ما تزال مذكرات الدبلوماسيين والسفراء تحتل مكانة مرموقة بين مصادر التاريخ، خاصة التاريخ السياسي، باعتبار أصحاب هذه المذكرات أناسًا صنعوا الأحداث، أو شاركوا في صنعها، أو كانوا على الأقل قريبين من صنّاعها، وعاشوا في كواليس المسرح السياسي؛ فكان لهم دور في الظل، ربما هو أكبر من دورهم في العلن.

والسفير يمثل دولته وإستراتيجيتها، ويعبر عن رغباتها وأطماعها، ويقوم بدور المدافع عن حقوقها، والمبرر لسياساتها لدى الدولة التي يعيش فيها سفيرًا، وهو أيضًا عين دولته الساهرة على رعاياها وامتيازاتها في الدول الأخرى، وكذلك عينها التي ترصد كل شاردة وواردة في أنحاء مدن هذه الدولة، عبر قناصله ووكلائه، يتلقى تقاريرهم، ويحللها، ويستنتج منها ما يعين وزارة الخارجية في دولته على اتخاذ مواقفها ورسم سياساتها وتعديل خططها واتخاذ تدابيرها… إلخ.

هذا هو الوضع الطبيعي، مع الأخذ في الاعتبار أن كتب المذكرات عامة بما فيها مذكرات السفراء والدبلوماسيين، لا تنجو من التبريرات والتعليلات والدفاع والميل إلى جانب دون الآخر، والتعصب لاتجاه دون الثاني، وكثيرًا ما تفتقر إلى الحياد والتجرد، إنما هي في كل الأحوال تحمل مادة تاريخية ثرية يستطيع الباحث الحصيف استخراجها بعد تنقيتها من الشوائب المذكورة.

وتزداد هذه المذكرات أهمية وخطورة عندما تضع الظروف صاحبها في ملابسات حساسة من حيث الزمان والمكان والأحداث، كتلك التي بين أيدينا، فهي مذكرات السفير الأمريكي في العاصمة العثمانية إبّان الحرب العالمية الأولى، وكانت أمريكا حينها بعيدةً عن الصراع الأوروبي، وإمبراطورياته العجوز المتهاوية، وقومياته الفتية المتنامية، وأطماعه المتصادمة؛ تقبع في الركن الغربي القصِيّ من الكرة الأرضية، تنعم بعنفوان شباب دولتها واقتصادها، بينما العاصمة العثمانية تعُجّ بثورات الأقليات، خاصة الأقلية الأرمنية، وانقلاب الجمعيات الطامحة في الإصلاح، أو الطامعة في الحكم، لاسيما جمعية «تركيا الفتاة»، والتي عرفت بعد ذلك باسم «الاتحاد والترقي» التي أطاحت عام 1909 بحكم السلطان الداهية عبد الحميد الثاني آخر السلاطين العثمانيين الكبار.

مورجنثاو في أتون الحرب

وفي تلك الأثناء، يشتعل فتيل الأحداث في برميل البارود، تلك المنطقة المشتركة ما بين الشرق والغرب، بين أملاك الدولة العثمانية الإسلامية الشرقية وبين القوميات والأقليات الأوروبية المسيحية الغربية، البلقان؛ حيث تبدأ منها الشرارة الأولى التي أشعلت الحرب العالمية الأولى، أو على التحقيق كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، وكان مقتل الأرشيدوق النمساوي هو المبرر لانفجار الصراعات في القارة العجوز.

في هذا الخضم المتلاطم، يأتي هنري مورجنثاو سفيرًا لبلاده، الولايات المتحدة الأمريكية، إلى الآستانة/ إستانبول، وما كان أغناه عن هذا المنصب، أو هذا التكليف المضني في الزمان والمكان والظروف. فالرجل صديق شخصي للرئيس الأمريكي وودرو ولسن، ورئيس لجنة الشئون المالية في حزبه، والمسئول المالي عن حملته الانتخابية التي انتهت بفوزه، وكان لمورجنثاو خبرة في عالم الاقتصاد عبر عمله في سمسرة العقارات، ربما انعكست خبرته تلك على شخصيته وخبرته في عالم السياسة أو الدبلوماسية التي دخلها سفيرًا كمكافأة له من صديقه ولسون. وإن كانت مكافأة غير مرضية، قبلها مورجنثاو بعد إلحاح حاخام اليهود في أمريكا، وتدخل الرئيس ولسون.

هنري مورجنثاو سفير الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق
هنري مورجنثاو سفير الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق

لكن سرعان ما يعود مورجنثاو مرة أخرى إلى واشنطن بعد ستة وعشرين شهرًا قضاها في تركيا، ليشارك من جديد في حملة إعادة انتخاب ولسون رئيسًا، وأيضًا في حملة ولسون وسياساته الرامية إلى الدخول في الحرب إلى جانب الحلفاء.

فكرة شيطانية

وإزاء معارضة الرأي العام الأمريكي، بل وفتوره تجاه هذه الحرب، يرى مورجنثاو، وفق مقترحات آخرين، أن يدوّن مذكراته كسفير شاهد على أحداث الحرب وأسرارها لدى اطلاعه عليها أثناء إقامته في الآستانة، وبالفعل يدوّنها لتنشر كسلسلة مقالات تصنع طفرة في أعداد توزيع المجلة التي تنشر تلك المقالات، والأهم من ذلك تساهم بشكل فعال في حشد الرأي العام الأمريكي باتجاه سياسة ولسون لدخول الحرب، ومن ثم إنهائها لصالح الحلفاء ثم الجلوس في مقعد الحكم لتقسيم تركة المنهزمين، أو إقرار السلام العالمي بسرعة، كما يرى مورجنثاو.

وعندما نطالع عنوان «قصة السفير مورجنثاو» تتملكنا الإثارة، فالقصة في حد ذاتها أيًّا كانت هي شيء ممتع ومثير، وما أكثر إثارتها إذا كانت قصصًا واقعية في حبكة كهذه، تحمل من الأسرار والمفاجآت ما يرغم القارئ على المتابعة والمواصلة حتى آخر كلمة.

لكن الأكثر إثارة من «قصة السفير مورجنثاو» هي تلك «القصة التي وراء قصة السفير مورجنثاو». فإذا كانت الأسرار ممتعة ومثيرة، فإن الأسرار التي وراء الأسرار بالتالي تكون أكثر متعة وأعمق إثارة، لكنها في حالتنا تلك صادمة.

القصة التي وراء قصة السفير مورجنثاو

فالكاتب والمؤرخ الأمريكي هيث لوري يجري دراسة تحليلية ووثائقية حول هذه «المذكرات»، أو هذه «القصة»، فيكشف لنا الكثير من القصص التي وراء القصة.

اعتمد هيث لوري على آلاف الأوراق التي تركها مورجنثاو في أرشيف المكتبات الأمريكية، ما بين يوميات ومذكرات وخطابات وتقارير.. إلخ، وقارنها بما جاء في الكتاب، وكانت المفاجأة أن الكتاب في الكثير من الأحيان قصص ملفقة وتحوير للنصوص والأحداث في حبكة صحفية محترفة، صنعت لجلب الإثارة والتأثير على الرأي العام الأمريكي، دون اعتبار للحقائق أو التاريخ، بل والأدهى من ذلك أن هذا الكتاب/القصة اعتُبر كمرجع ومستند رسمي استند عليه الكونجرس الأمريكي كوثيقة إدانة للأتراك في ارتكاب حكومة «الاتحاد والترقي» جريمة إبادة جماعية ضد الأقلية الأرمنية، رغم أن الكتاب كان مجرد «قصة» ربما لا ترقى أن تدخل في مجال الأدب، وتتوقف مكانتها عند «البروباجندا».

وتتوالى المفاجآت التي يكشف عنها هيث لوري في تشريحه الوثائقي لهذا الكتاب، حيث يتناول المشاركين الحقيقيين في تدوين الكتاب وصياغته وتعديله، بل وفكرة الكتاب من أساسها، والتي تطورت لتصبح فيلمًا سينمائيًّا لولا تدخل الرئيس ولسون الذي رفض فكرة تحويل الكتاب إلى فيلم؛ لأنهم «تمادوا في هذه المسألة أكثر من اللازم»!

تزوير ومفاجآت العصابة «الأرمنية»

والمفاجأة الكبرى أن هذه المذكرات لم يكتبها مورجنثاو ،من كَتب هذه القصة؟ في الواقع، وفقًا لما قدمته الأوراق الحقيقية لمورجنثاو في مكتبة الكونجرس من معلومات، يتضح أنها قصة جماعية تحمل فقط بعض الملامح العامة لما رآه هنري مورجنثاو بالفعل أثناء قيامه بمهام منصبه في تركيا.

برزت قصة السفير مورجنثاو إلى الوجود بقلم برتون هندريك الكاتب الحقيقي للكتاب، وهو كاتب صحفي مميز، فاز بجائزة بلتزر للصحافة وكتابة التراجم والتاريخ.

بالإضافة إلى مساعد السفير مورجنثاو وسكرتيره الأرمني هاجوب أندونيان الذي تبعه في عودته إلى واشنطن، وبقي معه خلال فترة إعداد الكتاب، وكان هو أيضًا الكاتب الحقيقي لخطابات مورجنثاو ويومياته بإملاء من مورجنثاو، وتفويض لهاجوب «بإدخال ما يراه من تحسينات» على ما يمليه عليه.

شارك في المذكرات أيضًا أرتاج سكمافونيان، وهو من أرمن تركيا، تم تعيينه في الإدارة الأمريكية في واشنطن عام 1918 كمستشار خاص، كما عمل أيضًا كمترجم للسفير مورجنثاو في إستانبول، وهناك رافقه في كل اجتماعاته الرسمية. كان سكمافونيان هو المساعد الرئيسي لمورجنثاو في فترة توليه منصبه كسفير في تركيا، وأيضًا في الفترة التي كتب فيها «قصة السفير مورجنثاو» عام 1918، حتى أنه كان مكلفًا من الإدارة الأمريكية بالتعليق على مخطوطة مورجنثاو.

وآخر المشاركين في كتابة مذكرات مورجنثاو هو وزير الخارجية الأمريكي روبرت لانسينج، الذي كان يقرأ كل فصل من فصول الكتاب ويعلق عليه بأمر من الرئيس ولسون.

كانت موضوعات «قصة السفير مورجنثاو» ومهمتها هي إعطاء المصداقية عن أن قصته من البداية إلى النهاية هي بطولة الثلاثي الشرير، طلعت وأنور ووانجنهايم، مع إصرارهم بشكل مكرر وواضح على إدانة أنفسهم.

هناك حقيقة واحدة لا جدال فيها: ليس هناك أي بيان من البيانات الواردة في الكتاب كله قد أدلى به أي مسئول تركي أو ألماني.

لقد أراد الكاتب أن يكون لديه مؤشرات قوية تدين الحكومية الثلاثية لجمعية الاتحاد والترقي، طلعت وأنور وجمال، وتدين ألمانيا وقادتها في الحرب، لتدعم المحور الأساسي لقصة السفير مورجنثاو، وهو أن أمريكا تحارب محور الشر، وهي تدين هذه الحكومة بمحاولتها إبادة الأرمن.

أهم مجموعة عامة من المستندات عن حياة وعمل السفير هنري مورجنثاو (1856 – 1946) موجودة بمكتبة الكونجرس بواشنطن، في قسم المخطوطات تحت عنوان «أوراق هنري مورجنثاو»، قرابة 30000 مقالة تحت تصرف الباحثين في شكل مجموعة من 41 بكرة ميكروفيلم. في هذه الدراسة، سنرمز إلى هذه المجموعة بالرمز التالي LC : PHM، متبوعة بتاريخ. وانظر أيضًا، أحمد عبد الوهاب الشرقاوي: أمريكا والبروباجندا الأرمنية .. دراسة وثائقية، دار البشير، القاهرة، 2016.

كتاب أمريكا والبروباجندا الأرمنية أحمد عبد الوهاب الشرقاوي
غلاف كتاب «أمريكا والبروباجندا الأرمنية» — أحمد عبد الوهاب الشرقاوي

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.