وحده الشغف هو من يوقد فينا جمر الإبداع، ونور الدهشة، ويُرشدنا الطريق نحو جنون الأفكار، ويفعمنا بالرغبة في خوض غمار الحياة برمتها.

الشغف الذي نظل أعمارًا نبحث عن ثمة طريق يدلنا إليه، إذا ما ضللنا طريقه، أو ضلَّ هو طريقنا. هو الشيء الذي نسأل عنه أولاً في ديسمبر من كل عام ونحن نبحث عن لملمة شتات أنفسنا، وعن خواتيم الأشياء المتعلقة بنا.

في ديسمبر هذا العام تبدو الأمور ضبابية، عام ملخصه الحرب، بدايةً من حرب روسيا وأوكرانيا، ونهايةً بالعدوان الإسرائيلي على غزة، وفي خضم كل ذلك أعدنا ترتيب أولوياتنا.

فهل أصاب الضمور والوهن تلك الأشياء التي شَغفنا بها طيلة حياتنا، ككرة القدم، جراء تلك الأحداث؟

لم تعد تجدي الاستعارة نفعًا

ملعب تحده مدرجات وأسوار ويتوسطه ميدان مهيأ تمامًا لنحاكي نموذجًا مصغرًا للحرب. هكذا نشأت فكرة الرياضات المختلفة في طورها الأول، كبديل شرعي للحرب، كاستعاضة عن معركة دامية بين جيشين يتصارعان من أجل تحقيق الانتصار.

مارست كرة القدم منذ نشأتها هذا الدور على أتم وجه. كرة القدم هي طقس حربي مهذب، يكون فيه اللاعبون هم سيف المدينة أو الأمة. وفي الملعب أبراج ولافتات مثل القلاع، وكذلك ساحات عميقة وواسعة حول أرض الملعب. وفي الوسط يفصل خط أبيض بين الأراضي المتنازعة. وفي كل طرف يقف المرمى الذي سيقصف بالكرات الطائرة.

لم تنجُ كرة القدم من أهوال الحروب، بل عاشت سنوات عصيبة إبان الحروب الكبرى، فتوقف النشاط الرياضي خلال الحرب العالمية الأولى والثانية في أغلب بلدان العالم، والأنكى أنها استخدمت أحياناً كثيرة كجزء من مخططات الأنظمة السياسية في الحروب.

لكنها في غالب الأحيان لعبت دورها المنوطة به كبديل للحرب، ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية ثم العدوان الإسرائيلي على غزة في زمنٍ ظن فيه العالم أن زمن الحروب العسكرية قد ولى، ضُربت كرة القدم والرياضة في مقتل، وأصبحنا أمام تساؤل إن كانت دماء الأبرياء لا تزال تُراق؛ فما الهدف من الاستعارة بكرة القدم وغيرها عن الحرب؟

روسيا وأوكرانيا: في الحرب لا هوية سوى هوية الوجود

في كتابه «فكرة العدالة» يتحدث أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة «هارفرد» -«أمارتيا سن»- عن أن الهوية قد تكون مصدر للثراء والدفء، كما يمكن أن تكون مصدر للعنف والترويع، وفي الحالة الثانية يكمن السبب الرئيسي وراء النزاعات البشرية منذ فجر التاريخ.

الرياضة في العموم وكرة القدم في الخصوص هي البديل الشرعي للنزاع الهوياتي للبشر، مضمار تتصارع فيه القسمات التاريخية التي شكلت ذاكرة الأفراد والمجتمعات، من خلال تنافس رياضي شريف وعادل.

الحرب الروسية الأوكرانية -طبقًا لخبراء سياسيين- استندت على صراع الهوية ذاك، الذي تبرر روسيا بها تحركها العسكري، وتبرر به أوكرانيا أيضًا حقها في المقاومة.

خلفت الحرب الروسية على أوكرانيا أضراراً عدة، فلم تقتصر تبعاتها على المستويين السياسي والاقتصادي فقط، بل امتدت إلى الرياضة. حاول الجميع الضغط على روسيا من خلال الرياضة لتخفيف الأعباء عن أوكرانيا.

في غضون أيام قليلة تلت الحرب الروسية على أوكرانيا، ضاعت كل مجهودات الكيانات الدولية الحاكمة للرياضة عالمياً وعلى رأسها اللجنة الأولمبية الدولية والاتحادات الدولية للألعاب المختلفة، التي نادت لإبعاد السياسة عن الرياضة، وتتخذ مواقف متشددة مع كل من يخالف ذلك، مستغلاً حدثاً رياضياً في توجيه رسائل محددة أو لنصرة قضية سياسية أو قومية، إذ تحظر المادة 50 من الميثاق الأولمبي على الرياضيين اتخاذ موقف سياسي في مجال اللعب.

بخلاف العقوبات التي فُرضت على الجانب الروسي رياضيًا، مثل إقصاء المنتخب الروسي من المشاركة في مونديال قطر 2022، وغيرها من تعليق مشاركات روسيا في المسابقات الأولمبية، صُبغت كرة القدم وملاعبها بالسياسة وأخبار الحرب، التي تفوق حديثها على حديث كرة القدم لشهور.

فمنذ انطلاق الحرب الروسية على أوكرانيا كان هناك دعم كبير لكييف من خلال جميع الدوريات واللاعبين والأندية، فمثلاً خرج فريق برشلونة بلافتة كتب عليها أوقفوا الحرب، فضلاً عن وقوف الدوري الإنجليزي دقيقة حداد على ضحايا الحرب.

وحرص معظم اللاعبين على مساندة أوكرانيا من خلال الكلمات المؤثرة عبر حساباتهم على منصات وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، غلب خطاب الحرب خطاب كرة القدم للمرة الأولى منذ عقود، ثم تلى ذلك حديثنا من العامة عن الأزمات الاقتصادية التي سببتها الحرب، وهو ما تجلى أيضًا فوق نقاشات الكرة للمرة الأولى منذ أمد.

فالهوية وقت الحرب والأزمات الاقتصادية -كما يذكرها أمارتيا سن- هي هوية الحق في الحياة.

غزة تكشف زيف كرة القدم

الحدث الرئيسي الثاني الذي لم تكن حيواتنا جميعًا بمعزل عنه -بما فيها كرة القدم-، هو العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، العدوان الذي اتضح فيه للضرير زيف المجتمع الكروي والرياضي كله.

قامت الدنيا ولم تقعد وقت حرب روسيا وأوكرانيا، تم عزل روسيا رياضيًا تقريبًا من قبل المنظمات والاتحادات الرياضية، لكن هذه الكيانات لم تتحرك ولو بعقوبات خحولة على دولة الاحتلال.

باستثناء الموقف الحيادي للاتحاد الإنكليزي لكرة القدم وبعض الأندية الكبرى التي فضلت عدم المخاطرة بشعبيتها الجارفة في المنطقة العربية والشرق الأوسط عمومًا، فمن الواضح أن عالم كرة القدم، وبالأخص الاتحادات القارية والمؤسسات الدولية التي تدير وتضع معايير وقوانين اللعبة، لا تنوي أو حتى لديها مجرد فكرة عابرة لفرض ولو عقوبات خجولة على كرة القدم في دولة الاحتلال.

يمكن تفسير ذلك بسبب نفوذ الآلة الإعلامية الصهيونية، التي تُجبر صحيفة بحجم «واشنطن بوست» على تعديل عنوان مذبحة القرن في مستشفى المعمداني 3 مرات، حتى يفهم القارئ المشحون أن المذبحة حدثت بسبب انفجار مجهول، بعيداً عن براءة إسرائيل، لكن ما يصعب بحق هضمه أو تفسيره، هي تلك الازدواجية في التعامل بين الرياضيين والمشاهير الداعمين للصهاينة والعرب وكل من يحاول إظهار تعاطفه الإنساني مع عمليات الإبادة التي يتعرض لها الأبرياء في قطاع غزة، إلى درجة أن رفع العلم الفلسطيني بات يُصنف كجريمة من نوعية دعم الإرهاب ومعاداة السامية.

بالرغم من كل هذا التعتيم ضجت ملاعب كرة القدم ومواقع التواصل الاجتماعي بالحديث عن فلسطين وعن المجازر التي يرتكبها الاحتلال في غزة، سواء من الرياضيين أنفسهم وحتى الجماهير في المدرجات وخارج الملاعب.

لم تكن كرة القدم طيلة تاريخها بمعزل عن الصراعات السياسية، لكنه عندما يتعلق الأمر بقتل الأطفال وقصف المستشفيات يستعصي علينا مشاهدة مباريات كرة القدم، في وقت الحرب نتخلى عن صراعات هوايتنا المصطنعة إلى صراع هوياتنا الحقيقية، وهو ما قد يجيب سؤالنا بخوص شغفنا تجاه كرة القدم.

لكننا بالرغم من كل ذلك وحتى وإن قل هذا الشغف تجاه لعبتنا المفضلة، فإن المسؤولية تحتم علينا جميعًا أن نتخذ من منابر اللعبة صوتًا لدعم الأبرياء، وإيصال صوت المستضعفين، على أمل أن يأتي ديسمبر العام القادم، وقد زال المستبدون في كل بقاع الأرض، وحل نور السلام على الجميع، وعاد شغفنا تجاه كل ما نحب.