لقد رأينا فرصة عظيمة لبناء شيء عظيم، خاصةً على المستوى التدريبي، أردنا العمل على الجانب الاجتماعي وتطوير اللاعبين إنسانيًّا من أجل إيصال قيم جديدة إلى المجتمع والبلاد، لقد قررنا أن هذا سيكون دورنا، وأن هناك مكانًا لنادٍ يقدم شيئًا مختلفًا.

هذا ما قاله رجل الأعمال الإكوادوري «ميتشيل ديلر»، عام 2016، وهو صاحب شركة «جروبو ديلر»، وهي شركة متخصصة في البناء والتطوير العقاري في البلد اللاتيني. خرج هذا التصريح بعد عشر سنوات كاملة من قراره الاستثمار في نادي «إنديبيندينتي خوسيه تيران»، والذي سيتغير اسمه لاحقًا إلى «إنديبيندينتي ديل فال»، وهو نادٍ سيمضي في طريق يوصله إلى أن يكون أحد أكبر أكاديميات أمريكا اللاتينية لكرة القدم.

تزامنت تصريحات ديلر حينها مع بلوغ ناديه لنهائي بطولة الليبرتادوريس، أكبر بطولات الأندية في أمريكا الجنوبية، وبعد إقصاء قوى تقليدية مثل الثنائي الأشهر في الأرجنتين بوكا جونيورز وريفر بليت، قبل أن يخسروا النهائي أمام ناسيونال الكولومبي، وقبل ثلاثة أعوام من تحقيق لقب كوبا سودا أميريكانا، والتي تعادل بطولة اليوروباليج في القارة اللاتينية، وهو الإنجاز الذي كرره النادي العام الماضي ليفرض نفسه كقوة صاعدة على مستوى أندية الكومنيبول.

وعلى الرغم من النجاح الرياضي الكبير للنادي الإكوادوري، ولكن الهدف الأكبر كان تكوين بنية تحتية جديدة للاعبين في الإكوادور، ليتم تأسيسهم من أجل اللعب في أعلى المستويات وتكوين أجيال جديدة تساعد البلد اللاتيني في التواجد بصفة مستمرة في بطولات كأس العالم، والبناء على الوصول أربع مرات لآخر ست نسخ مونديالية.

«إنه ليس نادٍ .. إنه مدرسة»

هكذا قال مُعلِّق مباراة الفريق الإكوادوري في نهاية ذهاب نصف نهائي كوبا سودا أمريكانا عام 2019، والتي فاز فيها «إندبنتينتي ديل فال» على ملعب كورينثيانز البرازيلي بهدفين دون مقابل، قبل أن يمضي الفريق قدمًا ليفوز باللقب في النهاية.

وفي الواقع وعلى الرغم من أنها جملة قد تكون بطابع حماسي نتيجة فوز الفريق على أحد أكبر الأندية البرازيلية، لكنها تعكس بشكل أو بآخر طبيعة سير الأمور في النادي الذي أراد أن يكون مدرسة حقيقية وليس مركزًا لتدريب مهارات كرة القدم فقط، حيث يحرص النادي على إكمال أبناء أكاديميته مشوارهم التعليمي بالتوازي مع مسيرتهم الكروية.

ولا يوجد دليل على ذلك أفضل من أن أغلب لاعبي النادي قد أنجزوا بالفعل دراساتهم الثانوية على أقل تقدير، ويقول المدير الرياضي للنادي «روبيرتو أرويو» في هذا الصدد:

نريد أن يقدم لاعبونا الحمض النووي للنادي بصورة جيدة ليس في الملعب فقط، بل أيضًا أثناء ترحالهم، إقامتهم في الفنادق وفي دراساتهم.

وأكمل قائلًا:

على مستوى الفئات السنية نريد أن يكون إندبيندينتي الأفضل على مستوى المظهر، الأكثر انضباطًا، والأكثر حرصًا على تنظيف غرفة الملابس بعد استخدامها.

ويضيف «خوان مارتينيز»، وهو مدرب فريق 19 عامًا بالنادي والمشرف على تصعيد الشباب إلى الفريق الأول قائلًا:

نحن نعلم الأطفال أن نتائجهم الدراسية هي مسئوليتهم وحدهم، لا يوجد أعذار كما لن يلومهم أحد في حال لم يكونوا الأفضل، على لاعبينا الالتزام بقوانين النادي وشروطه، نحن نعلمهم أفضل الأسس والقيم ليكونوا أفضل كلاعبين وأشخاص.

وعاد أرويو ليضيف أن هناك اثنين من لاعبي الفريق تواصلا معه من أجل دعمهما لدخول الجامعة، وأن النادي بالفعل أجرى اتصالاته لمساعدتهما على ذلك، كما أضاف المدير الرياضي أن النادي بدأ مشروعًا يسمى بـ «إعادة الاختراع»، وهو مشروع يشمل أهدافًا أسبوعية تحت إشراف مجموعة من المدرسين بجانب الطاقم التدريبي، كما يحرص مديرو النادي على حضور تلك الحصص بشكل أسبوعي والتواصل مع المدرسين بخصوص مدى تطور اللاعبين.

وأثبت ذلك المشروع نجاحه الكبير، حيث أكد أرويو أن النادي الآن بات مستعدًّا لإطلاق اللاعبين نحو الاحتراف الأوروبي بعمر 18 و19 عامًا وليس فقط من تخطوا سن الـ 25، حيث باع النادي في أغسطس الماضي جويل أوردونيز بعمر الـ 18 إلى كلوب بروج البلجيكي، وابن الـ 19 عامًا أنتوني فالنسيا نحو نفس الدوري من بوابة رويال أنتويرب، وقبل ذلك بعام كان النادي يرسل موسيس كايسيدو وبييرو هينكابي إلى برايتون الإنجليزي وباير ليفركوزن الألماني على الترتيب، وكلاهما كان يبلغ حينها عامه الـ 19.

ولتعزيز البنية التحتية لأكاديمية النادي، وقع ديل فال اتفاقًا مع أكاديمية «أسباير» القطرية مما ساعده في إنشاء أكثر من مقر لأكاديميته في جميع أنحاء الإكوادور، وفي العام 2018 أبرم النادي صفقة مع نظيره أليانزا كوتوباكسي بعد عام من صعود هذا الأخير لدوري الدرجة الثانية الإكوادوري ليكون فريقه الاحتياطي في تجربة شبيهة لما فعلته أسباير مع نادي إيوبين البلجيكي.

ما قبل المونديال

ظهرت نتائج ما بدأه النادي التابع لمدينة سانجولوكي الإكوادورية والملقبة بـ «قلب الوادي» قبل مونديال قطر 2022 بكثير، حيث أسفر النهج المتبع لإنديبيندينتي عن تكوين مصنع حقيقي يزوِّد المنتخب الإكوادوري بكافة فئاته العمرية، وهو ما كشفه موقع الفيفا، حيث قدم النادي أربعة لاعبين من خريجي أكاديميته في قائمة الفريق الذي حقق برونزية مونديال تحت 20 عامًا عام 2019 في بولندا، كما شارك تسعة لاعبين من أبنائه في قائمة المنتخب المشارك في مونديال تحت 17 عامًا في نفس السنة والتي احتضنتها البرازيل، كما شارك ستة من لاعبيه ضمن قائمة الفريق الذي خاض غمار بطولة تحت 20 عامًا في 2017 على ملاعب كوريا الجنوبية.

وعلى الرغم من تصديره للمواهب مؤخرًا باستمرار للأندية الأوروبية، ولكن هذا لم يمنع النادي من تكوين قوة حقيقية على مستوى منافسات الأندية القارية لفئة الشباب على مستوى الكومنيبول، حيث بلغ النادي نهائي بطولة كوبا ليبيرتادوريس تحت 20 عامًا في النسخ الثلاثة الأخيرة، فاحتل الوصافة في نسختي 2018 و2022، وحقق البطولة مرة وحيدة عام 2020 حين هزم ريفر بليت في النهائي، علمًا بأن البطولة تُقام كل عامين.

 وحصد نادي مدينة «قلب الوادي» ثمار عمله في مونديال 2022 حين قدَّم لقائمة منتخب الإكوادور المسافرة لمونديال قطر 12 لاعبًا من خريجي أكاديميته، والذين تنقلوا للاحتراف خارج الإكوادور، ولعل أبرزهم موسيس كايسيدو متوسط ميدان برايتون، وبييرو هينكابي مدافع باير ليفركوزن، وجونزالو بلاتا جناح نادي بلد الوليد الإسباني، كما أنه امتلك لاعبًا بين صفوفه ضمن الأربعة المحليين التي ضمتهم قائمة المدرب جوستافو ألفارو.

انتشار ثوري

ما فعله إنديبيندينتي كان ثورة حقيقية ساهمت في انتشار اللاعب الإكوادوري في أوروبا بشكل كبير، فقبل المشاركة المونديالية الأولى للإكوادور في كوريا واليابان عام 2002 ضمت القائمة التي استدعاها حينها المدرب الكولومبي هيرنان داريو جوميز ثلاثة لاعبين محترفين فقط من أصل 23 لاعبًا، حيث كان اللاعب الإكوادوري مجهولًا حتى على مستوى الدوريات في الدول اللاتينية القوية مثل الأرجنتين والبرازيل والمكسيك، وقد ضمت القائمة لاعبًا في الدوري الإنجليزي ومثله في الجارة أسكتلندا، بينما كان القائد أليكس أجيناجا هو اللاعب الوحيد الذي ينشط في أمريكا خارج الإكوادور، حيث كان يلعب لنادي نيكاكسا المكسيكي.

ولم يختلف الحال كثيرًا خلال المشاركة الثانية في 2006، حيث زاد المحترفون خارج البلاد بمقدار لاعبين فقط، وحينها بقي عدد المحترفين في أوروبا عند لاعبين بالإضافة إلى لاعب في الدوري الأرجنتيني، بينما كان الأمر الجديد على الإكوادور هو احتراف لاعبين في الخليج وتحديدًا الدوري القطري، حيث كان يلعب القائد إيفان هورتادو لنادي العربي، والمهاجم كارلوس تينوريو مع نادي السد، وعلى الرغم من ذلك كانت مشاركة ممتازة نجحت خلالها الإكوادور في تجاوز دور المجموعات قبل أن تخرج من دور الـ 16 بصعوبة أمام إنجلترا بهدف ديفيد بيكهام.

وبعد الغياب عن نسخة 2010 في جنوب أفريقيا بدأ اللاعب الإكوادوري في تعريف نفسه خارج البلاد بشكل أكبر، عندما شارك المنتخب مُجددًا في نسخة 2014 على الأراضي البرازيلية بقائمة تقلص عدد محلييها إلى تسعة مقابل 14 لاعبًا خارج البلاد، وإن لم يرتفع عدد محترفي أوروبا كثيرًا مقارنةً بـ 2006، حيث شارك أربعة لاعبين فقط ينشطون في أوروبا، ولكن كان النادي في بداية هذا المشروع، ورغم ذلك مر بين جدرانه ثلاثة من اللاعبين المشاركين مع المنتخب حينها.

بيد أن الطفرة الحقيقية حدثت في القائمة الإكوادورية التي سافرت إلى قطر لخوض منافسات المونديال الأخير، حيث شملت قائمة البلد اللاتيني عشرة لاعبين محترفين في أوروبا مقابل 12 لاعبًا ناشطًا في الدوريات اللاتينية، بينما تقلص عدد المحليين إلى أربعة لاعبين فقط، وبمعدل أعمار 25.81 عامًا، وهو المعدل الأقل بين المشاركات المونديالية الأربعة للإكوادور، وكما أسلفنا قدم إنديبيندينتي ديل فال 12 خريجًا من أكاديميته لتلك القائمة، مما يعكس التطور الكبير في الكرة الإكوادورية التي باتت أكثر انفتاحًا، وفي ذهنية اللاعب الإكوادوري الذي بات مطلوبًا أكثر، كما زادت رغبته في الخروج من البلاد والقارة اللاتينية والتوجه نحو أوروبا.

سقف مرتفع

ما فعله إنديبيندينتي ديل فال رفع أولًا من جودة اللاعب الإكوادوري، وها نحن نقرأ الأخبار التي ربطت موسيس كايسيدو بالانتقال إلى تشيلسي أو أرسنال خلال الميركاتو الشتوي المنقضي، بيد أن طلب برايتون لـ 90 مليون يورو أجَّل رحيله إلى الصيف على أقل تقدير، كما أبدى نادي توتنهام اهتمامه بالحصول على خدمات بييرو هينكابي من باير ليفركوزن ولكن النادي الألماني لم يبدِ اهتمامًا ببيع اللاعب حاليًّا.

كما أن ارتفاع جودة لاعبي المنتخب ساهم في رفع سقف التوقعات، حيث استهدف المنتخب اللاتيني بلوغ ربع نهائي مونديال قطر وهو هدف لم يتحقق، ولكن المنتخب على الطريق الصحيح إذا استمر على نفس المنوال على الأقل، حيث في آخر مشاركتين خرجت الإكوادور من المجموعات برصيد بلغ أربع نقاط، وهو رصيد بنسبة كبيرة سيكون كافيًا لبلوغ إقصائيات المونديال بعدد منتخباته الجديد الذي سيصل إلى 48 بدايةً من نسخة عام 2026، حيث ستتضمن المجموعات نظام أحسن الثوالث، وهو ما سيزيد من فرص الإكوادور إذا بلغت نفس الرصيد النقطي على أقل تقدير وربما تفوقه، وحينها ربما تحاكي أو حتى تتخطى ما حققه جيل 2006 الذي لعب دور الـ 16، وحينها ربما نتحدث عن دور أكبر لفريق مدينة «قلب الوادي»، الذي نجح في صنع مشروع حقيقي في قارة بدت مشاريعها الكروية في طريقها نحو الانقراض.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.