط كل شخصية من شخصياته يختار هاروكي النوع الموسيقي اللائق بها. فشخصية الأرملة الثرية في رواية «Q841» بما فيها من رقي كونها سيدة مجتمع وأرملة أحد الأثرياء في البلد، فإن هاروكي يعطينا نظرة عن ذوقها الفني من خلال المقطوعات التي تستمع لها، والتي تندرج كلها في خانة الموسيقى الكلاسيكية، مثل المقطوعة الرائعة «تدفقي يا دموعي lachrimae» لجون دولاند ومقطوعات أخرى لهايدن. شخصية «فوكا-أري» في نفس الرواية، الفتاة ذات الطباع الغريبة وطريقة الكلام الأغرب، تتبادل مع «تنغو» الكلام حول موسيقاها المفضلة. هنا وخلال الحديث الدائر بينهما، يأبى هاروكي إلا أن يعطي القارئ حصة تعليمية عن موسيقى باخ Jean-Sébastien Bach، حيث يبدأ حديثه عنه بذكر علاقة مقطوعته «لوحة مفاتيح حسنة المزاج The Well Tempered Clavier» بالرياضيات (والتي بالمناسبة كانت نتاج اكتشاف رياضياتي كبير، وهو كيفية حساب الجذر الثاني عشر للرقم 2):

إن «لوحة مفاتيح حسنة المزاج» هي موسيقى سماوية بحق لدى علماء الرياضيات. إنها تتألف من مقدمة وتستخدم النغمات الاثنتي عشرة للسلم، وأربع وعشرين قطعة في الكتاب، وثمانٍ وأربعين قطعة إجمالا، ما يشكل دائرة مثالية.

ثم ينتقل الحديث بينهما عن «الموسيقى الكنسية» عند باخ من خلال حديثه عن معزوفة «الألم بحسب القديس متّى»، وهي مقطوعة طويلة تمتد لما يقارب ثلاث ساعات من العزف، ويلزمها اثنتان من الأوركسترا لتأديتها، وتعد من أعظم ما أنجز باخ بجانب «التوكاتا والفوغا Toccata and Fugue».

مقطوعة كلاسيكية أخرى، هذه المرة في «كـافكا على الشاطئ» بعنوان «Concerto cello» لهايدن يستمع إليها هوشينو عند جلوسه بالمقهى، وهنا تحديدا، وعلى لسان النادل، يستمتع القارئ بدرس عن هايدن Haydn وموسيقاه المميزِ أسلوبُها:

كان هايدن لغزا. لا أحد يعرف حجم العواطف الجياشة التي كانت تعتمل داخله… قارنه كثر على نحو غير مستحب بباخ وموزار، من حيث موسيقاه وأسلوب حياته… لو أصخت السمع جيدا إلى موسيقاه فستلتقط حنينا خفيا إلى الذات العصرية. كصدى بعيد مليء بالتناقضات، هذا كله في موسيقى هايدن، ينبض بصمت. استمع لهذا الإيقاع .. إن به روحا مثابرة ذات حركة داخلية تغص بفضول شبابي سلس.

درس آخر في الموسيقى الكلاسيكية و ي العزف على البيانو تحديدا، يلقيه هذه المرة هاروكي على قرائه على لسان أوشيما. هذا «الشاب» الذي يهوى القراءة بشكل جنوني، وتحسبه عند الحديث معه كأنه موسوعة ناطقة، يحب الاستماع إلى سوناتات العازف النمساوي شوبرت Franz Schubert. يقول في معرض حديثه عنه:

أحب أن أسمع سوناتا شوبرت على البيانو بصوت عال وأنا أقود، أتعلم لماذا؟ .. لأن عزف شوبرت على البيانو بطريقة جيدة يعد من أصعب الأشياء في العالم. معظم هذه السوناتا بنغمة D الرئيسية، وهي صعبة فعلا، بعض عازفي البيانو يمكنهم عزف حركة أو ربما حركتين منها على نحو كامل.. لكن تظل تشعر معهم وكأن شيئا ما لا يزال ناقصا.. لأن السوناتا نفسها ناقصة.. الأعمال الناقصة في حد ذاتها تثير الإعجاب للأسباب نفسها، أو على الأقل تثير إعجاب أنواع معينة من الناس.. ولهذا أحب سماع شوبرت خلال القيادة. كما قلت لك لأن كل أداء لها قاصر، نقيصة فنية قاتمة تستفز وعيك، وتبقيك منتبها.. هذه السوناتا تجعلني أشعر بحدود قدرة البشر، أن هناك نوعا معينا من الكمال لا يمكن إدراكه سوى عبر التراكم غير المحدود للنقائص. وعن نفسي أجد هذا مشجعا.

شخصية أخرى اختار لها هاروكي ذوقا فنيا آخر مميزا، ألا وهو فن الأوبرا؛ جوني واكر الذي يستمتع بـ «قـتل القطط» يتحدث مع ناكاتا وهو يدندن مقطعا من أغنية «مي كيامانو ميمي mi chiamano mimi» للموسيقار الإيطالي بوتشيني Bocchini، ثم يحكي عنها قائلا:

لا يقف الأمر مع هاروكي عند حدود اختيار النمط الموسيقي الخاص بكل شخصية من شخصياته، ولا عند تلك «الحصص التعليمية» التي تتخلل تفاصيل نتاجاته الأدبية، بل يتعدى الأمر إلى استشفاف العلاقة الرابطة بين ماضي الشخصيات وحاضرهم وعلاقاتهم من خلال الموسيقى نفسها، وجعلها أداة في يد القارئ ينظر من خلالها إلى طباع الشخصيات وتحركاتهم داخل عوالم القصة، وهنا تكمن روعة وبراعة هذا الكاتب الكبير، ففي روايته الأشهر «كافكا على الشاطئ»، نجد هوشينو سائق الشاحنة الذي لم يستمع قط إلى موسيقى كلاسيكية، يلتقي صدفة «ناكاتا» الذي يرغب في توصيلة مجانية، ليجد نفسه وقد ترك كل شيء وراءه ليلحق بالعجوز حتى آخر درب يسلكه. داخل المقهى متأملا فيما آلت إليه حالته، يجد هوشينو سبب كل ذلك متجسدا أمامه من خلال معزوفة بيتهوفن «ثلاثية الأرشيدوق». في معرض حديثه مع النادل، يدور الحوار التالي:

عفوا .. ذكرني ما اسم هذه الموسيقى؟ ثلاثية الأرشيدوق لبيتهوفن مارشي دوق ؟ آرشي. أرشيدوق. أهداها بيتهوفن للأرشيدوق رودولف النمساوي. هذا ليس اسمها الرسمي، إنه بالأحرى الاسم الشائع للمقطوعة. كان رودولف ابن الإمبراطور ليوبولد الثاني. وكان موسيقيًا ماهرًا جدًا، درس البيانو ونظرية الموسيقى على يد بيتهوفن، وبدأ عندما كان في السادسة عشرة. واتخذ بيتهوفن مثالاً أعلى. ولم ُيكوّن شهرة لنفسه سواء كعازف بيانو أم كمؤلف موسيقي، لكنه كان يقف في الكواليس يمد يد المساعدة لبيتهوفن الذي لم يعرف كثيرًا كيف يشق طريقه في العالم. ولولا وجوده معه لكان بيتهوفن عانى كثيرا. هذه النوعية من البشر ضرورية في الحياة.
قطعا.

تأثير هاروكي على الموسيقى

أنا من محبي بوتشيني. موسيقاه كأنها، كيف أعبر عن هذا؟ العدو اللدود للزمن. محض متعة شعبية، سواء اتفقنا أم اختلفنا في تقويمها، لكنها لا تصدأ أبدا، إنجاز فني بحق.

إذا كان هاروكي قد ضمَّن أعماله كلها مقطوعات موسيقية حافلة بالسحر والحياة، فإنه هو الآخر قد أثر بشكل آخر في الموسيقى من خلال أعماله. فمن خلال رواية «يوميات طائر الزنبك The Wind-up Bird Chronicle»، استلهم الموسيقي الإيطالي فيورنتينو Massimo Fiorentino بعض مقطوعاته، حيث جعل لكل قسم من الرواية معزوفة خاصة، هذه المعزوفات كلها ضَمَّنها في مشروعه Aeroplain الذي دمج فيه عدة أنواع موسيقية وصدر سنة 2013.

إذن من خلال هذه الرحلة التي عشناها مع عوالم هذا الكاتب، نستطيع بسهولة ويسر بالغين أن نجزم بعبقريته وبراعته، والتي جعلت منه عازفا مُجِيدا، لكن على أوتار الكلمات والمعاني.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.