خلال منافسات بطولة الأمم الأوروبية الأخيرة «يورو»، والتي أقيمت في فرنسا، ملأت أخبار الاشتباكات بين جماهير المنتخبات المشاركة، وبينها وبين الشرطة في فرنسا، كل الصحف العالمية ووكالات الأنباء، في ظاهرة عنف ليست بالجديدة ولا المستحدثة على هذه اللعبة على الإطلاق، في الغالب كل المناسبات الكروية الكبيرة التي تجذب عددًا من الجماهير كبيرًا تشهد مناوشات عنيفة مثل تلك التي حدثت. ليظل السؤال عالقًا بشكلٍ دائم، ما الذي يدفع هؤلاء لفعل ذلك؟ أو ما الذي يمكن أن نصل له بسبب هذا العنف؟


الكرة ليست دائمًا في الملعب

الجماهير الرياضية، وخاصة في نطاق كرة القدم، حولت كل مظاهر اللعبة إلى متاع لممارسة التعصب غير المقتصر على رغبة مُحددة، فإما عرقي وإما وطني وإما حتى سياسي، وفي بعض الأحيان ديني وعنصري، والشواهد التاريخية على تلك المُسلمات تملأ الجنبات البحثية بشكلٍ لا يُمكن إغفاله، ولذلك، يُصبح من غير الطبيعي فصل تلك الأسباب النزاعية عن ماهية اللعبة، أو بتعبيرٍ أدق، لا يمكن لأي باحث أن يستبعد جانب البحث الكروي والتأثير الخاص باللعبة عن متن ما يبحث، لأنه جزء، لا يتجزأ بالمرة، من بقية الأمور، لا سيما إن كان البحث يخص العوامل المختلفة التي قد تؤدي إلى تحول في خرائط العالم.

الأدلة البحثية التاريخية تؤكد أن العنف الكروي في أوروبا لم ينخفض بعض الشيء متحركًا ناحية اللعب النظيف –مصطلح دارج- إلا في الفترة بين الحربين العالميتين والعقد الذي خلف الحرب العالمية الثانية، وبقليل من الإدراك والملاحظة يمكن التفطن إلى أن ذلك الهدوء يعود للتشبع الذي طال الحاجة للعنف عند البشر، والذي قد مُورِس بشكلٍ لا يمكن وصفه خلال تلك الفترات السابق ذكرها؛ وعليه فإن الفترات الأخيرة لم تشهد عنفًا أو نتائج له مؤثرة، كالتي شهدها العالم في القرون الماضية.

ربما كان ذلك العنف لن يصبح موضع حديث أو بحث أحد لطالما كان تأثيره لا يتعدى حواجز الملاعب أو حتى النقاشات المحتدمة، والتي قد تصل لاشتباكات في كثير من الأحيان. لكن عبر تاريخ من الانقسامات والحروب والنزاعات والانفصالات بين الدول، ملكت كرة القدم نصيبًا كبيرًا جدًا من هذا. هنالك من تمكن من توجيه تلك الجماعات الجماهيرية العنيفة أو الراغبة بشدة في التشجيع بشكلٍ أكثر تطرف، والتي قد عرفت مؤخرًا باسم «أولتراس» أو بالمعنى الإنجليزي «هوليجانز»، إلى جوانب يمكن التأثير بها في حياة العديد من الأشخاص الآخرين، بل بالأحرى تغيير خرائط دول وتاريخ دولٍ أخرى.


صربيا وكرواتيا، الجماهير الأكثر تدخلًا

أثناء قيام دولة يوغسلافيا في القرون الماضية، كان أحد أقوى ديربياتها هو اللقاء الذي يجمع دينامو زغرب –من كرواتيا- وريد ستار بلغراد –من صربيا- كلا الدولتين كان تابعًا للحكم اليوغسلافي أثناء سيادة الشيوعية في أوروبا الشرقية. تحول بعد ذلك الأمر إلى أكثر من مباراة في كرة القدم، أمرٌ أكبر من أن يُحْصَر في معركة فوق بساطٍ أخضر.

سقط الحكم الشيوعي عن شرق أوروبا في عام 1989، بعد ذلك بعامٍ واحد احتضنت كرواتيا أول انتخابات متعددة الأحزاب بعد 50 عامًا من السيادة للأحزاب الشيوعية، وبالرغم من التنوع الذي طال هذه الانتخابات فإن أغلبية المشاركين كانوا من الأحزاب المطالبة بانفصال كرواتيا عن اتحاد دول يوغسلافيا.

بعد قيام الانتخابات بعدة أسابيع، وقبل إعلان النتائج، كانت هناك معركة غلب الظن وقتها أنها هامشية ولن تؤثر كثيرًا على الأحداث، بين «رد ستار»، و«دينامو زغرب»، أو بالأحرى، بين مجموعتي أولتراس «باد بلود بويز» المُتعصبة لفريق دينامو زغرب، و«ديليا» أو «هارد مِن» -بالإنجليزية- وهم الرجال الأشداء أو الأبطال، وهي متعصبة لفريق ريد ستار بلغراد. لكن خطأ ما ظنوا.

في 13 مايو/أيار 1990، سافر ريد ستار إلى كرواتيا للقاء دينامو زغرب، فيما ستكون المباراة الأخيرة قبل انهيار الدوري اليوغوسلافي القديم ومعه الدولة نفسها –وصفت بأنها أسوأ مشاهد لشغب كرة قدم في أوروبا- حين ذلك قاتل الآلاف من جماهير زغرب الجماهير في بلغراد والشرطة أيضًا، ليتم إيقاف اللقاء بعد مضي 10 دقائق، لكن لم يكن قبل أن يركل نجم فريق دينامو زغرب، «زفونيمير بوبان»، رجل شرطة كان يحاول منع الكرواتيين من مهاجمة لاعبي فريق ريد ستار. استمر القتال بعد ذلك لأكثر من ساعة، وما كان من الشرطة إلا إطلاق النار في كل الحضور في نهاية المطاف.

مجموعة «باد بلود بويز»، والتي يعود تأسيسها إلى 17 مارس لعام 1986 –قبل المعركة بأربع سنوات- من أعضاء من مناطق متفرقة في مدينة زغرب، أكدت الصحافة في كرواتيا أنها كانت الطليعة الأولى للانفصال الكرواتي عن الاتحاد اليوغسلافي. بني ذلك على الدعم الذي قدمته المجموعة لـ «فرانجو تودجمان»، الذي كان أول رئيس لكرواتيا عقب انفصالها عن يوغسلافيا.

«ساسا بودجوروليدس» مخرجة كرواتية وصانعة أفلام وثائقية

الأمر في صربيا لم يكن ملائكيًّا على الإطلاق، وبالرغم من أن الجماهير في صربيا لم تشارك في ذلك الانفصال، لكنها –جماهير ريد ستار- كانت مؤثرة جدًا فيما يخص الأمور السياسية والتجارية في البلاد في تسعينيات القرن الماضي، وذلك تحت إمرة الرئيس السابق لأمن الدولة الذي يحاكم الآن لجرائم الحرب في لاهاي، الذي خطط وحاول ونجح في تجنيد مجموعات «ديليا» وحولها إلى جماعات شبه عسكرية بعد تجنيده لأحد المجرمين، «أركان»، الذي أدرك أهمية استخدام ذلك الشغف الجماهيري في صالحه، في مناحٍ مختلفة، على رأسها محاربة المساعي الوطنية في كرواتيا.

هذه الحروب كانت تتعلق بالتجارة والربح المالي، وتمكن -هو- بمساعدة هؤلاء المتحفزين الكرويين، من غزو ونهب وإقامة الاحتكارات في شركات النفط والكحول والسجائر. أركان ورجاله نمت ثرواتهم بسرعة شديدة، بينما الصرب العاديون يكافحون. اغتيل أركان فيما بعد في 15 يناير لعام 2000، لكن لا دليل حتى الآن عن توقف مثل هذه الأعمال في كل من البلدين.


أولتراس الربيع العربي

هذه المجموعة واعية بما فيه الكفاية بهويتها، ومدركة تمامًا لدورها في التشجيع والقيادة، وكانت شجاعة بما فيه الكفاية للتعبير عن رغباتها في استقلال كرواتيا، في وقتٍ كان الآخرون خائفين فيه من قول ذلك.

عاشت الدول العربية، خاصة الإفريقية منها، فترات طويلة من التأخر وانعدام الوجود الحضاري رفقة الدول الكبيرة كما كان معتادًا في قديم الأزل، وظهر في هذه الدول العديد من مظاهر الفاشية والظلم والاستبداد، التي انتقلت للعالم كله عبر التطور التكنولوجي الحديث.

الجماهير العربية بعد أن عرفت كرة القدم عن طريق المحتلين الأجانب قررت أن تجعل هذه اللعبة هي الأولى لها، مثلها مثل كثيرين فوق هذه الأرض، يشاركونهم التفضيل نفسه للعبة. لكن كما وصلت كرة القدم متأخرة للوطن العربي وصلت أيضًا حركات الأولتراس والجماعات الجماهيرية المتطرفة متأخرة إلى مفاهيم المشجعين العرب. لكن يمكن القول بأنه كان هناك روابط تشجيع كلاسيكية للفرق العربية، ويمكن بالطبع اعتبارها نواة الأولتراس الأولى داخل بلاد لغة الضاد.

ظهر مفهوم الأولتراس في مصر عام 2007 على يد مجموعتي «أولتراس أهلاوي»، و«وايت نايتس» المناصرتين لناديي الأهلي والزمالك

أول فرقة أولتراس بالعالم العربي وشمال إفريقيا كانت في ليبيا، سنة 1989، وهو أولتراس «دراجون» المساند لنادي الاتحاد الليبي، حيث اتخذت من التنين شعارًا لها. لكن حُلَّت بعد أسبوعين فقط نتيجة سلطة وقمع نظام «القذافي» وقتها. ذلك القمع كان أهم العوامل المؤثرة على بداية هذه المجموعات الشبابية وطوال تاريخهم داخل الوطن العربي.

المواطنون دائمًا ما يرون الوجه القبيح للشرطة، تلك الحقيقة سائدة في كل بلدان العالم، وفي جماعات متطرفة لا تعترف إلا بمبادئها فقط، كان يجب أن يكون لها دور فعال ضد الشرطة في كل البلاد. مشاعر البغض ضد الشرطة تناقلتها جماعات الأولتراس في كل البلدان ووصلت بالطبع للوطن العربي، ومع المظاهر التي ظهرت عن الظلم والاستبداد من الأنظمة الحاكمة، والتي تعد الشرطة هي ذراعها الطويلة التي تنفذ قراراتها السيادية داخل الدولة، كان الوضع بين الجماعات الجماهيرية المتطرفة والشرطة محتدمًا للغاية، لا سيما الوضع داخل مصر.

تبلور مفهوم الأولتراس داخل البلاد المصرية في عام 2007 على يد مجموعتي «أولتراس أهلاوي» و«وايت نايتس» المناصرتين لناديي الأهلي والزمالك، على الترتيب. من بعد ذلك أخذت الظاهرة في الانتشار الكبير داخل البلاد، لكن ارتباط وجودهم في الأذهان المصرية لم ينفصل أبدًا عن ثورة الخامس والعشرين من يناير لعام 2011.

في بداية عام 2011، تحركت الثورة داخل تونس، والتي كانت شرارة أولى لتحرك الثورة في العديد من البلدان العربية بعد ذلك، فيما عرف بثورات الربيع العربي. الدور الذي قام به شباب الأولتراس في تونس انتقل بدوره لمصر، واحتلت جماعات الأولتراس الصفوف الأولى للثائرين، وذلك لسابق معلوميتهم بالجانب الشرطي وكيفية الاشتباك معه.

كل الفئات السياسية والأحزاب والشخصيات العامة التي شاركت في الثورة المصرية، انهالوا بالمديح، بعد انقضاء أعمال الثورة على ما قدمه شباب الأولتراس للمتظاهرين والمحتجين في أرض ميدان التحرير، والأفكار التي كانت غائبة عن أذهان الشعب المصري الذي لا يملك أي سابق معرفة بالاشتباكات مع قوات الأمن. ويعد الشكل الذي ظهر به المتظاهرون أثناء الغناء والقفز على طريقة الأولتراس في المدرجات هو أبرز الملامح الواضحة لتأثير هؤلاء الشباب داخل بلادهم في مرحلة حرجة جدًا.

تلك الأمثال ما هي إلا أبسط شيء يُذكر عما قدمته الجماعات الجماهيرية المتطرفة، أو الأولتراس، في بلادها عبر التاريخ، والمؤكد أن هذا التأثير لم ينضب بعد، ولن ينتهي. ربما الحداثة التي طرأت في أوروبا تجعلك تظن أن الاستخدام المتطرف للحماس الجماهيري قد ذهب أدراج الرياح، وأن الاستقرار الموجود حاليًا في ترسيمات الدول الأوروبية لن يدع فرصة لهؤلاء المنتفعين من حماس جماهير كرة القدم، لكن بمرور الوقت ستتعجب من كم المرونة الذي يحويه ذلك الحماس، مرونة تمكنه من التحول والتطوع في أي جهة يرغب فيها مُحركوه في أي بقعة من بقاع العالم.

المراجع
  1. العنف الكروي.
  2. التأثير السياسي لمجموعات الأولتراس في إيطاليا.
  3. العداء بين صربيا و كرواتيا.
  4. مجموعات الأولتراس في الوطن العربي.