ثمة تصور مغلوط تلوكه الألسنة دون ملل ومنذ عقود طويلة إلى أن تحول إلى قناعة، وهو مرتبط بمرحلة الدراسة الثانوية في مصر، ورغم مرور عقدين من الزمن تقريبًا على سماعي انعكاسات ذلك التصور يوميًا في المدرسة، فإنه لا يزال قائمًا دون أن تذهب به الرياح، بل بدا واضحًا أنه كان وسيظل مُنتقلًا من جيل إلى آخر، فالخريجون يحملونه معهم إلى تجاربهم العملية ثم يمررونه إلى أبنائهم كمُسَلَّمة أشبه بعقيدة دينية لا تقبل المراجعة.

في الصف الأول الثانوي كنا نتناقش حول مسارات المستقبل التي ينتظر أن يرسمها خيار نضعه في استمارة التخصص، إمّا بالانضمام إلى الشعبة الأدبية ودراسة التاريخ إجباريًا مع مواد أخرى (ما بين الجغرافيا والاقتصاد وعلم النفس والفلسفة)، أو الالتحاق بالشعبة العلمية بفرعيها: العلوم الذي يعني دراسة الأحياء، أو الرياضيات الذي يعني التعرّض لدرجة متقدمة من هذا العلم مع دراسة الكيمياء والفيزياء في الحالتين.

كان كثير من أصحاب الميول العلمية يرددون عبارة تختزل التصور الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن:

سألتحق بالشعبة العلمية طبعًا… فأنا أحب الفهم، ولا أتحمل مواد الحِفظ والصم.

هذه العبارة تُلخِّص كل شيء، فقد جرى تصوير الآداب والعلوم الاجتماعية على أنها نصوص صمّاء تتوقف الإحاطة بها على قوة ذاكرة الدارس وقدرته على ترديد ما حوته كُتُبُها كالببغاوات، فلا مجال لاستيعابها أو التحقق منها أو اختبار صحة بعض ما يأتي فيها، فقط هي كما هي… تَحفَظ ما في الكتاب ثم تَطرَحُه في ورقة الإجابة وانتهى الأمر.

ولعل هذا التوجه هو ما أدى إلى انتشار نظرة دونية لدارسي الآداب عمومًا، فهُم «ليسوا على شيء»، وتقابلها نظرة اغترار وربما غطرسة من دارسي المواد العلمية، فهم منْ يغرسون- بتكرار- قناعتهم حول التقدير الاجتماعي لمجالاتهم، وهم منْ سيحصدون ثماره لاحقًا.

تجربة شخصية

ولأنني كنت من الفئة الضالة على ما يبدو، تلك التي لم تكتف بالالتحاق بالشعبة الأدبية بل اختارت الجغرافيا كمادة أساسية، فقد كُنتْ أتعرض كثيرًا لهذا التصور، فالجغرافيا كانت تمثل بالنسبة للعلميين– إن جاز التعبير- شرًا مستطيرًا، فقد تعرّضوا لها خلال المراحل الدراسية السابقة، وصارت بينهم وبين الخريطة خصومة متأصلة.

كان العلميون يعتبرون أن إحاطة منْ يحب الجغرافيا بأسماء عواصم الدول وعملاتها وجبالها وأنهارها دليل على أن رأس ماله هو الحفظ فقط دون الاستيعاب، فكانوا أولًا يلغون أهمية «قوة الذاكرة» التي تُعفي كثيرًا من العودة إلى المصادر، ثم لا يرون- إمّا عن تجاهل أو قِصَر نظر- ما يخرج به هذا الدارس من استدلالات وربط لهذه المعطيات، تساعده على تكوين رؤيته الخاصة وفهمه للواقع المحيط وربما عمله الفنّي (بمعنى Artistic، لا Technical).

على النقيض كنتْ أرى في قوانين الفيزياء والرياضيات عُسرًا كبيرًا، فهذا قانون يبدو أصم عليّ أن أحفظه كله كما هو، ثم استبدل الأرقام بالرموز وأُجري عملية حسابية كي أحصل على الناتج. لم أكن أرى في هذا أي إبداع… بل هو تكرار لعملية يقوم بها أي دارس آخر دون مساحة لترك البصمة الشخصية أو الأسلوب المميز لفرد عن غيره.

ربما كانت الهندسة أحب المواد العلمية إليّ، فرغم تقيدها بقوانين صارمة إلّا أن الفرصة في ترك بصمة شخصية كانت تتجلى أحيانًا من خلال «العمل» الذي يساعد على البرهنة على المطلوب دون تقيد بالمعطيات، فهو أشبه بإضافة معطى جديد في المسألة، وهنا تظهر سعة حيلة الدارس وخصوبة خياله وهما الصفتان اللتان تمنحانه هامشًا للمناورة لا يتقيد خلاله بما يرى فحسب.

تجلٍ بارز

وهنا مشكلة أخرى في رأيي، وهي أن التفكير الذي جرت قولبة عقول كثير من الدارسين العلميين في مصر عليه قائم على انعدام الحيلة أو الخيال، فعبارة «واحد زائد واحد يساوي اثنين» قد سيطرت على قطاع واسع منهم في أبسط أمور الحياة، فيقفون عاجزين لاحقًا في تجاربهم الاجتماعية لأن معطيات تجارب الحياة ليست كلها مكتوبة، ولا تتوقف على «عمل» واحد أو حتى اثنين مما يمكن إدراكه بخيال عابر.

إن أكبر تجليات هذا العجز تظهر في عالم السياسة والاجتماع، فقلما تجد تحليلًا متماسكًا لطبيب أو مهندس حول وضع اجتماعي، بل ترى ربطًا مباشرًا لمقدمات بنتائج لا أقول فورية بل قصيرة المدى، فلا أحد يفكر– في الأغلب- ماذا قد ينتج بعد سنوات في وضع ما، أو مآلات الحال إن طرأت بعض التغيرات مثل كذا أو كذا، أمّا فرضية أن تكون هناك أطراف غير ظاهرة وهي مستفيدة فهذه يجري استبعادها مباشرة باعتبارها نظرة تآمرية ميتافيزيقية تُحيِل إلى غيبيات، فدارس المواد العلمية لا يعرف إلا ما يراه بعينه… فلا مجال للمشاعر والانطباعات.

كما أن دارسي المواد العملية لا يحملون معهم طريقة تفكيرهم وإدارتهم للأمور فقط، بل يصطحبون كذلك- اعتزازًا بخلفيتهم العلمية- ألقابهم، فهذا الدكتور (الطبيب لا البروفيسور) فلان وذاك المهندس علّان.

ومع أن العمل العام لا يرتبط- بالضرورة- بالخلفية المهنية، فإن الوجاهة الاجتماعية قد استدعت الألقاب من هذا النوع، فضلًا عن الشعور بالاستحقاقية الذي يقوم على قناعتين ضمنيتين: «أنا دكتور فأنا أفهم أكثر بالطبع»، «أنا تعبت في دراستي وكنت متفوقًا فلي الأولوية وينبغي تقديمي على غيري». وهاتان القناعتان الضمنيتان لا تزالان مستمرتين، وتكاد تلمسهما حين ترى من يكتب اسمه التعريفي على شبكات التواصل الاجتماعي Dr Someone أو Eng Somebody.

بالطبع هناك استثناءات كثيرة، كفئة الأطباء الأدباء أو الفنانين، أو المهندسين ذوي الرأي، أو العلماء الموسوعيين، وإن كانت الفئة الأخيرة صارت نادرة هذه الأيام.

السبيل

تجليات هذه القناعة التي تُقدِّم «العلمي» على «الأدبي» لم تتوقف فقط عند ما ذكرناه من العمل العام، بل تظهر أيضًا حين يجري الحديث ليل نهار في وسائل الإعلام أو حتى على المقاهي عن أن المجتمعات تتقدم فقط بالبحث العلمي والتطور التقني، دون أن يكون هناك أي داع لحوارات أو نظريات فكرية أو فلسفية، أو حتى إطار أو نظرة مسبقة للأهداف والتصورات المرحلية.

إن مجتمعًا تسوده هذه القناعة بما يصحبها من تفكير قاصر يعاني خللًا كبيرًا، فالتطور التقني قد يقودك إلى امتلاك سلاح فتّاك غير مسبوق، ولكنه قد يُستخدم بأسوأ طريقة ممكنة.

إن أي مجتمع لا يمكنه أن يسير إلى الأمام إلا بقدمين: واحدة معنية بالتطور التقني والعلوم التطبيقية، والأخرى بالأفكار والتصورات المستقبلية والخيال الذي لا يدع احتمالًا دون وضعه في الحسبان… أمّا ترديد نفس القناعات فلن يأتي بأي جديد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.