قرأت رواية لمؤلف فرنسي ذاع صيته مؤخرًا، هو «غيوم ميسو»، تُسمى «وبعد»، الرواية تتناول الموت وهل نحن مستعدون له، هل نفكر به حتى، أم نظنه بعيدًا حتى يباغتنا ونتمنى ألا يفعل. لكن حريّ بي وأنا الطبيبة أن أعرف أنه سيفعل، وأنا المؤمنة أننا كلنا إلى زوال، لكن الفراق وانعدام الفرص الثانية لنا ولمن نفقدهم، ما يجعل الأمر مستحيلًا. هل تكفي أي كلمات للتعبير عن حبنا لهم؟ وهل تكفي أي لحظات قضيناها معهم كذكرى لتسليتنا؟ الحق وكالعادة، نحن أنانيون حتى في الحزن، إننا قلقون على أنفسنا من بعدهم، أما هم فيرتحلون لمكانٍ نتمناه أفضل.

لكنه ليس سهلًا، فها أنا أبكي شخصًا لم ألقاه واقعًا إلا دقائق معدودة، لكن في عالم الأدب والخيال الأمر لا يُحسب هكذا، إن له تأثيرًا عليّ أبلغ وأكبر من كثيرين، ولست وحدي، بل شبكات التواصل الاجتماعي زاخرة بآلاف «البوستات» ممن لمس «أحمد خالد توفيق» حياتهم. فلماذا أكتب؟ ماذا لدي لأضيف؟ لست أدري، لكنني أصبت بسببك بتلك العدوى؛ حب الكتابة.

أريد أن أكتب شيئًا لك، عنك، عرفانًا لك، تحية لك، وكأنه الدعاء يصعد إليك أينما كنت. لقد أهديتني ساعات من الأنس والألفة والعشرات من الربتات الحانية من روح أخرى، تفهمني دون أن تراني، كيف توافقت أرواحنا وصرت تتكلم من دماغي، التي أصبحت مثل دماغك «كده». (1)

من المستحيل إذن أن أكتب عنك بمعزل عن نفسي. كيف أكتب عنه ولا ينتهي الأمر بألا أكتب عن نفسي. من المستحيل أن نكتب عن أحمد خالد توفيق ولا ينتهي الأمر بنا بأن نكتب عن أنفسنا؛ فهو جزء أصيل من حياتنا، ذكرياتنا والأهم دماغنا.

نعم، فربما أحمد خالد توفيق ليس الأديب الأعظم، وليست رواياته هي الأفضل، لكنه صاحب فكر وأسلوب ورؤية جعلته هو من هو، أي موضوع يكتب عنه أحمد خالد تجده مختلفًا؛ صراحته اللاذعة، سلاسة أسلوبه، أدبه الجم وتواضعه، شجاعته أن يصرح أنه لا يعجبه كثير من الأعمال التي يؤمّن عليها الجميع حتى من لم يقرأها أو يتذوقها، والأهم الأهم أنه ظل هو هو بفكره وأمانته لنا في زمن من طعِموا خُبزه في الزمانِ الحسن، وأداروا له الظَّهرَ يوم المِحَن.

لقد كان البوصلة والمعلم حتى آخر يوم، حفظه الله من تردي الرأي وتفاهة الفكر.

إنجازه الأعظم إذن «دماغه»، إنك لتقرأ أي شيء له لتجده مُسليًا صادقًا وقريبًا منك، لقد قاتل الملل عنا وأهدانا ساعات من المتعة غير المبتذلة، بعيدًا عن ضوضاء التحذلق والتكلف وظلال النقاد. لقد عبر عنا وازدواجية فكرنا بقطبيه الغربي والشرقي ببراعة، لم يخجل كونه تأثر بعالم الغرب شأننا جميعًا، بل انتقى لنا من ذلك العالم الجديد عنا، وشاركنا دماغه في الموسيقى والسينما وكل شيء.

الأمر لم يقتصر أبدًا على رواياته، أي قارئ مخلص له ستجد أنه قرأ عدد مقالات يفوق الروايات والكتب. إن أحمد خالد توفيق كاتب ومفكر، وليس فقط قاصًا أو راوي حكايات، مع أنه أجاد ذلك تمامًا.

مع إنتاجه الغزير الحمد لله، إلا أنه أبدًا لا يكفينا، كيف يأتي معرض كتاب ولا تجد كتابًا مُجمعًا من مقالاته أو ترجمة جديدة له في روايات عالمية للجيب، أو كتابًا كاملاً جديدًا له؟

رحلت إذن وعدنا للوحشة من قبلك، نحن الوحيدون، الغرباء ممن لا يجيدون كل شيء، وليسوا رائعين، من وجدوا في رفعت إسماعيل بضعفه ووهنه وبذلته الكحلية صديقًا ورفيقًا لهم.

أبعث إليك بخطابي هذا، وأنت أول من بعثت إليه خطابًا ورقيًا وأنا طفلة، أول من أكتب له، أول كاتب مصري أقرأ له بعدما انتهيت من الكلاسيكيات المبسطة للصغار، كنت أنت بوابتي لأدب الكبار لتكون صديقي حين دخلت عالمهم، كم عُدت من المدرسة متعبة ولم أجد خيرًا من كتيب لك من البائع القريب ليُروّح عني. كم كنت حزينة ومنهكة روحًا وقرأت لك مقالًا أو كتابًا لك وشعرت فعلًا أنني لست وحدي. بل إنني حين بعثت إيميلًا لك قبيل امتحان الماجستير، فوجئت بردك السريع الذي شد من أزري وأثلج قلبي.

ربما لا أملك قصصًا طويلة عن لقاءات وإهداءات، لكنني كنت أحلم بيوم تقرأ فيه لي، وأحمد الله أنك على الأقل قرأت إحدى مقالاتي عنك وأعجبتك، بل وقرأت إحدى ترجماتي لك أيضًا وأشدت بها. عاجلني رحيلك أبي الروحي. ربما كُنا لنلتقي، لكن من المؤكد أن لقاءاتنا على الورق كانت أكثر أهمية وأبلغ تأثيرًا فيّ وفي جيلنا.

طبتَ مقامًا، وطيب الله مقامك الآن وآنس وحشتك كما آنست وحشتنا، وأنار قبرك وأعلى مقامك في عليين مع الصالحين يا رب العالمين.

وداعًا أيها الغريب كانت إقامتك قصيرة، لكنها كانت رائعة عسى أن تجد جنتك التي فتشت عنها كثيرًا كانت زيارتك رقصة من رقصات الظل قطرة من قطرات الندى قبل شروق الشمس لحنًا سمعناه لثوان من الدغل ثم هززنا رؤوسنا وقلنا أننا توهمناه وداعًا أيها الغريب لكن كل شيء ينتهي..

ربما كنت غريبًا وكنا نحن غرباء، لكنك الآن أبدًا لن ترحل غريبًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.