رحل هنري كيسنجر بعد 100 عام كاملة، نصفها قضاها في دهاليز السياسة الأمريكية بشكل رسمي، والبقية قضاها بصفته مستشارًا غير رسمي للقادة الأمريكيين، ونموذجًا يحاول وزراء خارجية بلاده أن يصبحوا مثله. فالرجل ضمن قلة قد حصدوا جائزة نوبل في السلام، صحيح أن عضوين من اللجنة استقالا اعتراضًا على ذلك، وصحيح أن الهدف الذي حصل لأجله على الجائزة، وهو وقف النار في فيتنام، قد فشل، لكن ظلت الجائزة معه، وظل اسمه يتردد كلما ذُكر الحاصلون عليها.

كان من الممكن أن يكون رحيل هنري كيسنجر مصحوبًا بعبارات العار من دبلوماسي أمريكي مُدان من قبل المحكمة الجنائية الدولية، لولا أن الرئيس الأمريكي، جورج دبليو بوش،  رفض معاهدة روما المتعلقة بالجنائية الدولية. ليكون بذلك كيسنجر شاهدًا على أبسط قواعد النظام العالمي الذي ساهم هو شخصيًّا في تأسيسه ألا وهي أن الولايات المتحدة الأمريكية تفعل ما تشاء دون محاكمة، بينما يجب أن يُحاكم الآخرون على أشياء أقل للغاية مما تقوم به الإدارة الأمريكية.

وبهذا ضمن كيسنجر أن يعيش للأبد بوصفه دبلوماسيًّا أمريكيًّا مرموقًا، أو في أسوأ الحالات أن يوصف بالدبلوماسي المثير للجدل، أو الرجل ذي الدم البارد، كما تصفه بعض الصحف الأمريكية التي تتحدث عنه. لكن غالبًا مهما تعددت الأوصاف فإنه تُتبع بعبارة أو عبارات توضح مدى الانبهار بالأثر الذي أحدثه الرجل في السياسة الدولية، وبمدى عمق ذلك التأثير لدرجة أن يصبح هو المرجع للعديد من الساسة الأمريكيين حاليًّا ومستقبلًا.

لكن هذا الانبهار بأثر الرجل غير مشترك بين من يجنون ثمار أفعاله وبين ضحايا تلك الأفعال. يراه المعجبون به مثالًا لما يجب أن تكون عليه المهابة الأمريكية الخارجية، وأن طريقته هي الطريقة الوحيدة لإجبار العالم على احترام الوجود الأمريكي. لكن يراه ضحاياه، وبعض الموضوعيين الذين نظروا في سيرة الرجل بحياد، أنه ليس إلا امتدادًا لأفكار أسلافه من الأمريكيين والفرنسيين، بضرورة استمرار التدمير والإبادة دون توقف.

 مثلما كان الأمر في كمبوديا التي دعم كيسنجر استمرار قصفها دون وجود أفق واضح لما يريد الرجل تحقيقه من وراء هذا القصف، خصوصًا أنها لم تكن في حالة حرب معه، ولم يكن حتى قصفًا معلنًا بل سريًّا كي لا يخضع لأي تدقيق أو مُساءلة.

لكن لم تكن المبررات هي ما يشغل بال كيسنجر معظم الوقت، ولا حتى العواقب المستقبلية، بل كان يريد للولايات المتحدة أن تثبت أنها موجودة وقادرة على قصف أي أحد، في أي وقت وفي أي مكان. مثلما حدث في حرب العراق، فقد كان يرى الرجل أنها ستتحول إلى كارثة إقليمية، وسوف تجر الويلات على بلاده، لكنه رغم ذلك تماهى مع المزاعم الأمريكية بضرورة تدمير قدرات العراق.

ربما كان هدفه من كل تلك الحروب هو حفر اسمه في التاريخ لقرون قادمة. لا يهم كم كلَّف هذا الحفر من الأرواح البريئة أو الدمار، لكن المهم أن يصبح كيسنجر هو القدوة لمن يأتي بعده. كأن تصرِّح هيلاري كلينتون وأنتوني ليكس أنهما يريدان أن يصبحا مثل كيسنجر. رغم أنهما سيردفان عبارة خجولة عن أنهما بالطبع لا يريدان الوقوع في أخطائه، ويريدان تجنُّب عيوبه، لكن في أحاديثهما مع الرجل، أو عنه، لا يبدو أنهما يعتقدان حقًّا أن تلك كانت أخطاءً أو عيوبًا، بل يريانها ضرورةً من الضروريات التي يجب عليك أن تتحملها كي تصبح شخصًا تاريخيًّا مثله.

كأن تتعاطف مثلًا مع دكتاتور فاشي مثل بيونشيه، وأن تصرِّح بعبارات واضحة أنك ستكون سعيدًا للغاية إذا عاد بيونشيه لبلاده. والأهم أن كيسنجر استخدم كل السبل طيلة عامين كي يتجنب المثول أمام القضاء، وكي يهرب من الإدلاء بشهادته. رغم أن كل شيء قام به بيونشيه كان بدعم، أو باقتراح، أمريكي. وجود بيونشيه في الحكم أصلًا هو تخطيط قاده كيسنجر وأشرف على تنفيذه شخصيًّا. فقد كان يعتقد أن وصول أي اشتراكي للحكم هو خطر، ويزداد الخطر إذا أتى الاشتراكي للحكم عبر وسيلة ديمقراطية معتمدة، الانتخابات.

لذا قرر كيسنجر، ومعه وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، الإطاحة بسلفادور الليندي المُنتخب. ورتَّب كيسنجر كل الأوراق كي يسيطر المتطرف بيونشيه على السلطة، ويبدأ 17 عامًا طويلة من القمع والقتل والتعذيب الوحشي. بجانب طبعًا تدمير أصول الدولة، والتقشف المبالغ فيه، والسماح للشركات الأجنبية بتهريب كامل أرباحها للخارج. المرعب في المشهد ليس أن الموقف الأمريكي كان داعمًا أو صانعًا فحسب، بل كان الساسة الأمريكيون يرون في وجود بيونشيه في السلطة إنجازًا ضخمًا لكيسنجر، كأن تقول هيلاري كلينتون إن هذه السياسة هي أفضل إنجازات كيسنجر.

وإذا أردنا إحصاء ما يمكن أن يُطلق عليه إنجازات كيسنجر فسنجد أنه في أول ثماني سنوات فحسب ما بين عام 1969 وعام 1976، حين كان وزير الخارجية لريتشارد نيكسون ثم جيرالد فورد، قد تسبب بشكل مباشر في إزهاق قرابة 4 ملايين روح. بسبب القصف الذي رعاه في كمبوديا، وبسبب إعطائه التصريح لإراقة الدماء في إندونيسيا، وفي باكستان.

في باكستان تحديدًا سمح كيسنجر بحدوث إبادة  على يد يحيى خان ضد حركة الاستقلال، فقتل يحيى خان قرابة 300 ألف إنسان، كل ذلك كي لا تصبح باكستان عدوًّا يمكن أن يعكر صفو العلاقات بين الولايات المتحدة وبين الصين بعد أن بدأت تتعافى علاقتهما نسبيًّا بعد مجهودات ينسبها الأمريكيون لكيسنجر، وينسبها المؤرخون لشارل ديجول.

كما أن العديد من الضحايا سقطوا، ويسقطون، بسبب تلاعب الولايات المتحدة بالأكراد، حيث تستميلهم حينًا ثم تتخلى عنهم وقت الأزمات ليواجهوا مصيرًا دمويًّا على يد من تمردوا على حكمهم ظنًّا أن الدعم الأمريكي معهم. ويمكن قراءة أثر الرجل في السياسة الأمريكية من معرفة أن إغواء الأكراد ثم تركهم للموت صار تقليدًا أمريكيًّا حتى اليوم.

كما أن العديد من الصور تُظهر الرجل محاطًا بصغار وكبار الساسة، وبضباط الجيش، وبالمسئولين الأمريكيين، سواء كانوا في الخدمة أو خارجها، كلهم يلتفُّون حوله في محاولة للنهل من معين الرجل الذي خلق لهم الولايات المتحدة التي يحبونها.

من الأوجه التي صاغها كيسنجر كانت العلاقة المشبوهة بين السياسي والصحفي. فقد كان الرجل يمرر العديد من المعلومات الداخلية للصحفيين في مقابل أن يكون هؤلاء بمثابة الدرع التي تحميه من هجمات أي صحفي آخر. والأهم من هجماتهم هم شخصيًّا حين يرون قراراته التي أخطأ في معظمها تؤدي إلى عواقب كارثية على المستوى الدولي أو الداخلي. وبالطبع كان كيسنجر لا يُكن احترامًا لهؤلاء المراسلين، فكانت معاملته معهم أقرب للإهانة والتسلط، لكن كانت المعلومات التي يحصلون عليها، والهالة المحيطة بالرجل، تجعلهم يقبلون منه أي شيء.

يستطيع كيسنجر أن يقنع أي طرف أنه ينتمي إليه، كان من صقور البيت الأبيض الذين يؤيديون العنف لأجل العنف. وفي نفس الوقت كان يبدو أليفًا مع أصدقائه الليبراليين ومتفقًا معهم في أفكارهم. فرغم الاختلاف الظاهر بين الإدارات الأمريكية فإن جميعها قد اتبعت نهجه. حتى إدارة باراك أوباما التي غلب عليها الحديث الليبرالي والمنفتح على العالم فقد كان كيسنجر حاضرًا كمرشد لها. لكن بصبغة ليبرالية جعلت كلينتون تصرِّح أنها وأوباما يتفقان على ضرورة الاستمرار على نهج كيسنجر في بناء عالم عادل وليبرالي.

هذا العالم العادل الذي يرون أن كيسنجر صاغه هو نفسه العالم الذي قرر فيه كيسنجر إطالة أمد الحرب في فيتنام كي لا يحصل الصلح على يد ليندون جونسون، منافس نيكسون في الانتخابات. وأوعز كيسنجر للنظام الموالي للولايات المتحدة في فيتنام أن يماطل في المفاوضات حتى يصل نيكسون إلى السلطة. وبالفعل وصل إلى البيت الأبيض محمولًا على وعود بوجود برنامج قادر على تحقيق المصالحة في فيتنام. وحتى حين وصل نيكسون واكتشف أن آماله في المفاوضات ضعيفة، نصحه كيسنجر بالقصف العشوائي والوحشي لكل مكان كي يهرول الفيتناميون إلى طاولة المفاوضات.

لم يكن لكيسنجر سلطة في الإدارة العسكرية، لكنه كان يختار بنفسه أماكن القصف المحتمل. وكان يقرأ كل المعلومات الاستخباراتية، فكان بمثابة الرجل الأوحد في الدولة الديمقراطية وتجتمع في يده كل الخيوط. فقد كان يتجاوز الحقوق الدستورية للكونجرس الأمريكي، ومن أبرزها الحق في إعلان الحرب، وقد أعلن منفردًا حربه السرية والاستخباراتية على كمبوديا وغيرها من دول العالم.

واضعًا بذلك تقليدًا أمريكيًّا بقصف أي أحد، المهم أن يبقى الأمر سرًّا، أو أن تُعلن عن الحد الأدنى من المعلومات، كي يصبح الجميع متورطًا في الأمر. وقد ورَّط الرجل في حياته، وفي موته، الساسة الأمريكيين في مستنقع من الأفكار والتاريخ. سيحتاج الساسة عقودًا كي يكتشفوا حقيقة الولايات المتحدة التي كان يمثلها الرجل، وأن أول خطوة لإنقاذ الولايات المتحدة من انهيارها الوشيك بصفتها شرطي العالم، هو مراجعة إرث هنري كيسنجر، لا لاتباعه والاقتداء به، بل للتبرؤ من غالبيته.