في مشهد مُفزع تكرر كثيرًا خلال السنوات الأخيرة في إيران تعرضت مدينة أصفهان وسط البلاد لهجوم عسكري غامض ليل السبت الماضي، ودوت انفجارات كبيرة بوسط مدينة في منطقة تضم مباني عسكرية، ووثق المارة هذا الهجوم بالفيديو، ويُمكن سماع أصوات إطلاق المضادات الأرضية بوضوح خلال الهجوم.

إيران تحت الهجوم 

أعلنت وزارة الدفاع الإيرانية تصدي دفاعاتها لهجوم فاشل على مجمع عسكري في أصفهان شنته ثلاث طائرات صغيرة بدون طيار، وأن الدفاع الجوي أصاب واحدة منها ووقعت الأخريان وانفجرتا، وأظهر تسجيل مصور بثته وسائل إعلام رسمية إيرانية عربات طوارئ وإطفاء خارج المكان الذي ذكرت وكالة الجمهورية الإسلامية للأنباء أنه مصنع ذخيرة.

وتعد أصفهان وجهة معتادة لتلك الهجمات؛ لأنها تضم أهدافًا حساسة ومصانع عسكرية عديدة، فبحسب موقع تايمز أوف إسرائيل فإن أصفهان هي مركز صناعة الصواريخ في إيران، حيث يتم تجميع صاروخ شهاب متوسط المدى الذي يصل مداه إلى إسرائيل، كما تضم محافظة أصفهان مفاعل نطنز أحد أخطر المواقع النووية الإيرانية، والذي تعرض لهجمات عديدة مثل الحريق المدمر لأجهزة تخصيب اليورانيوم مطلع يوليو/تموز 2020، وتفجير الحادي عشر من أبريل/ نيسان 2021 بعد يوم من قرار الرئيس الإيراني ببدء تشغيل 3 مجموعات جديدة من أجهزة التخصيب وافتتاح مصنع جديد لهذه الأجهزة.

وبموازاة الهجوم على أصفهان، ذكرت وكالة الجمهورية الإسلامية للأنباء في وقت مبكر من صباح الأحد أن حريقًا هائلًا نشب في مصنع لزيوت المحركات قرب مدينة تبريز شمال غرب إيران، دون ذكر سبب الحريق، كما وردت أنباء عن سماع دوي انفجارات أيضًا في همدان وقاعدة نوجة العسكرية وكرج، وتداول ناشطون إيرانيون مقاطع فيديو يقال إنها لانفجارات في طهران.

وبعد وقت قصير من هجوم أصفهان استهدفت طائرات مسيرة قافلة شاحنات تحمل أسلحة وصواريخ تخص ميليشيات تابعة للحرس الثوري الإيراني في منطقة تحت النفوذ الإيراني شرق سوريا، ووقع الهجوم بمجرد عبور الشاحنات من العراق إلى منطقة البوكمال الحدودية.

العدو الخفي

بينما تضاربت التكهنات عن منفذ هذه الهجمات، أكد المتحدث باسم وزارة الدفاع بالولايات المتحدة، باتريك رايدر، لشبكة CNN الإخبارية الأمريكية، أن واشنطن لم تنفذ أي عملية في الداخل الإيراني، وكذلك لم تُعلن وزارة الدفاع الإيرانية عن هوية الجهة التي نفذت العملية، في حين بث التلفزيون الإيراني تصريحات للبرلماني حسين ميرزاعي قال إن هناك تكهنات قوية بأن إسرائيل هي المسئولة.

ورفضت وزارة الدفاع الإسرائيلية التعليق، لكن وسائل إعلام غربية، مثل صحيفتي نيويورك تايمز الأمريكية ووول ستريت جورنال، ذكرت أن هجوم أصفهان من عمل الموساد الإسرائيلي، استدلالًا بتصريحات من مسئولين كبار من الولايات المتحدة؛ فقد كشف مسئول رفيع في الاستخبارات الأمريكية أن المُسيرات المُهاجمة تابعة لإسرائيل، وهي متطورة جدًّا ويصعب رصدها، وأن الهجوم تم بعلم الإدارة الأمريكية.

وجاء هذا الهجوم مشابهًا للهجوم الذي استهدف موقع بارشين المرتبط بالبرنامجين النووي والصاروخي شرق طهران في مايو/أيار 2022، واكتفت وزارة الدفاع الإيرانية حينها بإعلان مقتل شخص وإصابة آخر جراء «حادث صناعي».

وكذلك الهجوم بطائرات مسيرة على مركز تصنيع أجهزة التخصيب في كرج غرب طهران في يونيو/ حزيران 2021، وحينها زعمت طهران أن الهجوم فشل وتم إحباطه، لكن نشر صور الأقمار الصناعية كشف حجم الدمار الناجم عن الهجوم، فاضطرت الحكومة الإيرانية للاعتراف على لسان المتحدث باسمها، علي ربيعي، بوقوع أضرار، قال إنها ليست كبيرة، زاعمًا أن صور الأقمار الصناعية التقطت بعد إزالة السقف لإصلاحه، وتم نقل إنتاج أجهزة الطرد المركزي بكرج إلى مدينة أصفهان، وأزالت إيران كاميرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الموقع المتضرر، وركب مفتشو الوكالة كاميرات في أصفهان في 24 يناير 2022 بعد إبلاغ طهران للوكالة بعملية النقل هذه.

وخلال الأشهر القليلة الماضية أعلنت طهران عن ضبط العديد من الخلايا التي قال إنها مرتبطة بالموساد، وفي يوليو/ تموز 2023 تحديدًا، تم الإعلان عن اعتقال عملاء للموساد خططوا لتفجير مركز صناعي عسكري في أصفهان.

وتعد عملية أصفهان الأخيرة أول هجوم على إيران منسوب لإسرائيل في ظل الحكومة الجديدة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وأتت هذه الضربة في وقت تواجه فيه حكومة الاحتلال أزمة داخلية بسبب نجاح عملية نفذها المقاوم الفلسطيني خيري علقم في القدس قتل فيها ثمانية إسرائيليين وأصاب عشرة آخرين، مما أظهر عجز حكومة نتنياهو عن توفير الأمن للصهاينة، فجاء الهجوم على إيران ليعيد الحديث عن الاقتدار الإسرائيلي في مواجهة الأعداء.

وعلى صعيد آخر تسبب الهجوم في أزمة بين طهران وكييف؛ إذ استدعت إيران القائم بالأعمال الأوكراني لديها، الاثنين، بسبب تغريدات للمستشار الرئاسي الأوكراني «ميخايلو بودولياك»، نشرها الأحد، وصف ما وقع بأصفهان بأنها ليلة متفجرة، مبينًا أن الهجوم أصاب إنتاج الطائرات المسيرة والصواريخ، ومصافي النفط، مذكرًا بأن بلاده حذَّرت طهران من دعم الغزو الروسي، في إشارة لتصدير طهران طائرات مسيرة لموسكو.

الخوف من النووي 

في الحقيقة لم تكن هذه الهجمات مفاجئة بالنظر إلى السياق العام الذي وقعت فيه؛ فمباحثات إحياء الاتفاق النووي تراوح مكانها منذ مارس/آذار 2022، وطهران ترفض التجاوب مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتغلق الكثير من كاميرات المراقبة التابعة لها، مما صعد التوتر والمخاوف من تجاوز إيران للعتبة النووية، خاصةً بعد تحذير مدير الوكالة، رافائيل جروسي، من امتلاك الإيرانيين كميات من اليورانيوم عالي التخصيب تكفي لإنتاج عدة أسلحة نووية وليس قنبلة واحدة، داعيًا الغرب إلى بذل جهود دبلوماسية لمنعها من امتلاك القنبلة، ومن المقرر أن يذهب بنفسه لطهران في شهر فبراير/ شباط لهذا الغرض.

وقد تعهدت إسرائيل والولايات المتحدة مرارًا كثيرة بمنع طهران من امتلاك القنبلة النووية، ولم تستبعدا اللجوء إلى الخيار العسكري، وأجرى الطرفان قبل هجوم أصفهان بأيام مناورات عسكرية مشتركة تحاكي مهاجمة المواقع النووية الإيرانية المحصنة لإكساب تهديداتهم مصداقية لردع طهران عن مواصلة تطوير مشروعها النووي، كما أجرى مدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز، زيارة غير معلنة إلى إسرائيل، الأسبوع السابق، لمناقشة أمور من بينها الملف الإيراني.

وهددت تل أبيب بالقيام بعمل عسكري ضد إيران إذا فشلت الوسائل الدبلوماسية، ولكن نظرًا للكلفة العالية للعمل العسكري التقليدي وتداعياته الكبيرة التي لا تريد إسرائيل تحملها، فإنها لجأت إلى أسلوب العمليات الدقيقة الخاطفة التي تركز على أهداف محدودة، ولا تجعل طهران مضطرة للرد، بل تدعى وقوع حوادث بسبب عطل فني أو ماس كهربائي أو ما شابه لحفظ ماء وجهها.

كما أن نتائج مثل هذه العمليات شجعت الإسرائيليين على تكرارها، فهجوم أبريل/ نيسان 2021 تسبب في تأخير تخصيب اليورانيوم في نطنز لشهور طويلة بسبب تدمير غالبية أجهزة التخصيب، وأعلنت الإذاعة الإسرائيلية أن جهاز الموساد هو منفذ الهجوم على المنشأة التي يتم فيها تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%.

وحاول الغرب الطرق على الحديد وهو ساخن، فأوصل رسائل لطهران تدعوها إلى التجاوب مع الجهود الدبلوماسية في الملف النووي؛ ففي اليوم التالي لهجوم أصفهان قال وزير الخارجية الإيراني، أمير عبد اللهيان، إن بلاده تسلمت رسائل من أطراف الاتفاق النووي عبر نظيره القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، خلال زيارته إلى طهران.

كما أعلن المبعوث الأمريكي الخاص بإيران، روبرت مالي، أن بلاده لن تتردد في اتخاذ أي خطوة لوقف سلوك إيران العدواني إن فشل الحوار، وأن الخيار العسكري مطروح إذا فشلت الدبلوماسية التى ما زالت واشنطن تراها الطريقة الأكثر فعالية للتعامل مع الملف النووي، مشددًا على تصميم الرئيس الأمريكي على منع طهران من امتلاك أسلحة نووية.