عُرِض مسلسل «هند والدكتور نعمان» للمرة الأولى عام 1984، وهو من إخراج «رائد لبيب»، وقصة وسيناريو وحوار المبدع «لينين الرملي»، الذي صنع عملاً يصلح للعرض في كل العصور. فرغم مرور أكثر من سبعة وثلاثين عاماً على إنتاج المسلسل، فإنه يُقدِم من خلال شخوص العمل نماذج ما زالت تعيش بيننا؛ ويعالج قضايا دائمة الحضور في المجتمع، ويتطرق- بأسلوب بسيط في طرحه، عميق في معناه- إلى صراع الأجيال وأنانية الآباء وقطع صلة الأرحام.

لم يكن هذا العمل غريباً على منْ يعرف أعمال لينين الرملي، الكاتب المسرحي المصري، الذي وُلد بالقاهرة عام 1945، وحصل على بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية- قسم النقد وأدب المسرح عام 1970، فهو منْ قدّم عشرات الأعمال التي تحمل لنا الفلسفة في سياق كوميدي، والكوميديا ممزوجة بمرارة الواقع، فهو يستطيع استدراج المشاهد بمهارة بالغة، حتى يُدخِله في قلب المشكلة، ويرى نفسه في أحد شخوص أعماله.

ومن أبرز أعماله المسرحية: «وجهة نظر، الهمجي، تخاريف، سُك على بناتك، أهلاً يا بكوات، وداعاً يا بكوات، عفريت لكل مواطن… وغيرها». كما كتب سيناريو وحواراً لأعمال سينمائية منها: «البداية، النعامة والطاووس… وغيرهما). كذلك قام بتأليف وكتابة سيناريو وحوار فيلم «الإرهابي».

من كهف العزلة إلى الحياة

كان مسلسل «هند والدكتور نعمان» أحد أهم أعماله التلفزيونية. وأول الشخصيات الرئيسية في هذا العمل كان الدكتور الجامعي «نعمان»، والذي قام بأداء دوره النجم كمال الشناوي، وهي شخصية تُدرِك معها على الفور أن خبرته مُعلَّبة، وأنه قد قضى عمره كله بين الكتب والأبحاث من دون أن يحتك بالعالم، ذلك الاحتكاك الذي يخلق تجربة خصبة. حتى أنه حين اضطر لتحمل مسئولية حفيدته من ابنته الوحيدة، بعد سفر أمها وأبيها للعمل في الخارج لمدة ستة أشهر، حاول التنصل من الطفلة، هند (ليزا).

وبعد أن كشف لنا المؤلف من خلال شخصية الجد والحفيدة هذا الفارق الشاسع بين الأمس واليوم… بين الرغبة في الحياة والنفور منها، رأى الدكتور نعمان في الطفلة ما يسحبه من كهف عاش عمره فيه، فقام بالبحث بين الأهل عمّن يعولها ليتخلص من مسئوليتها وينعم بوحدته، فاكتشف أنه غريب عنهم، لا يعرف منْ مات منهم، ومنْ لا يزال حياً. وتدريجياً تحمّل مسئوليتهم أيضاً، بعد أن أصبح بمثابة طوق نجاة بالنسبة لهم.

فزوجة عمه (زوزو نبيل)، وبعد أن مات زوجها، أصبحت تعول ابنتها، صفاء (سلوى خطاب)، العشرينية المنطوية، وتبحث لها عن زوج، وتعول كذلك ابنها الشاب الراسب في دراسته، وتبحث له عمّن يعظه ويُصحِّح له مسار حياته. وخاله الكهل (محمد توفيق)، الذي أمسى عبئاً يُوزَع شهرياً على أفراد العائلة، يكون في كل بيت من هذه البيوت مُهمشاً كأي قطعة أثاث لا نفع منها.

تحمّل الدكتور نعمان مسئولية هؤلاء جميعاً، وأصبح يُخطِّط، رغماً عنه، للبحث عن عريس للفتاة، ويُقدِّم النصح للشاب المتمرد الفاشل، ويستضيف الخال العجوز المنسي.

واقع مرير

اختزل الرملي من خلال الأحداث مشاعر متباينة وعلاقات تبدو في ظاهرها عادية بلا تعقيد، لكنها ترمي بظلالها على واقع مرير كان ولا يزال يدور في بيوتنا حتى هذه اللحظة، فالعلاقات بين الأهل والجيران جعلت من الجميع غرباء حتى عن أقرب الناس.

وجاءت الطفلة كـ«فلاش كاميرا»، يُضيء عتمة الجد، وامتد الضوء وكشف الجميع. فلم يكن الدكتور نعمان هو الوحيد الذي يحتاج إلى الخروج عن قضبان القطار كما أخبره طبيبه النفسي؛ والذي لجأ إليه في البداية للاستشارة بعد حالة الخوف التي أصابت حفيدته عقب رؤيتها المجرم قاتل فتاة المعادي، ثم أمسى يذهب إليه خجلاً يخشى الاعتراف أنه بحاجة إلى منْ يمد له يد المساعدة، ويكشف له دواخل نفسه. وبعد أن ذهب خجله وشكى حاله لطبيب، أخبره بأنه عاش حياته كالقطار لا يخرج عن القضبان؛ وحرص كل الحرص على ألّا يخرج عنه ظناً منه أنه بذلك يفعل الصواب، فجعل ذلك منه المُلقِّن في الجامعة، والمُنقطِع عن العائلة، والمُعتزِل بين الجيران.

وحتماً قابلت هذه الشخصية التي تقوم بدور الوصاية على الطلاب، فتلقي المعلومة ولا تقبل بعدها نقاشاً، ولا ترى في الحوار أهمية. فهو كان يتذكر خطأً إملائياً لأحد طلابه (أحمد راتب)، لكن لم تلفت نظره جارته، (رجاء الجداوي)، حتى أخبره صديقه (حسين الشربيني) كم هي رائعة، ولكنه استفاق وخرج عن القضبان وأخرج الجميع من بعده.

رسم الرملي تلك العلاقات بدقة بالغة رغم بساطتها وجعلك ترى التناقض، فتستخرج من خلالها الحقيقة والمشكلة، وذلك استخدام الأسلوب الإرشادي الفج أو التوجيه المباشر، بل ترك لك الواقع الأليم في طابع كوميدي، ليقول لك في البداية لا تتأمل، فقط شاهد وابتسم، وعندما يجذب انتباهك، يكشف لك المشكلة وتتفاعل معها، مثله في ذلك مثل هؤلاء الذين يشاركون في مسابقات المواهب، فهم يبدؤون برسم خطوط تبدو بلا معنى، ثم يقلبون اللوحة فتجد صورة بديعة غاية في الدقة.

إن لينين الرملي من خلال «هند والدكتور نعمان» يستدرجك كعادته في أغلب أعماله، من خلال عمل يبدو كوميدياً خفيفاً، لكنك تكتشف فجأة أنك في قلب معمعة صراع الأجيال، وتجلس مكان الدكتور نعمان عندما سرح بخياله أثناء حديث خاله المسن الذي ردّد نفس كلامه مع ابن عمه الشاب الجامعي، لتُدرِك أنك أحد هذه الشخوص ولكنك لم تكن تعرف.

ربما أنا أو أنت أو شخص نعرفه، هو هذا الرجل الذي قضى عمره يظن أنه يفعل عين الصواب، بل أحياناً لا يفعل شيئاً حتى لا يضطر لفعل قد يكون غير الصواب، من دون أن يعي أن الخطأ هو أب التجربة. وبالتجربة والاحتكاك تحوّلت حياة الدكتور نعمان تماماً، وشارك الجميع مشاكلهم وهمومهم، وأصلح علاقاتهم ببعضهم البعض. وأصبح لا يقف موقف المُتفرِّج، بل يشارك ويمنع ويحاول الإصلاح.

نهاية أم إنذار؟

ولكن سُنّة الحياة، أو رغبة المؤلف، لم تجعل نهاية المسلسل سعيدة، فيتزوج الدكتور نعمان من الجارة (طنط شادية)، بل جعلته في النهاية وحيداً يجلس بجوار الهاتف الأرضي في انتظار اتصال من حفيدته، بعد أن فَقَدَ الأُلفة التي كانت بينه وبين الوحدة وأصبح هو منْ ينتظر منْ يسأل عنه. وكأن الرملي يقول: «لا تذهب مسروراً عزيزي المشاهد… فإن النهايات السعيدة لا تصنع فرقاً… بل اصطحب هذا الألم معك لتتذكر أن هناك منْ يعيش وحيداً ينتظر اتصالاً منك».

لم أرضَ عن هذه النهاية في حقيقة الأمر، ولا أرى أن الدكتور نعمان بعد صحوته كان يستحق أن يبقى وحيداً، ولكن ربما قصد المؤلف أن يترك إنذاراً، يمكن أن نصيغه في الجملة الآتية:

لو تماديت فيما أنت عليه… قد يأتي يومٌ وتكون أنت هو.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.