مدرب رميات تماس! فعلًا؟ هل يوجد أغرب من هذه الوظيفة؟ شخصيًّا لم أكن أتخيل وجودها من الأساس. لست وحدي في ذلك، بل إن «يورجن كلوب» نفسه لم يكن على دراية بها، حتى قرأ اسم «توماس جرونيمارك» في الصحافة الألمانية قبل عامين.

غالبًا أنت لا تعرف من هو «جرونيمارك»، وفي الحقيقة أنت معذور، لأنه لم يكن سوى لاعب دنماركي فشل في الاحتراف، لكنه امتلك شيئًا واحدًا سيغير مجرى حياته، وهو شغف استثنائي برميات التماس.

الشغف الذي قاده لأمور غريبة للغاية، كالتدريب على رميات التماس لساعات طويلة، والبحث عن تاريخ تطورها عبر السنين. وانتهى به في ليفربول كأحد أفراد الطاقم التدريبي، ليساهم في تسجيل 13 هدفًا هذا الموسم.

كيف ذلك؟ استعد لقراءة حكاية مثيرة، من فصول قصة ليفربول مع «يورجن كلوب»، إحدى أكثر القصص إثارة في عالم كرة القدم اليوم.

ما الفرق بين تمريرة خاطئة ورمية سيئة؟

لم يفهم أحد سر اهتمام «جرونيمارك» برميات التماس. المدرب، زملاء الملعب، الأصدقاء؛ كل هؤلاء لم يجدوا شيئًا جذابًا يدفعه لكل ذلك الاهتمام. أما «توماس» فلم يعرف لماذا يتعاملون هم بكل ذلك الاستخفاف مع رميات التماس؟

هل يظنون الأمر مجرد إدخال الكرة للملعب بعد خروجها منه؟ بالطبع الأمر أكبر من ذلك، على الأقل بالنسبة له. والحقيقة أنه يمتلك حجة منطقية تحمل قدرًا من الوجاهة، فيرى أن رمية التماس لا تقل عن الضربات الحرة، قد تتسبب في إرباك لخطوط الخصم، أو تساهم في صناعة فرصة خطيرة، أو تتحول لهجمة مرتدة بعد فقدان الكرة.

يعتقد «توماس» أن الرمية تشبه التمريرة على أرض الملعب، ولا يفهم لماذا يغضب المدرب ويصيح الجمهور إذا قام اللاعب بتمريرة خطأ، ولا يفعلون الأمر نفسه إذا قام برمية سيئة، رغم أن العاقبة واحدة؛ وهي خسارة الفريق الاستحواذ وتعريض المرمى للخطر.

51

وبناء على ما سبق، استنتج الرجل الدنماركي أن رميات التماس تحتاج لتدريب، خصوصًا حين وجد أنها تتكرر بمعدل بين 40 وحتى 50 مرة خلال المباراة، وهو ما يضاعف من أهميتها في الحالتين الهجومية والدفاعية.

هذا التدريب سيبدأ من طريقة اللاعب بتنفيذ الرمية، كما انتشار زملائه حوله، والحركة المستمرة للإفلات من الرقابة، وحتى اختيار اللاعب للزميل صاحب الوضعية الأفضل، ودوران اللاعب بعد استلام الكرة للتغلب على ضغط الخصم.

لم يقتنع أحد بكلامه، بل إنهم سخروا من هذا الهوس بتفاصيل لعبة هامشية، سألوه هل تريد أن تضع تكتيكًا مخصوصًا لرمية التماس على غرار صناعة الهجمات والتنظيم الدفاعي؟ أخبرهم توماس أن فرق كرة السلة تضع بالفعل تكتيكًا لرميات التماس، وتعتمد عليها كثيرًا في إحراز الأهداف والحفاظ على الاستحواذ، أو شن هجمات مرتدة خاطفة.

طبعًا كانت ردودهم جاهزة: ألا يمكنك ملاحظة الفارق بين ملعب كرة القدم والسلة؟ الأول طويل وعريض، ولا يمكن لرمية بسيطة أن تحدث فيه تأثيرًا. بينما ملعب السلة صغير، وقد يتمكن أحدهم من صناعة هدف من خلال رمية التماس، لأنه يستطيع إرسال الكرة لأي مكان يريد.

هذه المرة كانت إجابة «جرونيمارك» عملية، حيث تمكن من مساعدة فريقه في التحول من الدفاع للهجوم، بل صناعة الأهداف، وكل ذلك عن طريق الرميات الطويلة التي نفذها بدقة، حتى أصبح صاحب أطول رمية تماس في كرة القدم بواقع 51 مترًا، وهي مسافة تزيد عن نصف طول الملعب وعرضه في آن معًا، ربما هنا قرر أن تصبح وظيفته المستقبلية هي مدرب رميات تماس، مهما بدا اسمها غريب الأطوار.

ﻷن كلوب يريد السيطرة

إنه صيف 2018، «توماس جرونيمارك» يشاهد نهائي دوري الأبطال بين ليفربول وريال مدريد، ويمكنك الآن تخمين أكثر ما يجذب انتباهه. يتعجب «توماس» حين يشاهد مباراة في هذا المستوى، وبين لاعبين على قدر كبير من الكفاءة، لكنهم ينفذون رميات التماس بهذا السوء. بعد أيام قليلة، سيتسقبل هاتفه مكالمة من «يورجن كلوب».

في تلك الأثناء، كان «كلوب» يعمل على تقوية فريقه ومعالجة عيوبه. أحد تلك العيوب التي لاحظها هي خسارة الاستحواذ بعد رميات التماس. طلب المدرب الألماني بعض الإحصائيات، ليكتشف أن ليفربول يحتل المركز الثامن عشر من أصل عشرين فريقًا بالبريمرليج في الحفاظ على الكرة بعد تنفيذ الرمية، بنسبة لا تزيد عن 45%.

كلوب أراد أن يسيطر فريقه على مجريات اللعب، وهذه النسبة الضئيلة لن تساعده أبدًا، بل على العكس ستجعل ليفربول معرضًا للخطورة في حالة فقدان الكرة بثلث الملعب الدفاعي، وهنا شرع في تركيز جهوده على تحسين التعامل مع الرميات، وتغيير تدريباته لتخدم الهدف نفسه، حتى قرأ عن «جرونيمارك» فأحب أن يقابله فورًا.

رمية طويلة ورمية سريعة ورمية ذكية

عرف «كلوب» أن «توماس» يعمل كمدرب رميات تماس منذ 2004، وأهم فترة في مسيرته هي تلك التي تعاون فيها مع نادي «ميتييلاند» الدانماركي، حين حول الرميات لسلاح فعال يمكن من خلاله صناعة الفرص بل الأهداف، حيث سجل لاعبو الفريق أكثر من 30 هدفًا خلال 4 مواسم بسبب الرميات الطويلة.

هل ينحصر عمل «جرونيمارك» في الرميات الطويلة وحسب؟ لا، هو يقسم رميات التماس لثلاثة أنواع: الرمية الطويلة، السريعة، والذكية. الأولى معروفة للجميع، ولعلك تذكر كيف استخدمها منتخب الكاميرون كثيرًا.

ماذا عن الرمية السريعة؟ ببساطة هي تقوم على استغلال تمركز الخصم بشكل خاطئ، ومن ثم تنفيذ رمية خاطفة تضرب الخصم في ثغرته، وتستهدف التحول الهجومي السريع. أما الذكية، فهي الرمية التي تتغلب على ضغط الخصم، وتخلق مساحة يمكن من خلالها الحفاظ على الاستحواذ.

يعتني «توماس» بكل شيء فيما يخص الرميات الثلاثة؛ من تكنيك التنفيذ، لاستقبال الكرة، للتمركز، وحتى الحركة والدوران، وخلق المساحة. اعتاد أن يعرف من المدرب المشاكل التي يواجهها اللاعبون، والرمية التي يريد منهم إتقانها، ومن ثم يشرع في العمل بكل جدية.

استمع «كلوب» له، وفي نهاية كلامه عرض عليه الانضمام له في ليفربول. وكانت هذه أسعد لحظة في حياة «توماس جرونيمارك».

أن تنام على حلم، وتصحو على حلم

احتاج «توماس» أسبوعين كاملين حتى يدرك أنه لا يعيش حلمًا، بل حقيقة. كان لا يصدق أنه يقف في ساحة تدريب ليفربول، إلى جانب أحد أهم مدربي العالم، وأمامه نخبة من اللاعبين تبدأ عند «فيرجيل فان دايك»، وتنتهي عند محمد صلاح. سيبدأ بعد قليل بتعريف نفسه، ثم يلقي عليهم التعليمات، ويشرع في التدريب.

بدأ «توماس» بالأساسيات، تحديدًا بطريقة إرسال الرمية بحيث تستهدف قدم الزميل القوية، ثم شرح كيفية الانتشار السليم حول منفذ الرمية، ومتى وكيف تبدأ الحركة لتشتيت الخصم، رويدًا رويدًا تدرج برفاق «ساديو ماني» حتى وضع تكتيكات لخلق المساحة لأجل الحفاظ على الكرة، ومنح الثنائي: أرنولد، وروبرتسون وقتًا أكبر بطبيعة الحال.

«كلوب» كان حاضرًا طوال الوقت، يحرص على دمج تكتيكات «توماس» ضمن رؤيته الفنية الأكبر، ويلاحظ التحسن في مستوى لاعبيه. لم ينشغل أبدًا بسخرية بعض المحللين، ولكن وضع ثقته في «جرونيمارك»، وحصد قريبًا ثمار رهانه.

تقول الإحصائيات إنه بنهاية موسم 2018/2019، كانت قدرة ليفربول على الاستحواذ بعد تنفيذ رميات التماس قد ارتفعت من 45% لنحو 68%، ليقفز ليفربول من المركز الـ 18 في الدوري وحتى المركز الأول، بل إنه احتل المركز الثاني بين كل أندية أوروبا. من صاحب المركز الأول؟ إنه «ميتييلاند» الدانماركي.

الآن لنصنع هدفًا

أكدت موقع «سكواوكا» للإحصائيات أن ذلك أثر بصورة مباشرة على نسبة الاستحواذ الإجمالية خلال المباراة،حيث وصلت الموسم الماضي لـ62%، ثم ارتفعت هذا الموسم لـ63%. الرقم الأخير ليس أهم ما قدمه «جرونيمارك» لليفربول، ففي الصيف الماضي بدأ في تدريب اللاعبين على صناعة الفرص من الرميات، ووضع 20 سيناريو يمكن التعامل معها خلال الرمية.

النتيجة كانت مبهرة، ولاحظ الجميع كيف تحولت الرميات من ثغرة إلى نقطة قوة للريدز هذا الموسم، إذ بدا الفريق قادرًا على تحويل الرميات في الثلث الهجومي إلى فرص خطيرة. هذه الفرص ما لبثت أن تحولت لأهداف حاسمة، وصل عددها حتى الآن لـ 13 هدفًا خلال الموسم، أشهرها كانت ثنائية فيرمينو في شباك وولفرهامبتون وتوتنهام.

هنا فقط بدأ يتردد اسم «توماس جرونيمارك» بلا استهزاء، يسأل الصحفيون «كلوب» عنه في المؤتمرات الصحفية، فتعلو الابتسامة وجه الألماني ويجيب بحماس عن «توماس» المتخصص الذي ساعد ليفربول كثيرًا، ولا يزال أمامه ما يقدمه.

بعد ذلك النجاح اللافت، بات الرجل الدانماركي يعمل بدوام جزئي لأندية أياكس الهولندي، لايبزيج الألماني، جينت البلجيكي، ميتييلاند الدنماركي، إلى جانب بطل الدوري الإنجليزي، وأمامه عروض من أندية في دوريات أخرى.

قبل 14 عامًا كان يؤمن وحيدًا بفكرة بدت ساذجة، ونالت من السخرية ما يكفي، وهو الآن على بعد أيام من الاحتفال رفقة ليفربول باللحظة الأهم خلال الثلاثين عامًا الماضية، وجدول عمله مكدس بين أندية لها شأنها. هذه واحدة من القصص التي تتجاوز كرة القدم، والرياضة كلها، وتمنحنا الأمل في المضي قدمًا.