في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، وبينما كانت الانتخابات الأمريكية في أوجها،نشر ديفيد كورن وهو صحفي أمريكي مقالًا يتحدث فيه عن صلات قديمة تربط دونالد ترامب بعدة مؤسسات روسية، لم يمتلك التقرير مصداقية كبيرة، ولم يحصل على انتشار واسع؛ وذلك لأنه لم يتضمن إشارة إلى مصدر تلك المعلومات أو نسخًا من تلك الوثائق، ولكن يوم الأربعاء الموافق 11 من يناير/كانون الثاني 2017، نشر موقع Buzz Feed الإخباري تقريرًا متضمنًا تلك الوثائق السرية، وهي عبارة عن مجموعة من المذكرات، التي كتبت بواسطة مسئول استخباراتي بريطاني سابق. تضمنت هذه الوثائق العديد من المعلومات عن علاقات تربط دونالد ترامب ودائرته المقربة بالكرملين، كما تحدثت عن أدلة يملكها الكرملين تُدين الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب على المستوى الشخصي والعام. نحاول في هذا التقرير أن نتتبع خيوط هذه القصة من بدايتها إلى الآن.


خيوط لم تنسج بعد

بدأت حكايتنا في أوج الانتخابات الأمريكية، بينما كان كل طرف يحاول إثارة ما يستطيعه من رماد في وجه منافسه، وردًا على تحقيق FBI مع هيلاري كلينتون، فيما يخص رسائلها المسربة، طالب السيناتور الأمريكي «هاري ريد» جهاز التحقيقات الفيدرالي الأمريكي بالتحقيق في المزاعم المتعلقة بروابط تجمع دونالد ترامب ودائرته المقربة بالروس.أشار الخطاب الذي أرسله السيناتور إلى «كارتر بيج» وهو رجل أعمل أمريكي، أشار إليه دونالد ترامب كمستشار للشئون الخارجية، والذي يمتلك روابط مالية وثيقة مع روسيا، لاحقًا نشر موقع «ياهوو» الإخباري تقريرًا تحدّث فيه عن محاولة لأجهزة التحقيقات الأمريكية لتتبع الروابط التي تجمع كارتر بيج بالكرملين.بعد ذلك بأيام نشرت شبكة NBC خبرًا مفاده أن جهاز التحقيقات الفيدرالي قد بدأ تحقيقًا بخصوص علاقة «بول مانفورت» وهو المدير السابق لحملة ترامب، بالكرملين، ولكن رسائل السيناتور الأمريكي حملت تلميحًا يتعدى أعضاء الدائرة المقربة من دونالد ترامب ويصل إليه نفسه، إذ حث في رسالته على بدء تحقيق جاد في المعلومات التي تمتلكها أجهزة الاستخابرات بخصوص علاقة المرشح الرئاسي – حينها – دونالد ترامب والجانب الروسي.

«من رسالة هاري ريد، السيناتور الديمقراطي، إلى مدير جهاز التحقيقات الفيدرالي»

احتوى المقال الذي أشرنا له في البداية على معلومات منقولة عن عنصر استخبارات بريطاني عالي المستوى تُشير إلى علاقة قديمة تربط دونالد ترامب بالكرملين، حيث قال المصدر أنه أمَد جهاز التحقيقات الفيدرالي بعدة مذكرات تتضمن دور الاستخبارات الروسية في رعاية ودعم ومساندة دونالد ترامب في حملته الرئاسية.يقول المصدر كذلك أن الأمر بدأ بمحاولته جمع المعلومات عن علاقة دونالد ترامب بروسيا، وذلك لصالح مجموعة من رجال الحزب الجمهوري، ثم استكمل التحقيق بدعم من الحزب الديمقراطي إلى أن وصل إلى معلومات مؤكدة تفيد بوجود علاقة مستمرة بين ترامب والكرملين، تضمنت تبادلًا للمعلومات بما يحقق النفع للجهتين.أشار المصدر إلى أنه قد وضع ما وصل إليه من معلومات بيد جهاز التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، وتضمن التقرير الذي نشره الصحفي الأمريكي مقتطفات من تلك المذكرات منها؛ «إن النظام الروسي قد دعم وساند ترامب في السنوات الخمس الأخيرة، بهدف زعزعة استقرار التحالف الغربي»، وأشار أيضًا إلى أن «ترامب ودائرته المقربة قد تبادلوا المعلومات مع الكرملين، والتي تخص المنافسين السياسيين والحزب الديمقراطي». وأشار أيضًا أن الاستخبارات الروسية قامت بابتزاز ترامب أثناء رحلته إلى روسيا ووصلت إلى تسوية أو تفاهم سياسي معه.لم يُشر التقرير إلى مصادر معينة ولم يتضمن نسخًا من تلك الوثائق، وانتهى الأمر عند هذه النقطة. مصدر سري يرفض الإفصاح عن اسمه وتقرير لا يحتوي على الكثير من الوثائق أو المعلومات المؤكدة بل هو أشبه بالشائعات.


ليلة في الريتز كارليتون

ما بدا كعود ثقاب حينها، ما لبث أن أشعل وسائل الإعلام الأمريكية الآن بعد ما نشر موقع Buzz Feed الأمريكي تلك الوثائق التي تحدثنا عنها ثم أرفقت الـ(ـCNN) الأمريكية في تقريرها خبرًا مفاده أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس المنتخب دونالد ترامب قد اطلعا على تلك الوثائق.

ما الذي نعرفه عن تلك الوثائق؟

أولًا؛ تنسب هذه الوثائق إلى عميل استخبارات بريطاني سابق، عمل في روسيا في تسعينيات القرن الماضي، ووفقًا لتقارير نشرتها الـ CNN و الاندبندنت البريطانية، فإن هذا العميل يتمتع بمصداقية عالية في دوائر الاستخبارات، وذلك نقلًا عن مصادر استخباراتية أمريكية.ثانيًا؛ بدأ العمل على هذه الوثائق من مدة كبيرة غير مُحددة، كما أنه تم تداولها منذ أشهر بين الساسة الأمريكيين وأجهزة الأمن القومي والاستخبارات الأمريكية، ولكن لسبب ما لم يتم الكشف عنها إلا الآن.ثالثًا؛ ما زالت هذه الوثائق غير مؤكدة وغير موثوقة، كما أنها احتوت على بعض الأخطاء التي توحي بأنها لم يتم مراجعتها أو تدقيقها بعد، فوفقًا لمحلل أمني بريطاني، تبدو هذه الوثائق كمعلومات مبدئية تحتاج للكثير من التحليل.

ما الذي تخبرنا به هذه الوثائق؟

أولًا؛ أشارت الوثائق إلى أن أجهزة الأمن الروسية تمتلك محتوى مسجلًا مكّنها من ابتزاز دونالد ترامب، حيث أشارت الوثائق إلى أفعال جنسية شاذة قام بها دونالد ترامب أثناء زيارته إلى موسكو عام 2013 وإقامته في فندق «ريتز كارليتون»، حيث تمكنت الاستخبارت الروسية من ابتزازه عن طريق تسجيل لترامب، يُظهره وهو بصحبة عدد من المومسات، وهن يتبولن على السرير كنوع من الإثارة.ثانيًا؛ أشارت إلى علاقة ترامب بدبلوماسيين ومواطنين روس تم استخدامهم كوسيط لنقل المعلومات بين ترامب والكرملين، كما ساعد ترامب في عملية الاختراق التي استهدفت شبكات الحزب الديمقراطي وحملة هيلاري كلينتون الانتخابية، بغرض الحصول على المعلومات لصالح حملة ترامب ومحاولة استمالة الناخبين الديمقراطيين، والذين صوتوا لبيرني ساندرز في السباق التمهيدي في مقابل أن يقوم ترامب بتهميش قضية التدخل الروسي في أوكرانيا وإثارة موضوع تحالف شمال الأطلسي والذي يستنزف الخزينة الأمريكية وفقًا لتعبير ترامب.ثالثًا؛ أشارت الوثائق إلى عروض روسية مغرية لترامب، بإشراكه في مشروعات تطوير البنية التحتية والمتعلقة بكأس العالم 2018، والتي ستنظم في روسيا، الأمر الذي رفضه ترامب لسبب غير معلوم.أكدت شبكة الــ(CNN) الأمريكية مساء أمس الأربعاء، أن ملخصًا من تلك الوثائق قد تم عرضه على كل من باراك أوباما ودونالد ترامب، من قِبل أربعة من أجهزة الاستخبارات الأمريكية، ومن المؤكد الآن أن هذه الوثائق تعود إلى منتصف العام الماضي، وتم عرضها على الكثير من الساسة والمسئوليين الأمنيين، ولكن الأمر الجديد الآن هو أن أجهزة المخابرات الأمريكية قد تحققت من مصداقية العميل البريطاني السابق، وشبكته الواسعة في أوروبا وروسيا، ووجدت أنه ومصادره يمتلكون المصداقية اللازمة لأخذ تلك التقارير على محمل الجد.


نفيٌ لا يُطفئ النيران

لقد أصبح من الواضح أنكم تمتلكون معلومات هامة عن روابط قوية وتنسيق يجمع دونالد ترامب ومستشاريه بالحكومة الروسية

أشار موقع BuzzFeed أن حملة ترامب رفضت التعليق علي تلك الوثائق، أما ترامب فسارع إلى التعليق بعد وقت قصير من نشرها، واصفًا ما ورد فيها بالأخبار المزيفة، كما ظهرت مديرة حملة ترامب الانتخابية كيليان كونواي، في برنامج آخر الليل مع «سيث مايرز» نافيةً الأمر، مشيرةً إلى أنه «لم يتم تأكيد أي شي».أما الكرملين فنفى حيازة أي معلومات محرجة حول الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب أو المرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون وندد بالادعاءات الكاذبة لمسؤولي الاستخبارات الأمريكية التي تهدف إلى ضرب العلاقات مع واشنطن.كما هاجم ترامب وسائل الاعلام وأجهزة الاستخبارات قائلًا: «كان من الواجب على أجهزة الاستخبارات ألا تسمح بتسريب هذه الأخبار الكاذبة إلى العامة، طلقة أخيرة إلى صدري، هل نعيش في ألمانيا النازية»، وخلال أول مؤتمر صحفي لترامب منذ فوزه بالانتخابات، والذي عقده الأربعاء في نيويورك، هَمّ جيم أكوستا – مراسل CNN – بطرح سؤال على ترامب، لكن الأخير قاطعه أكثر من مرة رافضًا إعطاءه الفرصة.وعندما بدأ أكوستا بالحديث قال ترامب: «تفضلي»، موجهًا حديثه إلى صحفية أخرى، وتابع: «ليس أنت، مؤسستك فظيعة، اسكت». لكن الصحفي أصر على إلقاء سؤاله ليباغته ترامب بالقول: «إنها تطرح سؤالًا – في إشارة إلى الصحفية الأخرى – لا تكن وقحًا، لا تكن وقحًا، لن أمنحك السؤال، أخباركم كاذبة».

بينما يقترب موعد الـ20 من يناير / تشرين الثاني تتزايد النيران حول ترامب اشتعالًا، وفي سياق كهذا يصعب تمييز الحقيقي فيه من الكاذب، يبدو أن الأيام ما زالت حُبلى بالكثير من المفاجآت، خاصةً كلما اقترب ترامب من كرسي الرئاسة. يقول البعض أن هذه محاولة من الديمقراطيين لعرقلة توليه السلطة رسميًا، ويعتقد البعض أن شخصية الرئيس المنتخب ليست ببعيدة عن ما في هذه الوثائق. وبين هذا وذاك ستكون نتائج هذه الوثائق وخيمة على الديمقراطية الأمريكية، ففي حال تم تأكيدها قد تُعطي مبررًا للتشكيك في شرعية ترامب وإزالته من السلطة ما سيفتح أبوابًا من الجحيم في الداخل الأمريكي، وفي حال إن كانت مُختلقة فإنها أيضًا سوف تنكأ جرحًا لم يندمل بعد في المجتمع الأمريكي.