صباح الثلاثاء 18 يونيو/حزيران 2019، وكجزء من روتينه اليومي المعتاد كمصري أصيل، اتجه إلى مطعم الفول والطعمية؛ ليحصل على وجبة «مسمار البطن»؛ لأن «فيها كل الفيتامينات اللي في العالم… طبق واحد الساعة 7 الصبح يقفلها للساعة 7 بالليل»، بتعبير العبقري سمير غانم في مسرحية «المتزوجون».

وأثناء تناوله «شقة الفول وسندوتش الطعمية» تصفح هاتفه ليجد كرات الفلافل تتلاعب متصدرة صفحة «جوجل» الرئيسة بمناسبة اليوم العالمي لها، حينها تعجب واندهش، فربما قبل ذلك اليوم لم يكن يعلم أن إفطاره اليومي ليس مجرد طعام شعبي رائج، إنما تراث مميز مُختلف عليه، ويُحتفل به عالميًا و«جوجليًا»، وهذا ما تؤكده رحلة الطعمية، التي بدأت من طهاة الفراعنة ثم انتقلت إلى الأقباط المصريين، مرورًا باعتبارها «كباب الفقراء»، وصولًا إلى عبورها الطريق الصحراوي في اتجاه شواطئ الساحل الشمالي لتحمل لقب «جرين برجر».

الطعمية بتاعتهم؟

كصورة من صور استيلاء الاحتلال الإسرائيلي على تراث الغير، ادّعى الإسرائيليون نسبة الفلافل إليهم بصفتها أكلة يهودية قديمة ورد ذكرها بالكتاب المقدس، وكان يعدّها اليهود المصريون ومن ثَمَّ نقلوها معهم في هجرات استيطانهم للأراضي المحتلة، وفي سبيل ترسيخ ذلك أصدروا طابع بريد بصورة الفلافل والعلم الإسرائيلي، ولديهم أغنية لتكريم فلافلهم، بعنوان «And we Have Falafel»، كما قاموا بتصديرها وترويجها بصفتها أكلة إسرائيلية.

وزيادة في ترسيخ الأمر حرص رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك على التقاط صورة له وهو يأكل الفلافل خلال زيارة لإحدى البلديات عام 2000، وقبل زيارة للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إلى الأراضي المحتلة عام 2013، أُعلن عن إعداد مأدبة له من «الطعام اليهودي» تتضمن الفلافل بصفتها أكلة يهودية تراثية. وعام 2015 نشرت شركة طيران «إل عال» الإسرائيلية تغريدة على موقع «تويتر» تقول: «ما هو الطبق الإسرائيلي الذي تُفضله: الحمص، الفلافل، الشكشوكة، أم الشاورما؟».

وربما تدارك الإسرائيليون الأمر، وذلك حين نشرت صفحة «إسرائيل بالعربية»، تغريدة في اليوم العالمي للفلافل (18 يونيو/حزيران 2019)؛ لتوضح أن الطعمية المصرية هي الأفضل والأطيب، وذلك وفقًا لشهادة خبيرة يهودية بريطانية في أنثروبولوجيا الأطعمة، والتي شاركت في تقرير للجارديان أكد أن الطعمية المصرية هي الأجود، خاصة «الإسكندرانية».

وربما كانت هذه التغريدة محاولة للتلاعب الإسرائيلي المعتاد؛ فبعدها بحوالي 4 أشهر، وبمناسبة اليوم العالمي للتغذية (17 أكتوبر/تشرين الأول 2019) نشر المتحدث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي عبر فيسبوك سؤالًا، يقول: «حابين نسألكم شو أكلتكم المفضلة من المطبخ الإسرائيلي؟»، صحبه بصور لأربع أكلات عربية شهيرة، كتب عليها «الشكشوكة الإسرائيلية، الشاورما الإسرائيلية، الحمص الإسرائيلي، الفلافل الإسرائيلية»، وذلك في الوقت الذي لا تجد فيه أي ذكر للمطبخ الإسرائيلي في كتب الطهي «ولا حتى في طبق اليوم»، كما أن هذه الأطعمة «أقدم من إسرائيل أصلًا»، وهو ما دفع الفنان محمد هنيدي إلى التعليق على الصور قائلًا: «ناقص يقولّي شبرا بتاعتنا».

«الطعمية» تراث مصري

تشير آراء ومراجع تاريخية عدة إلى أن طهاة الفراعنة كانوا أول من عرف الفلافل، وأول من حشاها؛ فالصور الأولى للطعمية ظهرت على نقوش وجداريات فرعونية، وكذلك طريقة تحضير الفول وإضافة الخضروات لها وتحميرها، هذا فضلًا عن تميز مصر بالبقول بنص القرآن في قصة موسى مع اليهود.

بينما تشير آراء أخرى إلى أن الفلافل عربية النسب، فلسطينية الأصل، أو كان أول من عرفها هم السوريون في القرون الوسطى، ومن ثَمَّ ارتحلت إلى بقية أرض العرب عبر رحلات التجارة.

وقد نشرت «CNN بالعربي» تقريرًا تناول تاريخ الطعمية، وسرد روايتين لتسميتها، الرواية الأولى تنسبها للأقباط المصريين؛ حيث تناقلوا «أقراص الفراعنة»، وأعدوها كطعام بديل للحوم أيام الصوم الكبير قبل نحو 1000 عام؛ لثرائها بالبروتين النباتي، ويُرجَّح أنها تعود لكلمة قبطية من ثلاثة مقاطع: (فا- لا- فل)، وتعني كثير الفول، وارتحلت عبر الإسكندرية إلى بلاد الشام، وهناك استُبدل الحمص بالفول، والرواية الثانية، تعود إلى لفظة «پلپال» الأرامية، بمعنى «الشيء المستدير»، وجمعها «پلاپل» حُرّفت إلى «فلافل».

كما ذكرت الكاتبة حنان جعفر في كتابها «تاريخ المطبخ المصري» أن كلمة فلافل هي كلمة مصرية مشتقة من «فلفل»، وهو ما يُفسر المذاق الحار المميز للفلافل المصرية، أما لفظ «طعمية»، فيُنسب إلى اللهجة المصرية كمشتق من كلمة «طعم» أو «طعام».

وشهد شاهد من أهلهم

المصريون يقدّرون تاريخهم الفرعوني، لذا فإن تناول الفول والطعمية يُعد تعبيرًا واعيًا عن هوية المصريين، وتمسكهم بأصولهم، وطريقتهم لتذكر من هم.
كين ألبالا، مؤرخ الغذاء في جامعة كاليفورنيا.

في كتابها Falafel Nation «أمة الفلافل: المطبخ وصنع الهوية الوطنية في إسرائيل»، كتبت يائيل رافيف، أستاذ الدراسات الغذائية بجامعة نيويورك أن أصول الفلافل تعود للأقباط المصريين، ومنهم انتقلت إلى دول الشرق الأوسط، وتم استبدال الحمص بحبوب الفافا (الفول).

وتحت عنوان «صُنع في مصر»، وصف تقرير لموقع Middleeast Eye الفلافل المصرية بأنها «الأعظم في العالم»، واستشهد التقرير برأي أستاذ التاريخ ومؤرخ الغذاء الأمريكي الشهير «كين ألبالا»، مؤلف كتاب Beans : A History، والذي أكّد أن تاريخ الطعمية يعود إلى الفراعنة؛ فقد عُثر عليها في مقابر ترجع إلى الأسرة الثانية عشرة، وصوّرت جداريات فرعونية طهاة يصنعون الفلافل، وأوضح أن الطعمية يمكن أن تعد جزءًا من وجبة غذائية متكاملة؛ لثرائها بالبروتين.

أما BBC، فقد منحت الطعمية المصرية لقب «أفضل فلافل في العالم»، واصفة «ساندويتش الطعمية» بأنه «درس في البساطة الكاملة»؛ إذ يشتمل المزيج المصري على الأعشاب والخضروات الطازجة، مما يُنتج مساحات داخلية خضراء رائعة، وعمق أكبر من النكهة، وأكّدت «كلوديا رودن» عالمة الأنثروبولوجيا أن «أفضل فلافل في العالم تأتي من مصر؛ بسبب الطعم والملمس؛ فملمس الفول أفضل من الحمص؛ لأنه أنعم و«كريمي»، كما أن النسخة المصرية تحتوي على الأعشاب، مما يجعلها أكثر خضرة، ويعطيها نكهة كلية أفضل بكثير».

ولذلك يمكننا القول إننا – المصريين – يجب أن نأخذ «طعميتنا» على محمل الجد؛ لأننا «الأصل»، كما أن الإصدار المصري لا يشبه أي إصدار آخر؛ فهي ليست مُعدّة من الحمص بل من الفول إلى جانب البصل والثوم، ومنتجات طازجة، مثل البقدونس والكزبرة والكراث، وهذا ما يعطيها المذاق الفريد والتميز، ويجعلها أكثر ثراءً ونكهة وخضرة، في حين تخلو الفلافل الشامية ذهبية اللون من الأعشاب، كما أنها جافة وكثيفة، لذا يمكن أن تُعد «الطعمية» نوعًا من القومية؛ فهي بفخر «Made in Egypt».

المصريون ملوك الفلافل

اشترك في المسابقة شيفات من سوريا ولبنان وفلسطين وإسرائيل، وقدموا الفلافل من الحمص بينما قدمت الطعمية المصرية من الفول، وكسبت بفارق صوت عن المتسابق الإسرائيلي، الذي سألني غاضباً: (كيف استطعتِ حشوها بالباذنجان المشوي؟ إن هذا غير ممكن فنيًا)، فقلت له: أنا أعلم أنك أفضل شيف فلافل في بريطانيا وأوروبا، لكن الطعمية صنعة مصرية 100%، ولا يستطيع أي شيف أن ينافسنا فيها.
الشيف «مصطفى الرفاعي».

«والله وعملوها الرجالة»… كانت هذه العبارة جزءًا من «تويتة» السفير البريطاني لدى مصر، جون كاسن، بعد ما تُوّجت الطعمية المصرية على عرش «بطولة العالم للفلافل» بلندن عام 2016، ضمن فعاليات عام البقول، حيث تفوقت الطعمية على الفلافل السورية واللبنانية والإسرائيلية، لتصف الجارديان المصريين بأنهم «ملوك الفلافل»، ومن هنا بدأت رحلة «بطل العالم في الفلافل» الشيف «الطنطاوي» مصطفى الرفاعي مع احتراف الطبخ، وتحقيق حلمه في الدفاع عن تراث المطبخ المصري، وهوية الأطعمة المصرية، وذلك خلال مسيرته التي وصل فيها إلى منصب سفير المطبخ المصري في جمعية الطهاة العالميين.

بدأ الرفاعي في الدفاع عن مصرية الطعمية بعد ما وجد رواجًا بين الأوروبيين بأن الطعمية إسرائيلية المنشأ يهودية الأصل، لذا قرر إثبات أن الأصل في الفلافل هو صناعتها من الفول لا الحمص، وأن الطعمية المصرية تعود أصولها لمئات السنين «قبل أن تظهر إسرائيل للوجود كدولة مغتصبة للكيان العربي»، وذلك بحسب حواره مع مجلة ماسبيرو.

أكّد الرفاعي في ذلك الحوار أن فكرة توثيق الطعام المصري جاءته بسبب تعدد أصول الأكلات المعدة في مصر، الأمر الذي أفقدنا هويتنا المصرية، فقد حدث تغير في الذوق المصري، وراجت المكرونات والبيتزا والبرجر، وهي أكلات غير مصرية ولا تمثلنا، في حين أن الأكلات المصرية هي البصارة، والفول، والفلافل، والعيش البلدي، والكِشك الصعيدي، والملوخية، وكذلك الخميرة، والخس بأنواعه، ونبات الهليون (الاسبراجوس).

ويشير الرفاعي إلى بُعد آخر للمشكلة، وهو أن المطبخ المصري بعيد عن المنافسة العالمية، لكنه يؤكد أن أمام الطعام المصري فرصة كبيرة للمنافسة والتفوق، في ظل اتجاه العالم إلى البقول والخضروات؛ إذ إن لدينا في مصر أكلات عدة تعتمد عليهم، مثل البصارة والعدس والفول والطعمية والكشري، كما أن الأكل المصري رخيص الثمن، وبسيط التكلفة، ومميز الطعم، وقليل السعرات الحرارية، و«ممكن يكسر الدنيا»، هو فقط يحتاج إلى التطوير والتسويق.

القاهرة – نيويورك

قد يُذكِّرك هذا العنوان الفرعي بفيلم (إسكندرية نيويورك) الذي يحكي جزءًا من قصة العبقري يوسف شاهين، وربما اقتبسه الشيف الرفاعي حينما وضع عبارة (القاهرة نيويورك) على الفرع الأمريكي لمطعمه؛ ليحكي جزءًا من قصة حياته وشغفه بالطعام، وحفاظه على الهوية المصرية.

أسّس الرفاعي مطعم «زووبا» مع شريكه المصري الأمريكي «كريستوفر خليفة» عام 2012؛ ليقدم الأطعمة المصرية الشعبية بشكل مختلف، ويحافظ على هويتها، ويرتقي بها، ويقدمها كسفراء للمطبخ المصري، حيث سافر الرفاعي بمأكولاته الشعبية إلى نيويورك في صيف 2019؛ ليقدم كلاسيكيات طعام الشارع المصري، كالطعمية والفول والكشري والعدس والبصارة والتقلية والعيش البلدي، ليصبح أول مطعم مصري بـ«مانهاتن»، وسط طموحات للتوسع في جميع أنحاء بلاد «العم سام».

يقول كريس خليفة: «عندما بدأ جنون طعام الشوارع، تسابق الكل لإبراز ثقافات الطعام الخاصة بهم، لكن لم يفعل أحد ذلك مع الطعام المصري، فاستهدفنا الترويج للمطبخ المصري عالميًا دون (تغريبه)، لذا فنحن نسمّيها طعمية، ونشرح ماهيتها مقابل الفلافل». وربما هذا ما تؤكده عبارة «TAAMEYA not falafel» التي يستخدمها المطعم في دعايته كثيرًا، في ظل أن جانباً مهماً من تميز وفرادة المطعم أنه يهتم بالتأكيد على مصريته، فتُكثِر على صفحة فيسبوك زووبا عبارات مثل: «كشري مصري»، و«حواوشي مصري»، و«فريش بطعم القاهرة».

هذه الرحلة السريعة ربما تدفع صاحبنا الذي تفاجأ بالطعمية على «جوجله» إلى الإجابة عن سؤال: لماذا تأكل الطعمية يوميًا؟ بقوله: «أنا أتمسك بتراثي»، لذا «ارفع ساندوتشك فوق أنت مصري»، وقُل: طعمية، لا تقُل: فلافل.