نشر هذا المقال للمرة الأولى في مجلة «المسلمون» التي كان ينشرها سعيد رمضان (العدد الرابع، السنة الثانية، جمادى اﻵخرة 1372هـ-فبراير/شباط 1953م). وقد أضفنا هذا العنوان من لدنا؛ إذ كانت أكثر مقالات الأستاذ الهضيبي في هذه المجلة افتتاحيات لأعدادها بدون عنوان فرعي لكل منها، وإن انتظمها جميعًا عنوان جامع هو: هذا القرآن. وستصدر في مجلد جميعًا محققة بتعليقات وحواشٍ وتصدير المحرر نهاية عام 2017م، إن شاء الله.

والمستشار حسن إسماعيل الهضيبي (1891-1973م) هو المرشد العام الثاني للإخوان المسلمين، ويصفه الإخوان في أدبياتهم بأنه المرشد الممتحن؛ إذ تولى مسئولية الجماعة في أحلك فتراتها منذ نهايات العهد الملكي وطوال العهد الناصري. وهو من أكثر الشخصيات الخلافية، وربما الغامضة؛ في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة، إذ لم يكُن يُكثر الكلام ولا الكتابة.


لا ينبغي للمسلم أن يقف عند العبادات ولا يتجاوزها. فمع أنها من الأهمية بالدرجة العظمى، لكنها ليست كل شيء؛ بل أصبح العابد الذي يقتصر على العبادة ويظن أن الله لم يُكلِّفه غيرها أقرب إلى الإضرار بالدين بما يكون من سوء فعله في فتنة الناس عنه. فالتاجر الذي لا يكاد يفرَغ من غش الناس حتى يتجه إلى المسجد لأداء الفريضة، والموظف الذي يشعُر بالاطمئنان لأنه يؤدي واجبه كاملًا ثم يأخذ في أثناء خروجه قلم رصاص أو بعض الأوراق التي تُصرَف له لأداء أعمال الحكومة أو الشركة أو المصنع الذي هو فيه ليستخدمها ابنه أو يستخدمها هو في شئونه الخاصة، والوالد الذي يُهمل أولاده ولا يبذُل كل عناية في تربيتهم، والزوج الذي يظلم زوجته أو والدته، والطبيب الذي يرى الداء ويعرف الدواء، ولكنه يؤخر أسباب الشفاء حتى يستكثر من زيارة المريض، والمدرِّس الذي يُقصِّر في حق تلاميذه رغبة عن إفادتهم أو حتى يُلزمهم بتلقي دروسٍ خصوصيّة، هؤلاء وغيرهم بعيدون عن الإسلام الصحيح كل البُعد، ويصدُّن الناس عن الدين ويوحون إليهم بأن الدين لا يُجدي في تربية النفوس ولا يُقيم المتدينين على منهاج من الأخلاق. وليس الذنب في ذلك ذنب الدين، وإنما هو ذنب الذين لا يفهمون الدين على حقيقته، ويجعلونه هيكلًا عظميًا لا روح فيه ولا لحم ولا دم، وهم يحسبون أنهم بما أدوا من صلوات أو صومٍ أو حجٍ يُحسنون صُنعًا.

إن في العبادات أسرارًا قد نعلمها وقد لا نعلمها، ويجب أن نتلقاها أمرًا من الله مفروضًا علينا؛ ومع ذلك فلنا أن نُفكِّر فيها، ونستكشف خباياها. ومن أسرار العبادات أنها تُهيئ النفس إلى احتمال المشقّات والتكاليف التي كلَّف الله بها عباده، وتُخفف من ثقلها على الطبائع. اقرأ قوله تعالى: «يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا، إنا سنُلقي عليك قولا ثقيلا»؛[1] فعلاقة العبادة بتحمُّل التكاليف ظاهرة في هذه اﻵيات.

وما لم تؤد العبادات إلى هذه النتيجة، كان أداؤها غير محقق للأغراض التي قصدت منها. ومن الأغراض المقصودة، والله أعلم؛ أن يكون الإنسان على خُلق، فإن الأخلاق الفاضلة من أصعب الأمور ما لم تُهيأ لها النفس تمامًا. ولو كان الأمر على خلاف ذلك لم يكُن لذي الخلق فضل على غيره؛ إذ اليسير من الأمر من الممكن إدراكه لكل إنسان.

ومن الأخلاق التي يرضى عنها الله أن يكون المسلم عزيزًا، فلا يذل لأحد ولا يقبل ضيمًا، ولا يعتقد أن أحدًا يستطيع أن يصله بشيء لم يأذن الله به، ولا يحرمه شيئًا أراده الله له؛ وصدق الله العظيم: «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين»،[2]«ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضُرُّك، فإن فعلت فإنك إذًا من الظالمين. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يُردك بخيرٍ فلا راد لفضله؛ يُصيب به من يشاء من عباده، وهو الغفور الرحيم».[3]

وهو مع عزَّته لين العريكة موطأ الأكناف، من الذين يألفون ويؤلفون، متواضع في غير ضعف، مُترفع في غير عنف؛ يقول دائمًا: «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم».[4]

وينبغي أن يكون المرء صادقًا؛ فالصدق من الصفات التي عدَّها الله من موجبات ذكر الأنبياء؛ فقال تعالى: «واذكُر في الكتاب إسماعيل؛ إنه كان صادق الوعد».[5] وأمرنا الله تعالى أن نكون مع الصادقين؛ فقال: «اتقوا الله وكونوا مع الصادقين».[6] والصدق يكون في القول ويكون في الفعل؛ فإذا وعدت إنسانًا عدة فيجب أن تكون صادقًا فيما وعدت؛ قاصدًا الوفاء، عاملًا له. ولا يصح أن يكون الوعد بقصد التخلُّص من موقف، أو دفع إلحاح، أو إرضاء لخاطر أحد من الناس. وإذا تحدثت بشيء فلا تتحدَّث بما يتنافى مع الحقيقة التي تعلمها وتعتقدها. وإذا استنصحك أحد فاصدُق في نُصحه، ولا تجعل نُصحك مشوبًا بالهوى أو الغرض، وإلا كُنت غاشًا خادعًا.

وإذا عملت عملًا فكن صادق العزم على القيام به على وجهه الصحيح؛ موفيًا حق طالبه، صادقًا فيما تطلُب من حقك. وقد حُدِّثتُ بحديث في شأن صادق الوعد، واعتباره قيدًا لا ينفك عنه الإنسان؛ لا بأس من أن أسوقه للدلالة على ما تنطوي عليه النفوس الكبيرة من الخير. ذلك أن أحد رؤساء الوزارة في التاريخ الحديث،[7] ولم يكن مشهورًا بالتديُّن؛ باع قدرًا من الأطيان لشخصٍ ما، ووعده بالتوقيع على العقد بعد أن يُهيأ. وفي هذه الأثناء جاءه شخص آخر يُريد شراء هذه الأطيان؛ فأخبره بأنه باعها لفُلان، فعرض عليه ثمنًا يزيد نحو عشرين ألفًا من الجنيهات، وقال له: إنك لم توقع العقد، فقال: إن كلامي عقد؛ فاذهب إلى المشتري وادفع له الفرق واتفق معه، وأنا أمضي العقد لأيكما.

وكانت هذه الحادثة مدار مقارنة بين هذا الذي لم يشتهر عنه التديُّن وبين بعض المتدينين أو العلماء، الذين يُفترض فيهم الاستفادة من الدين.

ومن الصفات العظيمة التي يفتقدها الإنسان في الناس؛ الأمانة: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها»[8]«إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولا».[9] ومن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم: أربع من كن فيه كان منافقًا، وذكر منها: إذا ائتمن خان.[10]

وليست الأمانة قاصرة على شيء دون شيء. فكما يكون الإنسان أمينًا على المال، يكون أمينًا على كل شيء كُلِّف بواجب نحوه. فالزوج أمين على زوجه، والوالد أمينٌ على عياله، والطبيب أمينٌ على المريض، والمدرِّس أمين على تلاميذه، وأنت أمينٌ على العلم الذي بين جنبيك، وهكذا.

إن هذا الخُلُق من أعظم الأخلاق، ونحن نفتقده بيننا فلا نكاد نجد له أثرًا عند كثيرٍ من الناس،11 مع أن فواته كفيلٌ بأن يهدم دولًا بأسرها. وفكر في الأمر بين أن يأخذ الإنسان نفسه باﻷمانة في كل ما وجب عليه، وبين أن يترخَّص فيها ويلقي بها ظهريًا، وينطلق وراء أهوائه؛ تجد أثر ذلك بالغًا، وعواقبه من أسوأ العواقب.

أردت بكتابة هذه الكلمات أن أنبِّه إلى أن كمال المسلم لا يتم بالعبادات وحدها؛ بل يجب أن يكون مُشتملًا على الأخلاق القرآنية العظيمة مُتبعًا لها، عاملًا بها، حريصًا عليها. وهذا هو الذي يُميِّزُهُ عن غيره؛ إذ يجب أن يكون المسلم ممتازًا عن غيره في كل شيء. وهذا التميُّز لازم للإسلام لأنه من رب العالمين، وكل ما فيه صحيح وضعه خالق الخلق العليم بما تصلُح به أحوالهم. وإن في آيات القرآن كثيرًا من أمثال ما ذكرت؛ ولكني اقتصرت عليه لأنه أولى بالتنبيه من غيره: العزة، والصدق، والأمانة. فضائل تستأهل الحرص عليها، والله يوفقنا ويهدينا سبيل الرشاد.


[1]سورة المزمل، اﻵيات من 1 إلى 5.

[2]سورة المنافقون، اﻵية 8. [3]سورة يونس، اﻵيات 106 و107. [4]سورة فصلت، اﻵية 34.[5]سورة مريم، اﻵية 54. [6]سورة التوبة، اﻵية 119. [7]يقصد خلال أربعينيات القرن العشرين، يعني قبل نحو ثمانين سنة! (المحرر) [8]سورة النساء، اﻵية 7. [9]سورة الأحزاب، اﻵية 72. [10]رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ولا توجد هذه الإضافة في روايتهما، وإنما وردت في حديثهما عن أبي هريرة: آية المنافق ثلاث. (المحرر)

[11]وقد كتب هذا الكلام من سبعين سنة تقريبًا، فكيف إذا صاروا إلى ما صرنا إليه؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله! (المحرر)