الخليفة القوي

خرج جيش الخلافة من بغداد إلى المشرق يقوده أمير المؤمنين هارون الرشيد، لم تمنعه شدة المرض من الخروج لقمع ثورة رافع بن الليث بنفسه، فالخليفة الذي بلغ المجد العباسي في عهده ذروة القوة والسلطان لن يسمح لأي ثائر مهما كان بنقض سلام دولته، ولكن لم تكن تلك هي أشد حسابات الخليفة المريض تعقيدًا.

فمنذ جعل ولاية عهده بين أبنائه على الترتيب لمحمد الأمين ثم لعبد الله المأمون ومن بعدهما القاسم المؤتمن، كان هارون دائم السؤال لنفسه هل اتخذ القرار الصائب؟ هل صح تفضيل الأمين على المأمون لمجرد أنه هاشمي الأب والأم في حين أن المأمون كانت أمه جارية برغم ما له من فضل السن والعقل على أخيه؟


العهد على جدران الكعبة

إن نيران الشك لم تفارق الخليفة يومًا وما انفكت تصور له وقوع الأسوأ بين الأخوين، ولعله لهذا رأى حبل النجاة في توثيق عهده على جدران البيت العتيق، فيكون أقوى وأحفظ للذمة، ولكن ما أضمره هارون في نفسه من الحيرة والشك أظهره ذلك العهد.

فهو كنوع من التعويض جعل للمأمون ولاية خراسان وخراجها مع وجود الأمين في الخلافة، فكأن صراع العرب والعجم الخفي على كل مناصب دولة بني العباس منذ قيامها كان يحرك خيوطه في بيت الخلافة، فضمن السلطة للهاشمي، وجعل حكم خراسان لمن كان أخواله من العجم[1]، فردد صداه الشاعر:

أراد به ليقطع عن بنيه … خلافهم ويبتذلوا الودادا فقد غرس العداوة غير آل … وأورث شمل ألفتهم بدادا ستجري من دمائهم بحور … زواخر لا يرون لها نفادا

الوصية الأخيرة

بوصول هارون إلى طوس شمال شرقي إيران قاصدًا مرو، كان الأجل أسرع إليه من بلوغها، ولكنه قبل وفاته أوصى بكل ما في القافلة من جنود وسلاح وذخائر للمأمون، وليس لخليفته الأمين، ويكأن الصراع في نفس الخليفة قد استمر وللحظة الأخيرة.

في تلك الأثناء كان المأمون قد سبق أباه إلى مرو، وأما الأمين فقد دس الرسائل خفية تحسبًا من وفاة أبيه وهو ما كان، ومن ثم صدر أمر الأمين بالرجوع بكل الجنود والأموال إلى بغداد على الخلاف من وصية الخليفة الراحل، ولما اعترض بعضهم واجههم الوزير الفضل بن الربيع بالسياسة وبقوله المشهور: «والله لا أدع مَلكًا حاضرًا لآخر لا أدري ما يكون من أمره».[2] وبهذا ظهرت بوادر الخلاف.


بين الأخوين أم بين الوزيرين؟

بالرغم من العهد للمأمون فإن ابن الربيع واصل المسير إلى بغداد حيث استقر الخليفة الجديد، وبوصول الوزير إلى العاصمة بدأ بالسعي بين الأخوين، فهو مدرك تمامًا لعواقب عودته ومخالفة عهد الرشيد. وعلى هذا استعرت حرب الخفاء بين الوزيرين الفضل بن الربيع في بغداد والفضل بن سهل في مرو، وكل منهما يوغر صدر صاحبه على أخيه من مجاهر بأن وضع خراسان جعلها مستقلة عن أمر الخليفة، والآخر يطلب لصاحبه السلطان الكامل على كل المشرق.

وبتطور الحوادث بدأ الخلاف بين الأخوين يظهر واضحًا في تصرف كل منهما، فبينما كان مجلس المأمون يغص بالشعراء والعلماء والمثقفين كان مجلس أخيه الخليفة في بغداد مكانًا لأهل الطرب والشراب واللهو، وبينما كان إنفاق المأمون على الرعية والعلماء والقادة، كان الأمين يبعثر المال على النصب التي أقامها على ضفاف النهر ليراها الناس ويتعجبوا من الفرق الشاسع بين الخليفة وولي عهده.


هل يكون الصراع؟

ولكن حال كهذا لم يكن ليدوم طويلًا وبدا أن الخلاف سيتجاوز ما هو أبعد من التصرفات، فأمْر الخليفة لأخيه بالتنازل عن بعض البلدان بين خراسان والعراق بدعوى أنها ليست بذات الأهمية له، وأن الدولة بحاجة إلى أموال خراجها[3] جعل رد المأمون عنيفًا بالرفض، فذلك من عهد الرشيد إليه، وهنا أُحرج الأمين وأصر بأن عهد أبيه ليس من معناه استقلال خراسان عن دولته، وبأنه الآمر الناهي على كل أجزائها.

وبالطبع رد المأمون بالتهديد بأن ذلك قد يؤدي إلى ما هو أعظم، وأن طاعته تخفي أمرًا آخر: «فلا تبعثني يا ابن أبي على مخالفتك، وأنا مذعن بطاعتك.. وارض بما حكم الله في أمرك أكن بالمكان الذي أنزلني الحق فيما بيني وبينك، والسلام».

وبتدبير وزيره ابن سهل أمر المأمون فكانت العيون والجواسيس على كل الطرق من العراق إلى خراسان ليقبضوا على كل من يشكون في ولائه أو عمله للأمين، فلا تنشتر الدعوة للخليفة في خراسان وتبقى على طاعة أميرها وبين يديه.

بهذا أيقن الأمين أن هيبته على المحك، وأنه لا بد لأحدهما من إزاحة الآخر، وكما قال لخاصته: «لا يجتمع فحلان في أجمة»[4]، ولكن العهد على جدران الكعبة يكبله والسياسة لا تعرف عهدًا غير المصلحة، فأمر الخليفة وزيره الفضل بن الربيع ليبعث بمن يأتي بذلك العهد سرًّا فمزقه وأحرقه، ثم أمر بالدعاء لابنه الصغير موسى من بعده على المنابر وسماه الناطق بالحق وخلع بذلك المأمون من عهده[5].


واشتعلت الحرب

وصلت الأخبار إلى خراسان بنقض العهد، ومن ثم بدأ الفضل بن سهل بالحصاد لما زرعه من أجل أميره، فجمع الجموع وصالح الخارجين حتى رافع بن الليث نفسه الذي أعلن طاعته للمأمون، وما إن اكتملت التعبئة حتى أخرج عليها قائده طاهر بن الحسين الخزاعي ووجهه صوب العراق.

وفي بغداد، حيث صارت القوة هي الحكم، اختار الأمين ووزيره الفضل بن الربيع واحدًا من أسوأ الولاة المشهورين بالبطش، هو علي بن عيسى بن ماهان، للخروج على رأس خمسين ألف مقاتل للقاء جيش طاهر، وبالرغم من سوء سيرته فإن ابن الربيع كان يرى أنه بذلك سيكون أشد على الخراسانية، ولم يدر بأنه قد زاد أهل خراسان عليه اشتعالًا وزادهم رغبة في هزيمة جيشه.

وكان طاهر في جنوده يخطط ويدبر ويختلط بهم ويحاورهم، أما ابن ماهان فكان مغرورًا بكثرة جيشه ومستهينًا بطاهر، فهو لم يسمع عنه من قبل في خضم القادة العسكريين، وكان قوله على الدوام: «ليس مثل طاهر بالذي يُستعد له».

وعند الري في العام 195 هـ كان اللقاء الأول بين جيشي الأمين والمأمون، وأثبت طاهر القائد الحديث أنه أكثر خبرة من خصمه المغرور، فوقعت الهزيمة على جيش الأمين وقُتل قائده ابن ماهان، ولكن حلقات ذلك الصراع لم تكن لتنتهي بتلك السرعة.


أشداء على أنفسهم

وصلت الأخبار إلى بغداد بالهزيمة، فلم يقصر الفضل بن الربيع وأخرج جيشًا آخر من عشرين ألف مقاتل يقودهم عبد الرحمن بن خبلة الأنباري، ليواجه طاهرًا، وفي همذان التقى الجمعان، وبعد اشتداد الحصار انتصر طاهر مرة أخرى وخرج عبد الرحمن ومن معه بالأمان هاربين بحياتهم.

وبالرغم من تلك الهزائم المتوالية لسبعين ألفًا من جيش الخلافة لم ييأس الأمين وأعد جيشًا آخر من أربعين ألفًا ليخضع خراسان وليخمد ثورة الفئة الناكثة كما أسماها، ويكأن موارد الخلافة الضخمة في الشرق والغرب أصبحت مسخرة بالكامل لحرب الأخوين، فالجيوش تتوالى والدماء تسيل أنهارًا لرغبة كل منهما ووزيره في الحكم.

وفي العام التالي كان الجيش العرمرم قد خرج من بغداد على رأسه قائدين هما أحمد بن مزيد وحميد بن قحطبة، ولما اقتربوا من معسكر طاهر استقبلهم بالجواسيس والعيون، ثم احتال على الوقيعة بينهم حتى وقع القتال بين القائدين بدلًا من مقاتلته، وكانت النتيجة أن ارتدوا جميعًا إلى العراق ونجح طاهر بالحيلة في ردهم وهو لم يرفع سيفًا واحدًا[6].

وبينما كان الأمين يتخبط في اختيار قادته وهزائمهم المتوالية، ولم تجد نصائح وزيره الفضل بن الربيع في اختيارهم واحدًا بعد الآخر، كان المأمون يكافئ وزيره الفضل بن سهل، فجعل له لقب «ذي الرياستين» ورفع من أمره وأجرى عليه راتبًا قدره ثلاثة ملايين درهم، وهو فوق ذلك يصطنع القادة، ويبعث دعاته في كل مكان حتى قدم عليه والي الحجاز داود بن عيسى، وأعلن الطاعة، وأن من عهد الرشيد في مكة أن ينصروا المظلوم من أولاده على من ظلمه، وأن الأمين بحرقه للعهد المعلق على الكعبة قد ارتكب ظلمًا مبينًا ولا بد من خلعه.

بذلك كسب المأمون الحجاز ومن ورائها اليمن، ثم أرسل للشام فاجتمعت معه، كل ذلك والأمين في سكرته ما زال يتخبط مع وزيره الفضل بن الربيع.


ثم كان الحصار

بالنصر المتتابع وصلت جيوش المأمون إلى بغداد، وتم حصار مدينة السلام بثلاثة جيوش دفعة واحدة بقيادة ثلاثة من أمهر القادة هم: طاهر بن الحسين، هرثمة بن أعين، وعبيد الله بن الوضاح، وبدا أنه لا رحمة في هذه الحرب.

فالجيوش المحاصرة ضربت المدينة بالمجانيق، وأرهقتها بالحصار حتى أفناها الجوع بعد نفاد الأقوات، ووصل الحال بالخليفة الأمين إلى بيع كل ما في خزائنه ليأتي له وللجنود بالطعام، ثم بمحاولة يائسة للمقاومة أخرج اللصوص وأصحاب الشر من السجون ليدافعوا عن المدينة، فكأنه طعنها في الظهر من حيث لا يدري، ورأت المدينة السلب والنهب فوق الحصار والجوع، والأمين برغم الظروف ثابت ويرد على البعض ممن أشاروا عليه باحتجاز ولدي المأمون رهينة عنده فيهدده بهما: «تدعوني إلى قتل ولدي، وسفك دماء أهل بيتي!، إن هذا لتخليط»[7]


هل يقتل الأخ أخاه؟

ولكن الجوع وحش كاسر، ولا مفر من الاستسلام بطول الحصار، وهكذا أرسل الأمين إلى هرثمة بن أعين برغبته في أن يسلم نفسه إليه، إلا أن طاهرًا أصر على أن يخرج الأمين من جهته، وأمام ذلك قرر الأمين بأن يدفع شارة الخليفة (القضيب والبردة النبوية) إلى طاهر ثم يسلم نفسه إلى هرثمة.

وفي النهر لما ركب الخليفة إلى هرثمة انقلب قاربه بفعل الحجارة والسهام التي قذفها عليهم جنود طاهر، وسبح الأمين حتى وصل الشاطئ، وهناك تلقاه الجنود الذين قتلوه فورًا بأمر طاهر، وهكذا قُتل محمد الأمين بن هارون الرشيد ودخلت جيوش المأمون بغداد واستقر له عرش يسبح في دم أخيه.

بتلك المأساة انتهت حرب الأخوين، تلك الحرب التي بدأت يوم فرَّق الرشيد بين أبنائه فجعل لكل منهما امتيازات تناطح الآخر، ثم استكملها حقد الوزيرين على بعضهما ورغبة كل منهما في السلطة، وأنهاها تفرق الإخوة على السلطان، فكأن الأمر دائمًا وأبدًا كما قالت العرب: المُلك عقيم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. في التاريخ العباسي والأندلسي – د. أحمد مختار العبادي
  2. نهاية الأرب في فنون الأدب – النويري
  3. محاضرات في تاريخ الدولة العباسية – الشيخ محمد الخضري بك
  4. الكامل في التاريخ – ابن الأثير
  5. البداية والنهاية – الحافظ بن كثير
  6. تاريخ الرسل والملوك – الطبري
  7. الكامل في التاريخ – ابن الأثير