وُلد في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1913، في الجزائر، وكانت حينئذٍ مُحتلة من قبل فرنسا. وُلد لأسرة فقيرة من أصل أوروبي، الأب من جذور فرنسية وكان عاملًا في مزرعة، والأم من أصل أسباني وكانت خادمة في منازل العائلات الفرنسية. لبّى والده نِداء الحرب العالمية الأولى، ومات في مارن عام 1914؛ بعد عام من ولادته.

نشأ في شقة صغيرة مع أخيه ووالدته وجدته. وفي وقت مبكر من المدرسة استطاع مُعلمه إقناع والدته بأن ابنها لن يُضطر إلى البدء في العمل مبكرًا لزيادة دخل الأسرة الفقيرة، ورتّب له منحة دراسية.

في عام 1930 في كلية الآداب؛ جامعة الجزائر، بدأ دراسة الفلسفة لـ «جان غارنييه Jean Grenier»، والذي سيصبح مُعلمه وصديقه لبقية حياته. في نفس العام، اضطر إلى الاستقالة من عمله كحارس مرمى عندما اكتشف إصابته بالسل. اسودت الدنيا أمامه، وكان للمرض دور في بناء شخصيته وفلسفته. أكمل حياته وشارك في النشاط السياسي، وانضم إلى صفوف الحزب الشيوعي، لكنّه قال:

الحقيقة، أنني لم أتعلم الحرية من كتب ماركس، لقد تعملتُ الحرية من الفقر.[1]

إنه الفيلسوف والكاتب الفرنسي «ألبير كامو – Albert Camus».

الحياة والموت في كتابات ألبير كامو

في كتابه «أسطورة سيزيف»، يرى كامو أن الحياة عبثية وسخيفة وغير منطقية مثل أسطورة سيزيف، الذي أغضب كبير الآلهة، فعاقبه بأن يحمل صخرة ويصعد الجبل، وحينما يصل سيزيف قمة الجبل تسقط الصخرة وتتدحرج حتى الوادي في الأسفل، ينزل سيزيف إلى الوادي، يحمل الصخرة ويصعد الجبل فتسقط مرة أخرى، ويتكرر ذاك المشهد العبثي حتى نهاية الكون. تمامًا مثل الحياة الزائلة، لا فائدة منها، فما جدوى أن يأتي المرء للحياة ثم يموت؟

لا يرى كامو أن الحياة فقط عبثية، بل الموت أيضًا.

في روايته الأشهر، «الغريب»، يبدو تأثر كامو بالقتل المجاني والعبثي للملايين في الحرب العالمية الثانية، حيث نُشرت الرواية في عام 1942 إبان الاحتلال النازي لباريس[2]. يُقدم فيها نموذجًا للرجل الذي لا يُبالى، العبثي، عديم المَشاعر، الذي ينظر إلى الموت بطريقة غير جادة، يقول على لسان البطل في مطلع الرواية:

اليوم، ماتت أمي، أو ربما ماتت أمس، لستُ أدري.[3]

وفى اليوم التالي، ذهب إلى الحمامات وأقام علاقة غير مشروعة ودخل السينما وضحك أمام فيلم هزلي، وحينما سُئل –فيما بعد- إن كان قد حزن لوفاة أمه قال:

مما لا شك أنني كنتُ أحب أمي كثيرًا، ولكن ذلك لم يكن يعني شيئًا. إنّ جميع الأشخاص الأصحّاء قد تمنّوا تقريبًا موت الذين كانوا يحبّونهم.[4]

ويقول في السطرين الأخيرين بعد أن حُكم عليه بالإعدام لقتله عربيّ عبثًا، لسبب تافه:

أتمنى أن يكون هناك كثيرٌ من المُشاهدين يوم تنفيذ حكم الإعدام بي، وأن يستقبلوني بصرخات مليئة بالحقد والكراهية.[5]

في رواية «الموت السعيد» يُكرر كامو التيّمة ذاتها:

وماتت ذات يوم… كانوا يتوقعون الكثير منه عند الدفن، يتذكرون حب الابن الكبير لأمّه، ويستحلفون الأقرباء البعيدين ألّا يبكوا كي لا يحس باتريس بألمه يكبر… أمّا هو فقد ارتدى أفضل ما أمكنه وأخذ يتأمل الترتيبات، وقد رافق الموكب وحضر الجنازة الدينية، ورمى قبضة التراب وقبل التعازي. مرة واحدة فقط اندهش وعبّر عن استيائه من قلة السيارات المُخصصة للضيوف. في اليوم التالي… هو الآن يعيش في غرفة أمه.[6]

موت عبثيّ لا معنى له

في الرابع من يناير/كانون الثاني عام 1960، بعد الظهيرة، كان «ميشيل غاليمار» يقود سيارة Facel Vega عائدًا إلى باريس، ويجلس بجواره صديقه وعمّه «ألبير كامو»، وفي المَقعد الخلفي كانت زوجة غاليمار وابنتيهما، وقرب بلدة «فيلبيلفين» الصغيرة، الواقعة على بعد أكثر من 65 ميلًا من باريس، كان غاليمار يقود بسرعة عالية وفجأة فقد السيطرة على السيارة، انحرفت واصطدمت بشجرة على جانب الطريق. أصيب غاليمار بجروح خطيرة، ومات بعد خمسة أيام، أمّا زوجته وابنتيهما «آن» فلم تربحا أيّة جروح خطيرة. الموت السريع كان من نصيب كامو الذي تلقى الصدمة كاملة، وكان يبلغ وقتها ستة وأربعين عامًا، بعد ثلاث سنوات من فوزه بجائزة نوبل.

بالنسبة لعشاقه بدا أن الموت بسرعة عالية نهاية معقولة وشاعرية للغاية.

عثرت الشُرطة في السيارة المُدمرة على مخطوط لرواية غير كاملة بعنوان (The First Man)، وهي شبه سيرة ذاتية ترتكز وقائعها على طفولة كامو في الجزائر، وقد نشرتها ابنته في العام 1994. وتُرجمت إلى العربية بعنوان «الإنسان الأول».

عادت زوجة كامو وابنتاه التوأم إلى باريس بالقِطار، من الواضح أنه كان يُخطط للعودة مع أسرته بالقِطار ولكن غاليمار أقنعه بالعودة معه في السيّارة، ليفقد الحياة والتي هي أعز ما يملك، لأنها عبثية.

تقول صحيفة نيويورك تايمز:

هناك مفارقة فلسفية قاتمة في حقيقة أن ألبير كامو كان يجب أن يموت في حادث سيارة لا معنى له.

إعادة كتابة القضية

يبدو الحادث المأساوي طبيعيًّا، لكن تفاصيل جديدة أُضيفت إلى دفتر الحادث عام 2011. فبينما كان الشاعر الإيطالي «جيوفاني كاتيلي» يُطالع يوميات الشاعر التشيكي «جان زابرانا»، صادف كاتيلي مقطعًا مفقودًا أو محذوف عمدًا من قبل المُحرر الإيطالي لليوميات، ادعى زابرانا في المقطع أن مصدرًا مُطلعًا يعرف الكثير من الأشياء أخبره أن عُملاء تابعين للاستخبارات السوفييتية «كي جي بي» استخدموا قطعة متطورة من المعدات التي قطعت أو صنعت ثقبًا في عجلة سيارة كامو وأتلفتها عندما كانت السيارة تسير بسرعة عالية.

صدر أمر التصفية من «ديمتري شبيلوف»، وزير الشئون الداخلية في الاتحاد السوفييتي، لأن كتابات كامو المعادية للسوفييت أغضبت موسكو وأغضبته شخصيًا.

ألبير كامو ضد الاتحاد السوفييتي

في مارس/آذار 1957، نشر كامو مقالًا في مجلة «فرانك تورتور» الفرنسية، هاجم فيه شبيلوف بالاسم، وندّد بـ «مجازر شيبيلوف» حينما قررت موسكو إرسال قوات لسحق الانتفاضة المجرية عام 1956.

بعد عام، زاد حنق موسكو على كامو حينما أيّد علانيةً الكاتب والشاعر الروسي «بوريس باسترناك Boris Pasternak»، مؤلف رواية «الدكتور زيفاجو Doctor Zhivago»، والتي اعتبرت نقدًا شديدًا للنظام السوفييتي. نشر باسترناك الرواية في إيطاليا عام 1957، وفي العام التالي حصد جائزة نوبل للآداب. في مُقابلة صحفية عبّر عن سعادته بذلك، لكنّه تراجع ورفض جائزة نوبل المرموقة بعد حملة تشويه تعرض لها في الصحف السوفييتية، حيث وُصفت الرواية بأنها «عمل حقير فنيًا وخبيث»، وطُرد من اتحاد الكتاب السوفييت، ودعا البعض إلى نفي (الخائن) خارج وطنه.

على ما يبدو أنه كان لدى موسكو أسباب للتخلص من ألبير كامو.

الغريب أن كامو انضم إلى الحزب الشيوعي في بداية حياته -عام 1935- وأسس مسرح العمال. وقد كتب مسرحية «الثورة في أستورياس Révolte dans les Asturiens»، المستوحاة من ثورة عمال المناجم الإسبان عام 1934، وقد منعت السلطات في الجزائر المسرحية.

هل قتله السوفييت حقًا؟

على الرغم من أن المقطع الخاص بـ كامو كُتب في يوميات زابرانا (من عام 1971 إلى 1984)، إلا أن المخرج السينمائي «أليس كيسيل»، الذي وثّق حياة زابرانا في فيلمه «Jistota nejhoršího»، يعتقد أن زابرانا ربما سمع القصة أثناء زيارته لروسيا في الستينيات.

فلماذا سربت الاستخبارات السوفيتية تلك المعلومة إلى زابرانا؟

على افتراض أن زابرانا كتب هذا حقًا، لا تُقدم اليوميات أيّة معلومات عن المصدر، غير أنه مسئول، لكني أخمن أن التُهمة سُربت لزابرانا عمدًا، كنوع من أنواع التحذير المبكر من أنه قد يلقى مصير ألبير كامو إذا لم يُقوِّم سلوكه، خصوصًا أنه لم يكن موثوقًا به من قبل السلطات الشيوعية بسبب خلفيته غير الشيوعية (وذلك ينفي أنه علم بالأمر عرضًا، وبالنسبة للنظام الشيوعي القاسي لا يُمكن لمعلومة تمس الاستخبارات أن تتسرب عرضًا عبر الفضفضة لغريب)، ولابد أن زابرانا لم ينسَ ما حدث لوالديه، فقد عانيا في السجن لفترات طويلة في محاكمات ملفقة بعد وصول الشيوعيين إلى السلطة.

لكن ذلك لا يعني فعلًا أن الاستخبارات السوفييتية تخلصت من كامو. أحيانًا تلجأ أجهزة الاستخبارات إلى اختلاق عمليات سرّية وهمية، مُستغلةً بذلك بعض الوقائع العرضية كمقتل كامو في حادث سير عاديّ، فتنسج الخيوط وتُحرِّف القصة كي تبدو وكأنها فعلت كل شيء، وذلك لتوصيل رسائل وأيضًا لتُعملِق إمكانياتها. كما تلجأ أجهزة الاستخبارات إلى تضخيم عملياتها الحقيقية وقدرات أفرادها كي تبدو وكأنها خارقة.

في الستينيات وما تلاها، كانت الاستخبارات السوفييتية تقتل المُعارضين بالسموم المُخلقة في معامل الـ «كي جي بي» السرّية، وهي سموم يصعب اكتشاف آثارها وبقاياها في الجثة، وتتشابه أعراضها مع أعراض الموت الطبيعي. أما طريقة عطب إطار السيارة فهي غريبة على أدوات القتل الخاصة بالاستخبارات السوفييتية. ولكن إن كانت الاستخبارات السوفييتية فعلتها حقًا، فإنها اختارت تلك الطريقة الغريبة، كي لا تصير مُشتبهًا فيه وتُثير غضب فرنسا وحلفائها –إنجلترا وأمريكا وألمانيا الغربية- وسخط الملايين من قُراء ومُحبي كامو في أرجاء العالم.

على أية حال، علينا أن ننتظر تأكيدًا مما سيُفرج عنه من وثائق أرشيف الاستخبارات السوفييتية، وذلك ليس من عادتها، ومن المُستبعد أن تعترف على نفسها، خصوصًا وأن الجريمة ستُثير سخط الملايين على موسكو وتُعيد الروح إلى جرائم الـ «كي جي بي» التي تُريد موسكو دفنها.

إن كانت الاستخبارات السوفييتية فعلتها حقًا، فإن ألبير كامو الذي ظل طيلة حياته يكتب عن الموت العبثيّ، قد مات في حادث مُدبر ومُخطط له بعناية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. ألبير كامو، “الإنسان الأول”، ترجمة: لبنى الريدى، القاهرة، دار الهلال، ص 5-6.
  2. المرجع السابق، ص 8.
  3. ألبير كامو، “الغريب”، ترجمة: عايدة مطرجي إدريس، بيروت، دار الآداب، 2013، ص 9.
  4. المرجع السابق، ص 83.
  5. المرجع السابق، ص 150.
  6. ألبير كامو، “الموت السعيد”، ترجمة: عايدة مطرجي إدريس، بيروت، دار الآداب، 2014، ص 24.