بعد هزيمة الجيوش العربية من إسرائيل في عام 1967 أو ما يطلق عليه حرب الأيام الستة أو «النكسة» في مصر، لجأ الكثير من الفلسطينيين إلى الأراضي المجاورة، وتمركز الكثير منهم في الأردن، سعى الفلسطينيون للتحكم في مصائرهم داخل العالم العربي، خاصة بعد هزيمة الجيوش النظامية، سيطر الفدائيون على مخيمات اللاجئين الخاصة بهم، وأعلنوها مناطق حرة لهم السلطة عليها.

تحرك الفلسطينيون بحرية على الأراضي الأردنية، سواء مدنيون أو مقاومون مقاتلون يقومون بعملياتهم ضد الاحتلال الإسرائيلي من داخل الأردن بدعم من حكومة جمال عبد الناصر، وتوجس من الملك حسين بعد خسارته السيطرة على الضفة الغربية، تعالت الأيديولوجيا اليسارية بين أفراد وقادة المقاومة، وامتلكت القوى الثورية سطوة كبيرة داخل الأردن، لكنهم انقلبوا على حليفهم جمال عبد الناصر لقبوله دعوة أمريكية للسلام، يقال إن عبد الناصر أعطى الإشارة الخضراء للملك حسين بمعاقبة الفلسطينيين بعد قيامهم بعدة عمليات، بالإضافة لنشاطهم الداخلي الثوري.

احتدمت الصراعات بين السلطة الأردنية والمقاومة الفلسطينية مع ازدياد العمليات المسلحة، مما شكل خطورة على الأردن. ازدادت هجمات الجيش والقوات الأردنية على المقاومين والمدنيين الفلسطينيين مما تسبَّب في قتل عدة قيادات وآلاف المدنيين، وأخيرًا طرد الفلسطينيين من الأراضي الأردنية فيما عرف بعد ذلك بسبتمبر أو أيلول الأسود.

في عام 1970 عزم «جان لوك جودار» مع مجموعة «دزيجا فيرتوف» على صناعة فيلم بعنوان «حتى النصر – Jusqu’à la victoire»، وهو وثائقي يتتبع فدائيين فلسطينيين من جبهة التحرير الفلسطينية في الأردن.

لم يخرج الفيلم إلى النور لأن معظم عناصره الأساسية تعرضوا للقتل على يد القوات الأردنية في أحداث سبتمبر/ أيلول الأسود، عوضًا عن ذلك استخدم جودار في منأى عن جماعة دزيجا فيرتوف المادة المصورة لحتى النصر في فيلم آخر ذي سياق مختلف تمامًا عن نواياه الأساسية في 1976 بعنوان «هنا وهناك here and elsewhere/ ici et – ailleurs».

لم يعد الفيلم يتناول المقاومة، ولا الخطط والتكتيكات للهجمات المسلحة أو حكايات أفراد الميليشيات الصغيرة، لأن العناصر نفسها لم تعد هنا لتروي، كما أن الانتشاء بالنجاحات قوبل بعنف شديد وطرد أصبح من المستحيل معه النظر للموضوع بالشكل نفسه.

فيلم «هنا وهناك» ليس وثائقيًّا عن موضوع أو عناصر بشرية، بل هو فيلم عارض غير مقصود، ولد من حدث طارئ غير متوقع، ينتقد نفسه وثقافة الصورة ومشاهدة الأحداث الحقيقية من خلال شاشة تلفاز صغيرة على الجانب الآخر من العالم.

فيلم غير مقصود

مشهد من فيلم here and elswhere 1976
مشهد من فيلم here and elswhere 1976

يخبرنا فيلم «هنا وهناك» أن هنالك «هنا» و«هناك»، هناك مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين، في موقف سوف يهدد حياتهم بعدما التقطت وخلدت صورهم.

هنا أسرة فرنسية تشاهد من غرفة معيشتها مشاهد لهؤلاء الفدائيين، يخبرنا صوت الراوي أن من نراهم على الشاشة في موضع قوة هم الآن قتلى، ضحايا أحداث سبتمبر الأسود، وهو تصور في غاية القسوة صناعة محتوى سينمائي فكري عن مجموعة من المقتولين غدرًا على أرض احتموا بها كلاجئين، لكن جودار كصانع أفلام يساري يهتم بالسينما المقاومة والسياسية بعدما تعافى من صدمة فشل المقاومة، وتعرضها للغدر حوَّل تجربته لمقال فيلمي عن صناعة الأفلام السياسية، عن التلاعب بها لإظهار نوايا محددة حتى ولو نبلت أهدافها، وبشكل رئيسي عن خيبة الوثوق في حتمية النصر للحركات المقاومة، والتوحد كصانع أفلام مع العناصر التي يدرسها، يحدد هنا وهناك التحول الذي ستأخذه مسيرة جان لوك جودار في اتجاه أفلام أكثر ذهنية بصيغ سينمائية أكثر تحررًا وسياسية.

تبلغ مدة فيلم هنا وهناك أقل من ساعة بدقائق معدودة، ليس فيلمًا طويلًا أو متوسعًا، لكنه مكثف وعفوي على الرغم من استخدامه تقنيات مدروسة بعناية، وعلى الرغم من قصر مدته وصعوبة تصنيفه بين الوثائقي والفيلم المقالي وحتى فن الفيديو، فإنه يمكن تقسيمه لثلاثة فصول:

فصل استيعاب وتفكيك حقيقة أن نية الفيلم الرئيسية قد تبدلت نظرًا لابتعاد الأحداث الواقعية عن التصورات المتحمسة للثورة والمقاومة المسلحة.

بعد ذلك يأتي القسم الأكثر تجريدًا، وهو تتابع من الصور والأفكار المتشظية عن صوت الأحداث وصورتها، كيف تسيطر صورة معينة على الخيال الجمعي، صورة هتلر على سبيل المثال، وكيف تعرض السينما تتابعًا ما من الأحداث.

في القسم الثالث يبدأ نقد الذات ويتوسع صوت آخر بخلاف صوت الراوي، وهو صوت شريكة الإخراج «آن ماري ميلفيل» التي تعمل كممحص للسرديات التي انتوى الفيلم تناولها، تدحض مصداقية بعض المشاهد، وتعري الفيلم أمام نفسه في فعل ميتا سينمائي.

صدمة اختلال القوى

يبدأ فصل الثورة بمتابعة صور الفدائيين يحضِّرون لعملياتهم، ويخطبون في الناس، يدرج الفيلم نصوصًا تخبرنا بالعناصر الأساسية لتلك الثورة المتوقعة: الثورة الشعبية، الكفاح المسلح، العمل السياسي والحرب الممتدة.

نرى الأفراد وهم من يتم تصويرهم في خطر الموت، حتى يحدث المحتوم فعلًا، وسط الأراضي الخضراء يتناقشون في كيفية عبور النهر، يقرأون النصوص الثورية، ويدمجون النساء لأول مرة في العمل السياسي والميداني الذي يهدف للتحرير، تبدو الصور حماسية، بل رومانسية في تصويرها للتعاضد الشعبي والمجهود والتدريب المتفاني.

في حوار صحفي مع صحيفة الهدف الأردنية، عام 1969 أكد جودار على أن لفيلمه، أي حتى  النصر، هدفين: أولهما مساعدة المناضلين ضد الإمبريالية في البلدان المختلفة، ثانيهما السعي لتقديم نوع فيلمي جديد يقدم خطابًا سياسيًّا نقديًّا.

في حواره يوضح جودار أن أعضاءً من فتح أوكلوا له مهمة إنتاج فيلم عن الثورة الفلسطينية بدعم من جبهة التحرير، بعد مناقشات قرر أن يخرج الفيلم، وألا يكون نيته إعطاء الدروس، بل تعلم الدروس من العناصر الذين يتعامل معهم ممن يتفوقون عليه فيما يخص الثورة.

حاول جودار الابتعاد عن الصورة الإثارية للفلسطينيين التي ترى في الأفلام الأمريكية والأوروبية، وأصبح محلها تحليل سياسي للثورة الفلسطينية.

من ضمن من سافر مع جودار إلى مخيمات الأردن كان إلياس سانبار، المؤرخ والشاعر الفلسطيني، بعدما هدم وهم الانتصار الذي ذهب على أساسه جودار وفريقه لصناعة الفيلم أصبح الهدم السينمائي نقطة محورية.

لقد سمع عن المذبحة بعدما سافر، وأصبح هنا أي في فرنسا، بينما تحدث المأساة هناك، وهو ما جعله يستوعب التناقض بين النظريات التي احتواها سيناريو الفيلم الأصلي والواقع، حسب سانبار فإن الحماس المفرط لفكرة الثورة جعلهم يرون الإيجابيات فقط دون السلبيات، فبعدما اختبروا مراقبة الثورة اتضح لهم أنه من المستحيل تصوير ثورة ما من الداخل، ليس بسبب عوائق تقنية، بل نظرًا لمحتوى ومعنى الثورة، ذهب جودار لتصوير فيلم ثوري وليس فيلمًا عن الثورة، لكن الموقف تعقد سياسيًّا وعسكريًّا بعد أحداث سبتمبر الأسود مما فرض عليه تغيير مسار تفكيره.

الفيلم كتتابع من الصور

في السابع من أكتوبر 2023 استيقظ العالم على صور ة أفراد من المقاومة الفلسطينية يتدلون من  مظلات مطورة يدويًّا على خلفية سماء متدرجة الألوان، صورة هجوم مفاجئ توقف العالم من بعده، سرعان ما تحولت الصور الاحتفالية إلى حادثة إبادة جماعية مستمرة إلى يومنا هذا.

بالطبع بدون التعقيدات التي شابت سبتمبر الأسود حيث كان الجاني حكومة عربية وجيش عربي، هذه المرة تحول فعل مقاوم مفاجئ لكن مخطط له إلى كابوس من عدم توازن القوى، وتلاشت الصور التي بدأ بها الحدث من العقل الجمعي، حل محلها سيل من صور المأساة الجديدة، من رد القوى العظمى غير المتساوي على أفعال المقاومة على مرأى من العالم أجمع وبشكل مباشر، بدون مسافة بين وقوع الحدث ووصوله للناس، كل شيء يحدث ويوثق في الوقت نفسه.

في هنا وهناك يتأمل جودار تأثير التلفزيون في السبعينيات، كيف ترى عائلة فرنسية من راحة المنزل صور عالم بعيد عبر جهاز صغير في سياق منفصل، حاليًّا أصبح الجهاز أصغر في حجم راحة اليد وتتابع الصور أسرع.

في سياق الحديث عن الفيلم، يتحدث المخرج الفلسطيني الشهير ميشيل خليفي عن تأثير سينما جودار عليه، وعن تجربة رائد الموجة الجديدة في تناول المقاومة الفلسطينية، يذكر أن جودار وهو مثله يرى التلفزيون أداة لا تحمل الذكريات لكون الصورة الخارجة منه مؤقتة متتابعة ومصممة لكي تنسى، وهو كلام وجيه وله ثقله، لكن في السياق الحالي حيث الصور أسرع وأكثر تنوعًا، فإن الذكريات انتقائية نظرًا لقدرة المتلقي على التحكم بها، يدفع المستخدمون صور الجرائم العسكرية الإسرائيلية وصور الفقد الفلسطيني للبقاء، ينشرونها بكثافة، يتحدون الطبيعة الانتقائية للخوارزميات.

أصبحت صور كارثة الإبادة ذات ثقل بصري حقيقي؛ لأن من ينتجها هو من يختبرها، ومن يراها لديه القدرة على نشرها، لم يعد المشاهد عنصرًا سلبيًّا بل عنصرًا فعالًا.

مشهد من فيلم here and elswhere 1976
مشهد من فيلم here and elswhere 1976

في سياق مشابه، حيث يتحول الحماس الثوري إلى مرثية يصبح هنا وهناك كولاجًا بصريًّا وصوتيًّا، صوت إطلاق النار مع صور لسياسيين أمريكيين وإسرائيليين، صور للثورة تتابع وتتشابك، تجارب مختلفة لكيفية رؤية مجموعة صور في تتابعات مختلفة، لأن الصور المتحركة غالبًا ما تتلاحق ولا تتوازى، لكن رؤية جودار بعد تحول فيلمه هي أن تلك الأحداث تقع على مستوى واحد، وليس في تتابع يحل به حدث محل الآخر.

يمكن الجدال في كون ذلك القسم هو فعل تحليل ذهني نابع من مأساة، أو استخدام لمأساة الغير في صنع محتوى عقلي مدروس، يصنع مسافة بين الهنا والهناك، بين من يدرس الحدث عن بُعد ومن يعيشه، لكنه في الوقت نفسه محاولة لجعل الحدث منطقيًّا، لربطه بأحداث أخرى، إخراجه من سياقه ووضعه في سياقات أعم، والتعامل مع الآخر بلغة الفرد، أو اللغة المهيمنة في هذه الحالة هي لغة الصورة والإعلام والهيمنة الغربية على السردية، يخرج الفيلم بعد ذلك من تلك المساحة الذهنية إلى مساحة أخرى وهي نقد الذات.

نقد الذات 

مشهد من فيلم here and elswhere 1976
مشهد من فيلم here and elswhere 1976

لا يوجد في العالم ما يمكن وصفه بفيلم حقيقي بشكل كامل، للكاميرا حيز معين للتصوير وللإطار حدود منتهية، حتى وإن قال جودار نفسه إن السينما هي الحقيقية في 24 إطار، فهذا ليس دقيقًا بقدر كونه جملة شاعرية.

في هنا وهناك يفكك جودار كلامه، بالنظر إلى المادة التي صورها هو، كيف صورها وماذا كانت اختياراته وما هي تدخلاته كمحرج عندما يتعلق الأمر بأناس حقيقيين في أحداث حقيقية، وليسوا ممثلين داخل ستوديو، طلب جودار من أحد مقاتلي فتح «نزيه أبو نضال» حضور إحدى ندواته أو خطاباته لتصويرها.

تحمس أبو نضال لمعرفته بتاريخ جودار في الأفلام المعادية للرأسمالية، يتحدث أبو نضال عن تجربته قائلًا: إن جودار جاء بكاميراه تلقى ما حوله من خلال عين الكاميرا، وخلال المحاضرات ما لفت نظره أنه جلس وسط الناس وراء الكاميرا، يصور ردات فعل الأفراد على الرسائل التي تلقوها، حاول فهم الناس وتكوين رؤية حول الثورة.

كان أبو نضال متأكدًا أن جودار تجاهل كل ما قاله في محاضراته، الناس العاديون وانطباعاتهم كانت جوهر اهتمامه.

تبدو تلك انطباعات صادقة ومؤثرة بل إيجابية، لكن ما مدى حقيقتها أو تأثيرها في صناعة الفيلم، خاصة بعد أن تغير محتواه وأصبح أكثر تجريدًا؟ على الرغم من نبل مساعي جماعة ديزجا فيرتوف وجودار السياسية فإن الحقيقة باغتتهم وبعدما أصبح الفيلم منفصلًا عن الجماعة ومقتصرًا على جودار وآن ماري ميلفيل وجان بيير جوران.

انتهز جودار الفرصة في نقد ذاته وشركائه السابقين عن طريق تحليل الاختيارات الفنية والإنسانية والبصرية، التي تظهر في الإطارات النهائية للأفلام. يظهر ذلك بشكل مكثف في الثلث الأخير من هنا وهناك، حيث يصبح الفيلم حوارًا ثنائيًّا بين جودار وميلفل، يتساءل صوتها عن مدى مصداقية مشهد معين، هل الطفلة التي تتلو قصيدة وسط الأطلال هي طفلة عايشت الأحداث أم هي ممثلة، هل الفتاة اللبنانية التي تصرح للكاميرا أنها تحمل بداخلها جنينًا سوف يصبح مقاومًا جديدًا تخبر الحقيقة، أم أن استخدامها يخدم السردية الكبرى حتى وإن نبلت مساعيها؟

تتعامل تلك التصورات مع البروباجندا الثورية، ومدى صدق المشاهد التوثيقية، حيث يواجه الساعون نحو تصوير الحقيقة أنفسهم بالحقيقة نفسها غير معدلة، كما تفصح عن الفجوة الواضحة بين العناصر والمخرج، وكيف يؤثر الحماس الثوري في صعوبة توقع ردود أفعال القوى الأكثر سطوة، وكيف أنه لا فكاك من القصور في سردية المنقذ الأبيض حتى لو امتلك نوايا طيبة وتاريخًا من السينما الثورية والدعم العام لحركات المقاومة ضد الاستعمارية والإمبريالية في العالم، يظل هناك نحن وهم، هنا وهناك.