لم تكن زيارة السادات التاريخية للقدس عام 1977م هي الأولى له، بل سبق أن زار القدس قبل 22 عاماً من ذلك التاريخ، لكن دون نفس الضجة التي جلبتها الزيارة الثانية.

في النسخة الإنجليزية من السيرة الذاتية لأنور السادات «البحث عن الذات»، والصادر عام 1978م، تم إدراج صورة للسادات وهو شاب يرتدي بدلة، وواقفاً مع مجموعة من الوجهاء على خلفية مسجد «قبة الصخرة» في القدس. وتوضيح الصورة يُبيّن أنها كانت ضمن زيارته للقدس عام 1955م، متقلداً منصب الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي العام (وذلك قبل تأسيس المنظمة الحالية في الرباط عام 1969م).

أنور السادات، القدس، فلسطين
الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات يتوسط عدد من شيوخ ووجهاء فلسطين والأردن في القدس عام 1955.

ماذا فعل السادات في القدس؟

تم ترك هذا السؤال دون إجابة، حيث لم يُرد لها أي ذكر في كتاب السادات «البحث عن الذات». فأجاب عنه «مارتن كريمر»، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في «كلية شاليم» الإسرائيلية، في دراسة له صدرت ضمن كتاب «حول القومية والهوية والسياسة: إسرائيل والشرق الأوسط»، والصادر عن «مركز موشى ديان للدراسات الشرق أوسطية والإفريقية» في تل أبيب عام 2014م.

يقول كريمر أن زيارة السادات في ديسمبر/كانون الأول 1955م كانت جزءً من جولة عربية، شملت سوريا ولبنان والأدرن والعراق والكويت والمملكة العربية السعودية. وكان الهدف المعلن لهذه الزيارة؛ حشد التأييد العربي لفكرة عقد مؤتمر إسلامي للحكومات والشعوب، تحت رعاية منظمة المؤتمر الإسلامي العام، التي كان مقرها القاهرة.

في 11 ديسمبر/كانون الأول، وبعد زيارة السادات للبنان وسوريا، وصل إلى العاصمة الأردنية عمّان، وهناك أوضح للصحفيين أن الغرض الوحيد من الزيارة هو دفع قضية المؤتمر الإسلامي، وعلى وجه الخصوص لمناقشة توقيت ومكان عقد هذا المؤتمر. وهناك التقى مع الشيخ «عبدالله غوشة»، رئيس الهيئة العلمية الإسلامية في الأردن، لمناقشة زيارة القدس، التي كان مُقرر لها اليوم التالي.

في اليوم التالي، 12 ديسمبر/كانون الأول، وصل السادات إلى القدس في موكب سيارات، حيث كان في استقباله محافظ القدس والأعيان المحليين والشيخ «عبدالله غوشة»، إلى جانب؛ الشيخ «سعد الدين العلمي» مفتي القدس، والشيخ «محمد الأمين الشنقيطي» قاضي قضاة الأردن.

صلّى السادات في المسجد الأقصى، وكذلك في مسجد قبة الصخرة، واستمع للشروح والمعلومات التي تناولت تاريخ المسجدين، وتلقى بعض المواد المنشورة عنهم، ثم قرأ الفاتحة على قبر الملك (الشريف سابقاً) حسين بن علي.

وفي وقت لاحق، أصدر السادات بياناً، أعلن فيه أن مصر تعهدت بمبلغ 75 ألف جنيه مصري لتجديدات المسجد الأقصى، و75 ألف جنيه أخرى لإنشاء مكتب دائم لصيانة المسجد والضريح. وكان المهندسون المصريون بالفعل في طريقهم للإشراف على أعمال التجديد. كما وعد السادات أيضاً بأن تساعد منظمته (المؤتمر الإسلامي العام) في جهود التربية الإسلامية في المدينة، من خلال توفير الكتب المدرسية والمعلمين، والمساهمة في إنشاء المزيد من المدارس.

لكن خطته الأكثر طموحاً، كانت إنشاء مركز ثقافي إسلامي، بتمويل مصري، والذي كان ليصبح أكبر وأعظم بكثير من المراكز الثقافية التي أسستها القوى الغربية. فهذا المركز الثقافي كان سيعتبر ملتقى للمسلمين من جميع أنحاء العالم، ومن شأنه أن يجذب الطلاب من مناطق بعيدة مثل باكستان وإندونيسيا. وكانت المنظمة قد خصصت بالفعل 25 ألف جنيه مصري لإنشاء المركز، وفقاً لما أعلنه السادات حينها. وتوقع أن يبدأ البناء في غضون عام، وإنهاءه في ثلاثة أعوام.

أما بالنسبة لموقع المركز، فكان السادات قد وضع نصب عينيه على مكان مُحدد، فوق مقبرة اليهود في جبل الزيتون، وهو المكان المُطل على مسجد قبة الصخرة، وقد سأل عمن يملك ذلك الموقع، وقيل له أنه «وقف» تابع لسلطة الأوقاف الإسلامية. فأعرب السادات عن رغبته في بناء المركز الثقافي الإسلامي هناك، في المدينة المقدسة، التي رأى أنها كانت تعكس عظمة العرب والإسلام. لكنه أضاف أن الموقع الدقيق للمركز سيتحدد بالتشاور مع السلطات الأردنية والقنصلية المصرية في القدس. وشرع بعد ذلك في زيارة مدينة الخليل، ثم عاد إلى عمان.

وهناك، أدلى ببيان سياسي، حيث كانت هذه الحظة تشهد توتر متصاعد بين «إسرائيل» من جهة وسوريا ومصر من جهة أخرى. فأعلن السادات أنه سيكون هناك رد مناسب على الاستفزازات الإسرائيلية: من خلال تعزيز قوة الجيوش العربية. وذكر حينئذ أن الجيش المصري والسوري سيردّان بطريقة منسقة على أي استفزاز صهيوني، ودعا أيضاً إلى تجنيد اللاجئين الفلسطينيين عسكرياً في النضال ضد الاحتلال. ثم شرع السادات في استكمال جولته العربية.


الأجندة الخفية للزيارة

زار السادات القدس عام 1955م، في جولة تضمنت 6 دول عربية، وذلك بصفته الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي العام.

انطوت أجندة زيارة السادات للقدس والأردن على أبعاد أخرى. حيث جاءت هذه الزيارة في إطار تعزيز مكانة منظمة المؤتمر الإسلامي العام، التي أسستها كل من مصر والسعودية وباكستان عام 1954م، وذلك لمواجهة تمدد نفوذ «حلف بغداد» في المنطقة، وقد تعقّد الوضع أكثر مع انضمام باكستان للحلف، وبعد أن أصبحت الأردن على وشك اللحاق بها.

حلف بغداد وجماعة الإخوان المسلمين كانوا ضمن الأجندة الحقيقية لزيارة السادات للقدس عام 1955م.

كما جاءت الزيارة في إطار سعي النظام المصري حينئذ لتحجيم نفوذ جماعة الإخوان المسلمين، بعد احتدام الصراع بينهما، وانتقاله إلى ساحات إقليمية، وبالتحديد الأردن والقدس.

ففي ديسمبر/كانون الأول 1953م، كانت جماعة الإخوان المسلمين قد سبقت السادات إلى القدس، من خلال عقد مؤتمر إسلامي عالمي هناك، جمع العديد من نشطاء الجماعة في مصر وسوريا، وكذلك الحركات الإسلامية القريبة لهم في جميع أنحاء العالم الإسلامي.

وقد سعت الجماعة من خلال هذا المؤتمر وضع نفسها طليعة النضال المستمر ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتحويل القدس إلى مركز دولي لجماعة الإخوان المسلمين. وقد شارك في هذا المؤتمر كل من «سيد قطب»، المنظر الأيديولوجي للجماعة في مصر، و«مصطفى السباعي»، المرشد العام للجماعة في سوريا، و«علال الفاسي»، رئيس حزب الاستقلال المغربي. وأدان المؤتمر القرارات الدولية التي منحت شرعية الوجود للاحتلال.

وقد حاول النظام المصري من خلال زيارة السادات للأردن والقدس، تضييق الخناق على الجماعة في هذين المركزين، اللذان كانا ليصبحا نقطة انطلاق هام لتوسيع نفوذ الجماعة، وتقوية شوكتها في مواجهة نظام عبد الناصر.