بعد 46 عامًا من وقوع الحدث الأكثر إيلامًا في ذاكرة الأمة العربية عامةً، والفلسطينية خاصةً، نحاول إعادة فتح ملف أحداث «أيلول الأسود»؛ للبحث في جذور الأزمة، والطرف المسئول عن تطورها وتفاقمها.


معركة الكرامة وتموضع المقاومة الفلسطينية

يمكن القول إن البداية الحقيقية لأحداث أيلول الأسود كانت في مارس/آذار عام 1968م، حيث وقعت معركة الكرامة.

حوّلت معركة الكرامة حركة فتح من مجرد منظمة مسلحة إلى حركة تحرر وطني حقًا. فقامت بعض المجموعات الفدائية الصغيرة بحل تشكيلاتها والانضمام إلى فتح

في مطلع عام 1968م، ازداد التوتر على الجبهة الأردنية الإسرائيلية، حيث صدرت عدة تصريحات رسمية إسرائيلية تعلن أنه إذا استمرت نشاطات الفدائيين الفلسطينيين عبر الأردن، فإنها ستقوم برد الفعل المناسب، وبناءً عليه زاد نشاط الدوريات الإسرائيلية في الفترة ما بين 15 و18 مارس/آذار 1968م بين جسر الملك حسين وجسر داميا، وازدادت أيضًا الطلعات الجوية الإسرائيلية فوق وادي الأردن. كما قامت بهجمات عديدة ومركزة باستخدام القصف الجوي والمدفعي على طول الجبهة الأردنية.

إلى أن بدأت معركة الكرامة في فجر يوم 21 مارس/آذار 1968م، واستمرت ست عشرة ساعة في قتال مرير على طول الجبهة، حيث شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي هجومًا واسع النطاق على الضفة الشرقية لنهر الأردن، في منطقة امتدت من جسر دامية شمالاً حتى جنوب البحر الميت بطول 50 كيلو مترًا وعمق 10 كيلو متر؛ بهدف القضاء على مواقع المقاتلين الفلسطينيين في الكرامة وجنوب البحر الميت.

وقد خاضت المقاومة الفلسطينية المعركة جنبًا إلى جنب مع قوات الجيش الأردني، وقاموا بإحباط محاولات التقدم التي حاولت القوات الإسرائيلية تنفيذها، وفي الساعة الثانية من بعد الظهر شعرت القيادة الإسرائيلية أن خسائرها في ازدياد، وأن أهدافها لم تتحقق، فطلبت وقف إطلاق النار، وتم انسحاب آخر جندي إسرائيلي في الساعة الثامنة والنصف مساءً. وتكبدت قوات الاحتلال خسائر فادحة، حيث بلغت 70 قتيلاً، وأكثر من 100 جريح، بالإضافة إلى تدمير 45 دبابة، و25 عربة مجنزرة، و27 آليات مختلفة، و5 طائرات.

وقد حوّلت معركة الكرامة حركة فتح من مجرد منظمة مسلحة إلى حركة تحرر وطني حقًا. وفي الأثر قامت بعض المجموعات الفدائية الصغيرة خلال شهور قليلة بحل تشكيلاتها والانضمام إلى فتح؛ مثل: جبهة التحرير الوطني الفلسطينية، ومنظمة طلائع الفداء، وجبهة ثوار فلسطين.

أقلقت هذه التطورات النظام الأردني قلقًا شديدًا، وشرع في مراقبة نمو الحركة الوطنية الفلسطينية بريبة كبيرة، وتخوف من أن تتحول منظمة التحرير الفلسطينية إلى قوة سياسية كبيرة في الأردن، ومسلحة في الوقت نفسه، وتحظى بتعاطف فئات واسعة من السكان.


حتمية الصراع بين المقاومة والنظام الأردني

عند التدقيق في قراءة هذه المرحلة التاريخية، نجد أن الصراع بين المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني كان حتميًا، وأن كافة المحاولات العربية لتثبيط هذا الصراع لم تكن سوى مسكنات ومؤجلات له.

وتنبع هذه الحتمية من أن بداية تواجد العمل الفدائي الفلسطيني في الأردن، حمل في طياته إنشاء سلطة ثانية جنينية إلى جانب النظام السياسي الأردني.

وأخذت هذه السلطة تنمو وتطور وتكسب اعتراف الجماهير بها، ثم بدأت في إنشاء أجهزتها الخاصة إلى جانب أجهزة النظام، وأخذت الجماهير تنفض شيئًا فشيئًا عن أجهزة السلطة القديمة، وتفقد احترامها لها.

ومن ثَمَّ كان طبيعيًا أن ينشب الصراع بين هاتين السلطتين؛ من أجل اكتساب مواقع النفوذ في البلاد.


تصفية المقاومة

في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1968م، كانت المحاولة الأولى من النظام الأردني لتحجيم المقاومة الفلسطينية، وذلك حينما توصل لاتفاق لتنظيم العلاقات مع المقاومة يبعدها عن المدن والقرى ويُقيّد حركتها الميدانية.

ولكن خلال عام 1969م تصاعدت قوة المقاومة ونفوذها في الأردن، حيث أنشأت حركة فتح «القوة المحمولة»، وهي مؤلفة من 600 مقاتل، و80 سيارة جيب مزودة بالسلاح الملائم. وانصرفت بعض المنظمات الأخرى إلى تأسيس قواعد للفدائيين التابعين لها في مخيمات الأردن، وبدأ هؤلاء الفدائيون يظهرون بالسلاح في المدن الأردنية. ووفق المعطيات الإسرائيلية، نفذت المقاومة حوالي 3170 عملية عسكرية عبر نهر الأردن خلال هذا العام فقط؛ الأمر الذي أثار حفيظة النظام وتم اعتباره تحديًا للدولة وهيبتها، وتعديًا على القانون والنظام العام.

وفي العام ذاته، كانت حرب الاستنزاف مستعرة على الجبهة المصرية؛ الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى الشروع في تقديم مبادرة سياسية لحل الأزمة؛ وهي «مبادرة روجرز». وكان واضحًا أن النظام الأردني على استعداد للقبول بالمبادرة، لكن ما فاجأ المقاومة هو الموقف المصري الذي أعلن قبول المبادرة.

وهنا تصاعد التوتر بين الطرفين إلى حدود لم يسبق لها مثيل، ووصل الملك حسين إلى القاهرة في فبراير/شباط 1970م؛ ما أوحى بأن الخطوات اللاحقة تجري بتفاهم مع الرئيس عبد الناصر.

وفي 10 فبراير/شباط أصدر الملك الشروط العشرة التي حظر فيها على المقاومة الظهور المسلح والنشاط السياسي، ومنع المسيرات والاجتماعات العامة، وفرض الرقابة على المطبوعات وعلى العمل الحزبي.

وأعقب تلك القرارات اشتباكات مسلحة بين عناصر من الفدائيين ومجموعة من الجيش الأردني سقط فيه 13 فدائيًا و6 جنود.

وفي 23 يوليو/تموز أعلن «جمال عبد الناصر» موافقته على مشروع روجرز، وأصدر أوامره بوقف النار على طول قناة السويس؛ ما يعني انتهاء حرب الاستنزاف، وحذا الملك حسين حذوه، وتعهد بوقف الأعمال القتالية ضد إسرائيل، فوقعت القيادة الفلسطينية في اضطراب حقيقي.

وبعد ذلك كانت المقدمات الحقيقية لأحداث أيلول الأسود:

1. قامت الجبهة الشعبية باختطاف خمس طائرات من الأردن: واحدة فشلت، والثانية فُجرت في القاهرة، وثلاث حطت في مطار «داوسن» وجرى تفجيرها.

2. أعاد الملك حسين الفريق «زيد بن شاكر» إلى قيادة سلاح المدرعات في 6 أغسطس/آب 1970م، وكان ذلك نذيرًا بالخطر المقبل.

3. تعرض موكب الملك حسين لإطلاق نار قرب مطار عمان في 1 سبتمبر/أيلول 1970م.

4. في 6 سبتمبر/أيلول 1970م أعلن الملك حسين تأليف حكومة عسكرية برئاسة اللواء «محمد داود»، وتعيين حابس المجالي قائدًا أعلى للقوات المسلحة، وزيد بن شاكر نائبًا لرئيس الأركان.

5. أعلنت الحكومة العسكرية الجديدة الأحكام العرفية في كافة أرجاء الأردن كله.

في 17 سبتمبر/أيلول 1970م، اقتحم اللواء 60 المدرع مدينة عمان، وشرع في قصف مخيمي الوحدات والحسين. وهكذا بدأت معركة طاحنة استمرت اثني عشر يومًا، وانتهت بالاتفاق على خروج منظمات المقاومة من العاصمة عمان وضواحيها. وقد سقط في هذه المعركة نحو 3440 قتيلاً بينهم نحو 1000 فدائي، فضلاً عن نحو 18 ألف جريح. وبينما كانت الاستخبارات العسكرية الأردنية تعتقل الفدائيين وقادتهم أمثال صلاح خلف (أبو إياد) وبهجت أبو غربية وإبراهيم بكر وفاروق القدومي (أبو اللطف)، وتسعى للعثور على ياسر عرفات، إذا به يظهر في القاهرة إلى جانب الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان دعا في 22 سبتمبر/أيلول 1970 إلى قمة عربية استثنائية لبحث الأوضاع في الأردن.

وفي القاهرة قام الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز والرئيس جمال عبد الناصر بوساطة أدت إلى عقد اجتماع بين ياسر عرفات والملك حسين لمعالجة ذيول المعركة التي صار اسمها منذ ذلك الوقت «أيلول الأسود». ومع أن ياسر عرفات اتفق والملك حسين على بقاء بعض مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في عمان، والإبقاء على بعض القواعد العسكرية في شمال الأردن، إلا أن وفاة الرئيس جمال عبد الناصر أتاحت للملك حسين أن يطبق الاتفاق كما أراد، فأُخليت عمان من أي وجود فدائي، وبدأت حملة اعتقالات طاولت كل من كانت له علاقة بالمنظمات الفدائية.


لماذا كان النظام الأردني هو المسئول عن أحداث أيلول الأسود؟

حمل بداية تواجد العمل الفدائي الفلسطيني في الأردن، في طياته إنشاء سلطة ثانية جنينية إلى جانب النظام السياسي الأردني.

في العدد الأول من مجلة «شئون فلسطينية»، والصادر في مارس/أذار 1971م، كان هناك مقال بعنوان «أحداث أيلول ومسئولية النظام الأردني».

وتحدث هذا المقال بوضوح عن أن النظام الأردني كان يخطط لتصفية المقاومة حتى قبل مبادرة روجرز، فلم يكن رد فعل المقاومة على هذه المبادرة هو نقطة انطلاق النظام للصدام.

كان النظام الأردني يخطط لتصفية المقاومة حتى قبل مبادرة روجرز، فلم يكن رد فعل المقاومة على هذه المبادرة هو نقطة انطلاق النظام للصدام.

ويدعي المقال أن مخطط النظام الأردني لتصفية المقاومة مر بثلاث مراحل، كان آخرها حملة أيلول.

فيالمرحلة الأولى، وبالتحديد في منتصف عام 1969، بدأت السلطات الأردنية في تشكيل «قوات الأمن الخاصة»، ووضعت تحت تصرفها إمكانيات مالية وعسكرية كبيرة، وأوكلت إليها مهمة خلق الأجواء السياسية والنفسية والعسكرية التي تمكّن من ضرب حركة المقاومة الفلسطينية.

وهو ما تم كشفه بعد إلقاء القبض على أحد عناصر هذه القوات وتسجيل اعترافاته، وقد ذكر فيها أن مهمة هذه القوات كانت تصفية المقاومة؛ تحت حجة أن التنظيمات الفدائية هي الذراع المسلح للأفكار اليسارية، وأنها تهدف إلى القضاء على النظام. وقد تضمنت هذه الخطة كافة فصائل المقاومة، دون تمييز بين معتدل ومتطرف، مهتم بالعمل الفدائي، وآخر مهتم بالعمل الحزبي.

وخلال شهر أغسطس/آب 1970م، بدأ الجيش الأردني في التحرك حسب خطة عسكرية واحدة؛ للتمركز في المناطق الحساسة التي تمكّن من محاصرة الفدائيين من جهة، وقطع طرق الإمداد عنهم من جهة أخرى.

وقبل تناول ما قام به النظام فيالمرحلة الثانية، لابد من تقسيم الأردن إلى ثلاث مناطق من حيث نفوذ النظام الأردني والمقاومة الفلسطينية:

1. مناطق تميل فيها كفة النفوذ لصالح النظام؛ وهي مناطق الجنوب.

2. مناطق يتساوى فيها النفوذ بين النظام والمقاومة؛ مثل مدينتي عمان والزرقاء.

3. مناطق تميل فيها كفة النفوذ لصالح المقاومة؛ وهي مناطق الشمال.

وفي كل منطقة عمد النظام إلى ارتكاب مذابح تتناسب مع توازن القوى القائم فيها.

في الجنوب، قام النظام بشن حملات واسعة ضد مكاتب المنظمات الفدائية وضد المواطنين الفلسطينيين، أسفرت عن عدد غير معروف من القتلى والجرحى، وكانت تلك العمليات أشبه بالمذابح الإرهابية التي عملت على تصفية نفوذ المقاومة هناك بشكل نهائي.

وفي عمان والزرقاء، لم يكن النظام قادرًا على ترتيب عمليات مماثلة لما حدث في الجنوب، فعمد إلى أسلوب العمليات العسكرية الصغيرة واليومية ضد المقاومة، والتي أدت في النهاية إلى إنهاك قوى المقاومة العسكرية، ودفع المواطنين للتذمر والمطالبة بتوفير الاستقرار حتى يتمكنوا من كسب أرزاقهم.

وفي الشمال، ونتيجة اختلال توازن القوى هناك لغير صالح النظام، فقد عمد إلى أسلوب الهجوم الشرس والمباشر، إضافة إلى قطع خطوط التموين والاتصال بين المنظمات الفدائية، وذك وصولاً إلى يوم 17 سبتمبر/أيلول وتنفيذ كامل مخطط النظام الأردني.