إن كل ما نسمعه هو رأي وليس واقعًا، وكل ما نراه وجهة نظر وليس حقيقة.
قول مأثور لـ«ماركوس أوريليوس»، أحد الأباطرة الرومان.

الحياة في الغالب مجموعة من الآراء. بين آراء الناس بك وبين آرائك أنت شخصيًا بالناس، يتكوّن واقع نحياه جميعًا مليء برؤى متباينة.

تلك الدباجة المفتاحية – الضرورية – لو وُضعت أمام أي متابع للعبة خلال الأيام القليلة الماضية، لسُرعان ما اكتشف من تلقاء نفسه أن جل الحديث القادم سيدور حول الألماني «يورجن كلوب»، ربما يمكن أن نظن كذلك أن كلمات مثل رأي وآراءـ، وما شابه، قد اقترن خلال هذه الأيام باسم الألماني سواء في أغلب الأحاديث الشخصية بين المتابعين أو على محركات البحث أيضًا.

الأخير ضرب آراء عشاقه في مقتل، بعدما أبدى تنازلًا ظاهرًا، ولا يقبل أي شكوك، عن كل معتقداته القديمة حول الكرة الثورية ومكافحة قوى المال. فما هو معروف عنه منذ بدايته كمدرب ماينز، أنه أحد المناهضين لرأسمالية كرة القدم والصرف المبالغ فيه في أسواق الانتقالات، بل يمكن الذهاب بعيدًا والتأكيد على أن سمعته في الأوساط الرياضية قد نشأت على هذا الأساس. لكن الأكثر تأكيدًا أن كل ذلك قد ضُرب به عرض الحائط بمجرد إعلان فريقه ضم الحارس البرازيلي «أليسون بيكر» قادمًا من العاصمة الإيطالية، روما، من أجل كسر الرقم القياسي كأغلى حارس في تاريخ اللعبة بما يعادل 84 مليون دولار أمريكي، ليتبع ذلك انضمام المدافع الهولندي فان دايك مقابل 84.5 مليون يورو، ليكن بدوره أغلى مدافع في التاريخ.

فكيف تحول ذلك الثائر الذي لطالما شبهه معجبوه بـ«تشي جيفارا» إلى صورته الحالية كأحد أبرز المدافعين عن سلطة ونفوذ المال؟


التصريح الذي قتل صاحبه

في ختام الموسم المنصرم، حقق ليفربول مفاجأة كبيرة بإقصاء مانشستر سيتي ومدربه «جوارديولا» من دوري أبطال أوروبا، والمفاجأة لم تكمن فعليًا في الإقصاء قدر كونها في الأداء والطريقة التي تم بها ذلك. أثناء الاحتفال بذلك الحدث كان المدرب الألماني في معزل عن الجميع يتلقى التهاني – من نفسه قبل حتى تلقيها من الآخرين – بفوزه في الرهان الذي خاضه عن الإنجليزي الشاب «ترينت ألكسندر أرنولد».

أظهر الأخير مستويات لا ترتقِ لجيدة في أغلب فترات الموسم وهو ما دفع الجميع لنقد كلوب لاختياره له، لكنه في النهاية انضم لقائمة طويلة من اللاعبين تطوروا على يد لاعب ومدرب ماينز السابق. فسواء كان الحديث عن ماينز أو دورتموند أو حتى ليفربول، فإنه دائمًا كان يميل لتطوير اللاعبين الشباب ويعتمد على صفقات ليست ذات صيت رنان في البداية حتى يبدأ هو في تقديمها بشكل مغاير. ومن المنطقي ألا يكون ذلك هو محور النقد الحقيقي بعد الصرف الذي قام به ليفربول مؤخرًا، لأنه لا دليل واضحًا على توقف عمل من ذلك النوع ومن الوارد جدًا استمراره في المحاربة حول المواهب الشابة، ولكن كانت تصريحاته حول ذلك هي محط ذلك النقد.

المشكلة الحقيقة لا تكمن في صفقتين «أليسون» و«فان دايك» فقط، لأنه وحتى كتابة هذه السطور، فإن فريق ليفربول هو ثاني أكثر الفرق إنفاقًا على الصفقات للموسم الجاري، حيث قام بصرف 200 مليون باوند، وهو رقم ضخم جدًا خصوصًا بربطه بشخص كـ«كلوب» وبفريق مثل ليفربول. ولأن موقف يورجن من التعاقدات كان دائمًا واضحًا، وهو شيء من الثورية كان مصدر فخرًا لمحبيه، فهو لم يتأخر يومًا في توجيه نقد لاذع للأندية التي تقوم بدفع مئات الملايين لاستقطاب أسماء كبيرة، فبات ذلك محط سخرية من كارهيه الآن.

حيث أكد ذات مرة أن تلك الفرق التي تقوم بدفع 100 مليون في لاعب ما وارد جدًا إصابته، سيتحول الأمر برمته إلى حفلة بكاء إن تمت تلك الإصابة، ووجدت هذه الكلمات وقعًا حسنًا عند أغلب الجماهير التي تكره سطوة المال في اللعبة عمومًا، لكن لم يكن يُدرك أحد حينذاك أنها ستكون الكلمات التي قتلت صاحبها، كما كان الوضع مع الشاعر «أبو الطيب المتنبي». فلو فرضنا أن للأخير فرصة للعدول عن أحد أشعاره، لتنازل بثقة عن أحد أشهرها القائل فيه: «الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم» لما ذُكر كثيرًا عن أنها كانت أحد أسباب مقتله فيما بعد. الصعوبة في وضع كلوب أنه سيعاني التنازل عن تصريحاته، لكثرتها.

يمكن للأندية الأخرى الخروج وإنفاق الأموال لجذب كبار اللاعبين. أريد أن أفعل ذلك بشكل مختلف. بل سأفعل ذلك بشكل مختلف إذا تمكنت من إنفاق أموال كتلك.
تصريح سابق ليورجن كلوب

كان لزامًا على كلوب الخروج بتصريح جديد يَجُب ما قبله، وبصراحة وبوضوح أعلن كلوب أنه فعلًا غيّر رأيه فيما يخص الصفقات، تحول كهذا كان لابد من التعامل معه بشفافية أكثر من أي وقت سبق، وهو ما نجح فيه المدير الفني للريدز. حتى بالرغم من وضوح السبب لأي متابع عادي، لكن كان يجب أن تخرج الكلمات منه شخصيًا بأنه تنازل عن جزء كبير من مبادئه من أجل المضي قُدمًا نحو المجد والبطولات، فلم يَعُد طبيعيًا أن ينافس فرق تملك قيمة سوقية قد تصل إلى مليار باوند، كمانشستر سيتي «961.65 مليون باوند»، بفريق كانت قيمته فقط 445.5 مليون باوند حتى نهاية موسم 17/18. في حين ارتفعت تلك القيمة حاليًا إلى 821.25 مليون باوند فهنا يمكن وضع المقارنة بينهم بتكافؤ فرص.


بطل الصفقات الذي يعيش في الظل

قيم الصفقات التي أشرف مايكل إدواردز المدير الرياضي لليفربول على إنهائها

لكن يظل وراء تغيُّر كلوب بهذا الشكل العديد من الأشخاص والأشياء، فمن غير الطبيعي أبدًا أن يستيقظ أحدهم بمبادئ ورؤى مختلفة تمامًا.

عليك في البداية أن تعرف عن كلوب أن نظام عمله يختلف بالمرة عن أمثلة كـ«أليكس فيرجسون» و«أرسن فينجر»، هذين الاسمين بالتحديد يهويان التحكم في كل تفاصيل النادي، حتى أن السير كان يفضل اختيار عاملي غرف الملابس وعمال النظافة ومن يقوم بتقديم المشروبات للاعبين، ويشرف كذلك على تغييرهم بين حين وآخر. أما الألماني فهو يفضل العمل ضمن طاقم كبير يكنو هو أحد أجزائه الهامة لكن لا يمكنك أبدًا وضعه على قمة ذلك الهرم الإداري.

ولعلك سمعت ذات حين اسم «مايكل إدواردز» المدير الرياضي لنادي ليفربول. ذلك الشاب الذي لا يظهر وجهه كثيرًا في أكثر الأثناء والذي يُعتبر هو المُحرك الرئيسي لنهضة الفريق الأحمر في مواسم التعاقدات الأخيرة.

تم تعيين «مايكل» في نوفمبر من عام 2016، كأول مدير رياضي في تاريخ الريدز، قبل ذلك كان يعمل في النادي منذ عام 2011، بعد أن أنهى عمل استمر سنتين في توتنهام. البالغ من العمر 38 كان قد سبق له اللعب بشكلٍ احترافي في نادي بيتربوروه يونايتد الإنجليزي، لكنها كانت مسيرة قصيرة جدًا انتهت قبل حتى أن تبدأ. من بعدها سلك الجانب الإداري وحصل على عديد الشهادات في الإدارة وقرر التخصص في مجال التحليل الفني للعبة.

وبعد تجارب في بورتسموث وتوتنهام،بدأ الإنجليزي الشاب في مزاولة عمله داخل ليفربول في فترة تولي الفرنسي «داميان كومولي» منصب مدير كرة القدم بالنادي. عمل في البداية كرئيس لقسم التحليل الفني للأداء، وقرر في البداية أن يعيد النظر في طريقة تحليل إدارة ليفربول للاعبيهم، وساعدت التعديلات التي أدخلها كل من «كيني دالجيش» و«براندن رودجرز» في رؤية اللاعبين بشكل مغاير، لكن العلاقات بينه وبين «رودجرز» لم تكن على ما يرام بسبب قناعات الأخير بضرورة تحكمه هو في كل كبيرة وصغيرة داخل النادي. إلى أن وصل الألماني كلوب إلى «ميلوود» وبدأت صلاحيات «إدواردز» في الازدياد.

الآن يملك مهمة بثلاث أذرع، في البداية هو المشرف على فريق كشافة ليفربول سواء كان للفريق الأول أو للأكاديمية، ثم لم يجعله ذلك يستغني عن منصبه كرئيس لقسم التحليل الفني لأداء اللاعبين حيث قدم في ذلك الجانب عملًا كبيرًا يُكمل فيه بنسق ممتاز، الجميع يربط علمه في ذلك الجانب بفيلم «Moneyball» والذي كان يعتمد بطله على الإحصائيات والأرقام فقط في تقييم اللاعبين وخصوصًا الصفقات الجديدة، مما يجعل هاتين المهمتين متصلتين بشكلٍ كبير. وأخيرًا فقد دشن قسم جديد بالنادي يشرف عليه بنفسه أيضًا، وهو قسم أبحاث متكامل فيما يخص كل شئون النادي.

ذلك الشاب، وبالرغم من صغر سنه، إلى أنه كان له دور كبير في جلب كلوب أصلًا إلى النادي، ومن بعده أشرف على انتهاء صفقات عدة أهمها محمد صلاح وفان دايك وفابينهو وشاكيري وحتى أليسون بيكر.


لم يكن أبدًا «عرض الرجل الواحد»

يكتمل فريق عمل كلوب الإداري حول الصفقات الأخيرة بالثلاثي «مايك جوردن»، «ديف فالوز» و«جون أكتبرج». الأخير هو صاحب الضربة الكبيرة الأخيرة والتي تعتبر القشة التي قسمت ظهر البعير. يعتبر الهولندي هو المحرك الرئيسي لصفقات حراس المرمى، وليس فقط تدريبهم،ويعتبر هو أحد الفنيين القلائل الذي يجمع بين المنصب الإداري والفني من بين رفقاء مدرب الريدز. يقوم عمله على تحليل لأداء حراس المرمى عن طريق الفيديو. يظن البعض أنه قاعدة بيانات متحركة تمتلك معلومات عن كل حراس المرمى حول العالم، وبالتأكيد كان صاحب القرار الأبرز في ضم الحارس البرازيلي.

أما «فالوز» فهو كبير الكشافين النادي، والذي يُعد صاحب الفضل الأول في جلب محمد صلاح لليفربول.

تقوم مهمته على تحضير التقارير عن كل الأهداف المحتملة من اللاعبين والمحددة من قبل فريق الكشافة، ومن ثم تقديمها لكلوب لاتخاذ القرار النهائي بشأنها. كلوب نفسه لم يكن مقتنعًا بضم صلاح بقوة، لكنه اعترف مؤخرًا بأن «ديف» هم من أقنعوه بأنه هو الاسم المطلوب فعلًا وأنه قادر على أداء المهمة المرجوة.

أما الأخير، فهو مندوب ملاك النادي داخل إنجلترا، وحلقة الوصل بين الملاك في أمريكا وبين كل ما يجري داخل النادي. كان لـ«مايك جوردن»الفضل في إعادة المفاوضات بين الريدز وساوثهامبتون حول فان دايك بعد تعثرها. هو مستثمر له اسمه وله باع كبير في مجال التجارة الرياضية، وبالتالي هو محل ثقة أغلب ملاك الأندية الأخرى ومجرد تدخله في أي صفقة يعني انتهاءها بشكل كبير.


الخائن العميل أم رمز الصمود؟

مايكل إدواردز، ليفربول، يورجن كلوب، أليسون، فان دايك،
مايكل إدواردز، ليفربول، يورجن كلوب، أليسون، فان دايك،
مهمتي هي أن ينجح هذا النادي قدر المستطاع، من غير الممكن أن أقف أمام أي تقدم للأمام وأقول: لا، هذا عكس معتقداتي. لن أدفع هذ الأموال الطائلة، ببساطة لأنه إن لم يُتوج عملي بالنجاح والبطولات في النهاية، فإن كل شيء يساوي صفرًا.

إن السؤال الذي يُعنون كل ما كُتب سيظل دائمًا يدور في عقول متابعين اللعبة، وبالرغم من قوة حجة الفريقين: الناقد لأفعال كلوب الأخيرة والمبرر لها، إلا أن الحقيقة البارزة من رأيّ أن كلوب فعليًا لم يتغير. منذ لحظته الأولى في عالم التدريب وشأنه شأن البقية، يسعى للحصول على لاعبين بجودة معينة من أجل تقديم العمل الذي يطلبه بكفاءة. كان يمكن أن يتم ذلك قديمًا عن طريق تكلفة بسيطة، لكن الأمر الآن تحول تمامًا وباتت الـ70 مليونًا تكلفة بسيطة إذا ما قورنت بالـ200.

في النهاية فسواء كان أليسون أو فان دايك، فكلاهما لم يكونا بالأسماء التي يتوقع أن تكون ما بقيت عليه الآن، تم كل ذلك بين ليلة وضحاها، والواقع يثبت أن كلوب نفسه لم يسعَ ليكونا الأغلى في التاريخ في مواقعهما، فقط عمل بُني على أساس تقني وإحصائي وصل بالأمر إلى هذه الأرقام.