في حوارٍ أجراه معه مندوب هيئة الإذاعة البريطانية، لم يجد الشيخ شعيشع -الذي بلغ أجره عام 1948 في الليلة 100 جنيه- تفسيراً لما آلت إليه أحوال «دولة التلاوة» في مصر، سوى الأكل البلاستيك الذي صار يتناوله المصريون.

الشيخ شعيشع، الذي أقّلته يومًا الطائرة مع الشيخ الشعشاعى إلى بغداد من أجل إحياء ليالي مأتم الملك غازي في العراق، رأى أن الساحة فرغت فجأة، فلم يخجل أن يعلن رأيه بكل صراحة، على الأغلب كان هذا الرأي تنبؤًا بمستقبل أكثر منه قراءةً لحاضر. لم يعش الشيخ حتى يشهد لحظة الخواء التام التي تسيطر على «دولة التلاوة» في مصر حالياً.

الشيخ «محمد رفعت»: الشيخ الأسطورة

إشاعات كالأساطير تتناثر حول الشيخ محمد رفعت، منها ثورة أعلنها مستمعو الإذاعة بعد خلاف نشب بينها والشيخ، أو كنوز الثري الهندي «حيدر آباد» التي أدار لها رفعت ظهره لأجل إحياء ليالي الفقراء بالمجان. لكن هناك حقيقتان مؤكدتين؛ الأولى، أنه الوحيد الذي انتزع لقب صوت الشعب بلا منازع، لدرجة أن أحد الجزارين أعدَّ في صمت مقبرة محترمة صمّم أن يُوارَى بها جسد رفعت، وصمّم أيضًا على حمله بنفسه إلى مثواه الأخير.

من النوادر في مسيرة الشيخ رفعت هو شيخ آخر يُدعى علي محمود، ظهر في بداية القرن الماضي، يتمتع بقوة جسمانية خارقة وعضلات مفتولة، أجبره حظه السيئ بعد إصابة حنجرته بالمرض، على الاعتزال والاكتفاء بالجلوس على دكة القارئ في المآتم والمناسبات ولعب دور السنيد، بتكرار بعض العبارات المحفوظة المكررة.

كان الجميع يخضع في رهبة لقوة الشيخ علي محمود لدرجة استقطاع جزء من أجر القارئ لصالحه، حتى أتت محاولة مضايقته للشيخ رفعت في سرادق عزاء، لسوء حظ الشيخ علي محمود كان مُقامًا في منطقة «المدبح»، وهي الحادثة التي وضعت حدًا لسطوته بعد «علقة ساخنة» نالها هذا الأخير.

الحقيقة الثانية المؤلمة، أنه لم يتبق من مسيرة الشيخ رفعت سوى بعض أشرطة قليلة… قديمة… مهترئة… لم تجد الإذاعة معها عام 1950 سوى استدعاء الشيخ شعيشع الذي كان يقرأ بنفس طريقة رفعت وأسلوبه، ليُكمل هذه الأشرطة دون أن يستطيع المستمع التفرقة بين صوت الشيخين.

الشيخ «عبد الباسط عبد الصمد»: آخر ليالي المولد

بدأ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد حياته بمآتم لأحد أبناء عائلته، حصل منه على 10 قروش كاملة، اشترى بها في الصباح كافة أصناف الحلوى المتاحة وقتها في ريف الصعيد، قبل أن تفتح له مآتم أخرى في قرية قريبة إلى بيوت أعيان الصعيد، ثم أتت ليلة السعد، آخر ليلة في مولد السيدة زينب بالقاهرة، عندما أخذ فرصة للقراءة بينما يستريح المشايخ الكبار، انتهى منها قرب الفجر والمسجد ليس فيه موطئ قدم.

أحضر بعدها الشيخ «عبد الباسط» أهله إلى القاهرة وقرر اعتزال الصعيد، وصل أجره إلى 125 جنيهًا للنصف ساعة في الإذاعة، و100 جنيه في الليلة، قبل أن يقفز أجره إلى 200 ثم 300.

كان الشيخ أحمد ندا- الذي بلغ أجره ببيوت الباشاوات والعُمد 100 جنيه كاملة في الليلة الواحدة- حريصًا على اقتناء حنطور في رحلاته إلى العمل، الأمر الذي أثار غيرة الخديوي فأصدر فرمانًا يجبره على الاكتفاء بزوج واحد فقط من الخيول بدلًا من ستة. وعلى نفس المنوال حرص أيضًا الشيخ عبد الصمد على اقتناء سيارة «شيفروليه» آخر موديل وتليفون أخضر اللون، كان يُعد علامة بارزة من علامات الثراء حين اقتناه.

انطلق الشيخ «عبد الصمد» في طريق الشهرة والنجاح كالقطار بأقصى سرعة، لم يوقفه شيء سوى مرض السكري، الذي أنهك جسده، وأثّر على أحبال صوته، وكتب نهاية الشيخ.

الشيخ «الطبلاوي»: آخر العظماء ودسائس دولة التلاوة

تعود جذور الشيخ محمد الطبلاوي إلى قرية صفط جدام بمركز تلا- بلد الرئيس الراحل محمد أنور السادات- في المنوفية، وقد كان من أساطير التلاوة التي وفّر لهم الحظ فرصًا عديدة.

امتلك الشيخ الطبلاوي أحبالًا صوتية شهد لها الموسيقار محمد عبد الوهاب، ووصفها بالمعجزة التي تؤدي النغمات المستحيلة. رفع الطبلاوي الأذان في مسجد شركة «ماتوسيان» للدخان بمحافظة الجيزة، حيث بدأ حياته موظفًا هناك. فتح له مأمون الشناوي الباب عندما تعاقد معه لأداء تسجيلات لشركة «منتصر» التي كان يديرها حينئذ، وجاءت النتيجة مدهشة. وبعد أن تقدم الطبلاوي للالتحاق بالإذاعة تسع مرات وفشل بحجة عدم إجادة المقامات الموسيقية، وجد نفسه يعتلي دكة القارئ بثبات، فعرف طريق الشهرة والصحافة والإعلام.

بخلاف صوته، لم يملك الطبلاوي ما يشفع له، لا نفاق أو أساليب ملتوية، فكان أكثر من عانى من الدسائس في «دولة التلاوة»، عقد الجميع عليه حلفًا صريحًا وصل إلى حد وضعه احتياطيًا في تصنيف القُرّاء في التلفزيون، وعدم إذاعة صلاة الجمعة من الجامع الأزهر عندما يكون الطبلاوي هو القارئ في ذلك اليوم.

وصلت المنافسة بينه والدكتور نعينع إلى أن اتصل هذا الأخير باللواء عبد الحليم موسى ليشتكي له أن الشيخ الطبلاوي هو منْ يقف وراء هجوم الكاتب محمود السعدني عليه، بينما اتصل الطبلاوي بدوره بـإبراهيم نافع ليشتكي أن وراء هجوم نفس الكاتب عليه هو الدكتور نعينع.

واحد فقط هو منْ أعطى الطبلاوي مساحة الظهور على دكة القُرّاء جواره، حيث اقتسم معه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد إرث «دولة التلاوة» من عام 1975 وحتى 1980، وبدوره التقط الطبلاوي مفاتيح النجاح، عرف مكانه بالضبط عندما رحل عبد الصمد عام 1988، ليستحوذ على لقب «آخر القُرّاء العظام».

وفي مايو/أيار 2020، أتت لحظة الوجع بوفاة الطبلاوي، صارت دكة القُرّاء فارغة، وقد جانب السمّيعة صواب الطرب، وارتبك التاريخ، فلم يعد قادرًا على تدوين سطر جديد في لائحة أسماء «دولة التلاوة».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.