قبل عشرين عامًا من الآن بدأت القوات الأمريكية اجتياح العراق، فقال الجنرال الأمريكي ديفيد بتريوس عبارةً أصبحت هي الكلمات الأشهر في تاريخ حرب العراق، وما بعدها: أخبرني كيف سينتهي هذا؟

ويمكننا اقتباس كلماته على الحرب التي كان يتوقع الجميع أن تستمر لبضعة أيام فقط، لكنها دخلت حاليًّا شهرها السادس. ازداد تعقد الوضع في ميدان القتال، لكن مع طول المدة أصبح ما خارج الميدان مهمًّا أيضًا. فالشتاء قادم، وأوروبا دائمًا ما خافت من الشتاء. واتسعت الفجوة بين تصريحات القادة الغربيين عن الحرب وبين مواقفهم في الواقع. فبعدما كانت أوروبا تريد استعادة سيادة أوكرانيا، والانتصار على قوى الظلام، كما صرَّح الرئيس الأمريكي، باتت مشاعر القلق والذعر هي السائدة بسبب تداعيات الحرب على أسعار الغذاء والطاقة.

ومع رفض قادة الناتو المشاركة المباشرة في الحرب ضد روسيا، وظهور بعض التململ من تجاوز الدعم العسكري لأوكرانيا الحد المسموح، فيخشى الأوكرانيون أيضًا تلقي طعنة من الأصدقاء عند حلول الشتاء. فتحوَّلت حرب أوكرانيا لحرب استنزاف طويلة الأمد، يمكن أن تستمر لسنوات. فالمساعدات السخية التي قدمتها أوروبا لأوكرانيا حالت دون تلقيها هزيمة مهينة أمام روسيا، لكنها في الوقت نفسه ليست كافية لهزيمة روسيا.

هذا الاستنزاف لن يكون لأوكرانيا وحدها، بل للغرب بالكامل من خلفها. سيبدأ من الصعيد السياسي، فالأزمة الاقتصادية التي خلقتها الحرب تستغلها الأحزاب الشعبوية لجذب الناخبين. كما أن استطلاعات الرأي في ألمانيا تشير إلى أن 50% من الألمان يؤيدون تنازل أوكرانيا عن بعض الأقاليم لصالح روسيا من أجل إنهاء الحرب.

يبدو أن الألمان يشعرون بما يشعر به قادتهم. فوزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، صرَّحت منذ أيام بأن بلادها تعاني نقصًا في الأسلحة. الوزيرة قالت بأنه على مدى الأسابيع والشهور الماضية كانت ألمانيا تقترب من الحد الحساس لمخزون الأسلحة الذي قد يهدد بلادها حال تعرضها لهجوم. وأردفت أن بلادها تريد دعم أوكرانيا بكل ما يوجد في الترسانة الألمانية، لكن في الوقت الراهن تعاني ألمانيا من نقص حاد في الأسلحة قد يعيق قدرتها على الدفاع عن نفسها.

الشتاء الأوروبي قادم

الوزيرة هربت من التناقض في تصريحاتها وتصريحات المستشار الألماني الذي قال بأن بلاده ستدعم أوكرانيا لسنوات إذا لزم الأمر، بأن أكدت أن السلطات الألمانية أسست صندوقًا خاصًّا للقوات المسلحة الأوكرانية بقيمة 100 مليار يورو، لذا فإن المصانع العسكرية سوف تُنتج مواد وأسلحة جديدة مخصصة لأوكرانيا فقط. لكن ألمانيا لن تُقدم الدعم من ترسانتها الحالية بعد ذلك. خصوصًا أن القيادة الألمانية تتوقع استمرار الحرب طوال عام 2023، ما يعني ضرورة توفير دعم عسكري في الشتاء والخريف، وهو ما سيقضي على الترسانة الألمانية إذا استمر توريد الأسلحة منها.

حكومة كييف نفسها تشعر بالقلق من الملل الغربي. زيلنسكي، الرئيس الأوكراني، قال في تصريحات تلفزيونية إنه يتفهم أن جميع الدول لديها مشاكلها، وأن تكاليف المعيشة المرتفعة تعتصر المواطنين. لكنه أضاف أنه بمجرد أن يشعر العالم بالسأم من هذه المشكلة، فإنها ستصبح تهديدًا كبيرًا جدًّا.

بايدن تلقف المخاوف الأوكرانية، وأعلن أنه ينوي إرسال حزمة مساعدات ضخمة إلى أوكرانيا تصل إلى 3 مليارات دولار. تأتي تلك الحزمة بعد حزمة سابقة بقيمة 775 مليون دولار، تضمنت منظومات صاروخية وصواريخ مضادة للدروع وآليات إزالة الألغام. لكن رغم السخاء الأمريكي، فإن الإدارة الأمريكية تشك في استمراره. جون كيربي، منسق الاتصالات الاستراتيجية بمجلس الأمن القومي، يتساءل حول التزام بايدن الشخصي تجاه القضية. ويقول بأن الصراع من أجل الديمقراطية قد لا يستحق كل هذا الدعم الكبير لجبهة واحدة.

كما أن وسائل الإعلام الأمريكية التي تهيمن عليها أخبار الحرب الروسية الأوكرانية، بدأت نغمتها تنتقل من الحديث عن وحشية الحرب، وعن الرئيس الروسي الذي يريد وضع خريطة جديدة للعالم، إلى الحديث عن تداعيات تلك الحرب على المواطن الأمريكي، وهل يمكن توجيه الدعم الكبير الذاهب لأوكرانيا، أو بعض منه، لبرامج إعانة تساعد المواطن على تحمل تكاليف المعيشة.

البريطانيون لا يريدون اللاجئ الأوكراني

الأمين العام للناتو، ينس ستولتيبرج، حذَّر في قمة عبر الإنترنت حضرها زيلنسكي من حرب طويلة الأمد. الأمين العام قال بأن الشتاء قادم وسيكون الوضع صعبًا. وأن الحرب في وضعها الحالي ليست كما تخيَّلها الناتو في البداية، فهى حرب استنزاف طاحنة، مما يخلق الحاجة إلى التزام غربي طويل الأمد. كلام ينس يؤكد أن الحل الدبلوماسي لم يعد مطروحًا منذ وقت طويل، ففقد الثقة بين الجانبين بلغ ذروته، ولن تضحي روسيا بمكتسباتها على الأرض من أجل وعد شفهي أو مكتوب.

الحرب طويلة الأمد، حرب الوكالة بين الغرب وروسيا، ستؤدي إلى زيادة التكلفة التي يجب أن يدفعها قادة التحالف لدعم أوكرانيا. ولا يوجد ضمانة أن البرلمانات ستوافق قادتها. فمثلًا في الولايات المتحدة يُحتمل بنسبة كبيرة أن تسفر الانتخابات النصفية في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم عن مجلس نواب جمهوري الهوى. هذا المجلس المحتمل لن يكون متحمسًا لإرسال عشرات المليارات تباعًا لأوكرانيا كما يفعل الديمقراطيون حاليًّا.

بريطانيا أمدت أوكرانيا طوال الأشهر الستة الماضية بدعم عسكري بلغ قرابة 3 مليارات دولار، لتكون ثاني أكبر مانح لأوكرانيا بعد الولايات المتحدة. لكن كان ذلك في ظل زخم شعبي داعم لمساعدة أوكرانيا. أما حاليًّا مع زيادة تكاليف المعيشة في بريطانيا بمعدلات أعلى من باقي دول أوروبا حدث تغيير هائل في الموقف الشعبي من دعم أوكرانيا. التغير الشعبي يأتي كخطوة استباقية لكبح جماح ليزا توريس، المرشحة بقوة لتحل محل جونسون، كونها أشد تطرفًا في مواقفها ضد روسيا، ويتوقع أنها ستوافق على إمداد أوكرانيا بكل شيء يساعد في إذلال روسيا.

مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية كانت نسبة البريطانيين الذين يؤيدون فرض عقوبات على موسكو حتى لو أدى ذلك إلى ارتفاع تكلفة المعيشة تبلغ 48%، في مقابل 38% يعارضون مزيدًا من العقوبات. لكن في الشهر الماضي انقلبت النسبة تمامًا، فبات نصف البريطانيين معارضين لفرض عقوبات إضافية على روسيا. كما أن ربع الأسر التي تقدمت للمشاركة في استضافة أسر اللاجئين الأوكرانيين منذ 6 أشهر ترغب الآن في الانسحاب.

روسيا تتحدى الملل الأوروبي

القوات المسلحة البريطانية تشارك نظيرتها الألمانية القلق أيضًا، لا من مجرد ارتفاع تكاليف المعيشة، لكن من جاهزية البلاد للدفاع عن نفسها. وأن الاستمرار في نقل أسلحة ثقيلة لأوكرانيا ليس أمرًا سهلًا. وسوف يؤثر على التزامات البلاد الأخرى تجاه باقي مهمات وخطط حلف شمال الأطلسي.

وزيرة الدفاع الألمانية، كريستين لامبرخت، كانت أكثرالمتحدثين جرأة في هذا الصدد. فقالت إنها ستقلل من الأسلحة التي سوف ترسلها لأوكرانيا بعد تخطي أوكرانيا الحد المسموح به. وقالت إنه لم يعد أمامها سوى مجال محدود وضئيل للغاية لإرسال أسلحة من الترسانة الألمانية لأوكرانيا. يأتي هذا التصريح بعد ثاني صفقة تسليم دائري تقوم بها ألمانيا لصالح أوكرانيا.

التسليم الدائري يعني أن تقوم دولة ما بتقديم أسلحة سوفيتية الصنع يعرف الأوكرانيون كيفية استخدامها في مقابل أن يسلم الأوروبيون تلك الدول أسلحة حديثة. فحصلت التشيك على 14 دبابة قتال ألمانية حديثة الطراز كتعويض عن دبابات تي 72 سوفيتية التصميم والصنع التي سلَّمتها لأوكرانيا. كذلك سلَّمت ألمانيا أسلحة حديثة لسلوفاكيا مقابل منح الأخيرة أسلحة سوفيتية لأوكرانيا.

وكما أنهكت روسيا ألمانيا، فقد نجحت روسيا في جعل الولايات المتحدة تنفق 9 مليارات دولار حتى الآن. وبولندا أنفقت مليار دولار، وبريطانيا 775 مليون دولار. ودول الاتحاد الأوروبي مجتمعة قدمت 3.5 مليار دولار. وقدم بنك الاستثمار الأوروبي 2.5 مليار دولار، و1.5 مليار دولار من مؤسسات مختلفة من الاتحاد الأوروبي. كل تلك المليارات لم تكن في حسبان الجهات المانحة أنها ستنفقها في حرب بعيدة ومفاجئة.

روسيا تبدو سعيدة للغاية بهذا الشقاق الأوروبي، ربما كانت تراهن عليه منذ البداية. فبعد الخروج المهين من أفغانستان كانت تدرك أن قادة أوروبا لن يجازفوا بالدخول المباشر في صراع طويل الأمد مع أي قوة خارجية، خصوصًا روسيا. لكن أيضًا يتباهى قادة الدفاع الروس بالإنهاك الضخم الذي سببوه لترسانات أوروبا العسكرية. وأن الحديث الأوروبي لم يعد عن فائض هائل من الأسلحة، أو إمكانيات متقدمة للهجوم على دولة أخرى، بل بات الحديث حول الرغبة في الاحتفاظ بالحد الأدنى من قدرات الدفاع عن النفس. ما يطرح سؤالًا بديهيًّا ومشروعًا: أخبرني كيف سينتهي هذا؟