في أي مجتمع تُخصص عطلة أسبوعية، يستريح فيها الناس من عناء العمل، ويمارسون بعض اللهو الذي يستعيدون من خلاله نشاطهم، وفي العصر العباسي خُصص يوم، ثم يومان، كان لأهل بغداد فيهما طقوس خاصة.

ويذكر ميخائيل عواد في كتابه «صور مشرقة من حضارة بغداد في العصر العباسي»، أنه جرت العادة منذ صدر الدولة العباسية على إغلاق الدواوين بدار الخلافة في بغداد وقطع الأعمال يوم الجمعة، لينصرف فيه الناس إلى الصلاة جماعة، فكانوا يقضون أكثر النهار في المساجد للصلاة وسماع الوعاظ.

وبقيت الحال على هذا الوجه، حتى جاء الخليفة العباسي المعتضد بالله (242-289هـ)، فأضاف يومًا آخر يتوسط جمعة وأخرى هو الثلاثاء، حيث تُغلق فيه الدواوين، ويكون يوم راحة ولهو.

ويروي «عواد»، أن المعتضد بالله أمر وزيره عبيدالله بن سليمان، وقائد جيشه بدر المعتضدي، بألّا يحضرا أحدًا من القواد والأولياء لدار الخلافة يومي الجمعة والثلاثاء، لحاجة الناس في وسط الأسبوع إلى الراحة، والنظر في أمورهم، والتشاغل بما يخصهم، ولأن يوم الجمعة يوم صلاة، وكان يحبه.

وطلب الخليفة من عبيدالله بأن يجلس في يوم الجمعة للمظالم العامة، وإلى بدر أن يجلس لمظالم الخاصة، ومنع أن يُفتح في هذين اليومين ديوان، أو يخرج شيء إلى مجلس التفرقة على الجيش خاصة.

غير أن محمد عبدالحي شعبان يرى في كتابه «الدولة العباسية/ الفاطميون 750 – 1055م/ 132 – 448هـ»، أن الغرض الرئيس من جعل الثلاثاء والجمعة عطلة أسبوعية لم يكن إراحة الموظفين، بل كان ترشيد النفقات في ظل الأزمة المالية التي كانت تحاصر دولة الخلافة العباسية آنذاك، من خلال تحديد أسبوع العمل للموظفين الحكوميين بخمسة أيام، فبالإضافة إلى يوم الجمعة، مُنح الموظفون يوم الثلاثاء أيضًا، على أن ما يؤسف له أن هذه العطلة الأسبوعية الإضافية كانت غير مدفوعة الأجر.

الثلاثاء ملتقى الأحباب والعشاق

أيًا كان الهدف، فقد كان عمال الدواوين ببغداد يجتمعون في يوم الثلاثاء في دورهم، أو يقصدون البساتين، فيقضون عامة نهارهم في الأنس، وكثيرًا ما كانوا يتذاكرون في شؤون وظيفتهم.

وبحسب «عواد»، شاع أمر عطلة الثلاثاء بين الناس، وسرت من خاصتهم إلى عامتهم، فأضحى يومًا مخصصًا للهو والقصف والغناء، وملتقى الأحباب والعُشاق، فكان من العار على المرء أن يبقى في داره بعيدًا عن الأنس والطرب، واللهو والشراب.

وكان القوم يتهيؤون ليوم الثلاثاء من عصر الإثنين، فيستحضرون ما لذّ وطاب من الطعام والشراب، ولم يكن يفوتهم اصططحاب آلة الطرب وغيرها من مُتممات أسباب السرور، فيتركون بغداد، صاعدين بدجلة في «شذاءاتهم»، أو «سُميرياتهم»، أو «طيّاراتهم»، وكلها أسماء لوسائل نقل نهرية، ويقصدون قرية «قُطربُل» خارج بغداد، وكانت متنزهًا وبها حانات خمر.

كما كانوا يقصدون قرية «القُفص» بالقرب من بغداد، وكانت من مواطن اللهو والتنزه ومجالس الفرح، وعُرفت بالخمور الجيدة والحانات الكثيرة، أو قرية «أوانا» ذات البساتين والشجر الكثيف، والتي ذكرها الشعراء والخلفاء كثيرًا في أشعارهم، أو غيرها من مواطن التنزه، فيقضون هناك يوم الثلاثاء، فإذا دنا مساؤهم قفلوا راجعين، بحسب ما ذكر «عواد».

عطلة مدرسية

يذكر «عواد»، أن الأولاد كانوا يتمتعون بعطلة الثلاثاء، فضلًا عن تمتعهم بالجمعة أيضًا، كما يتمتع بها آباؤهم، ومصداق ذلك ما أنشده عبدالله بن الخليفة المعتز بالله، قائلًا:

يا ابن علي فضّ جمعهم .. واعفِ نفسك من غيظ وضوضاء
لا تجعلون الثلاثاء لاجتماعكم .. إن الكتاتيب تخلو في الثلاثاء

والظاهر أن هذه الحالة تبدلت بعد المائة الرابعة للهجرة، فأصبحت عطلة أولاد المدارس يوم الخميس بدلًا من الثلاثاء، بحسب «عواد».

ولم تختص بغداد بعطلة يوم الثلاثاء فحسب، بل تعدى هذا الأمر إلى بلدان إسلامية أخرى، ومنها دمشق، فكانوا يقصدون ربوتها في هذا اليوم، وأحيانًا في أيام أخرى معلومة، وكانت هذه الربوة في أول أمرها تُقصد بالزيارة ثم تغير أمرها، وصار يقع بها المناكر، ويقصدها الناس يومي السبت والثلاثاء دائمًا، وبعض الناس يومي الأحد والأربعاء، ويقال لها «المحفل».

وكان الغلمان والجواري والنساء يتزينَّ في «أملح زي وأفتنه»، ولذلك لما ولي الأمير سيف الدين الحنبلي اقتمر الصاحبي نيابة دمشق في العصر المملوكي سنة 778هـ/ 1376م، باشرها شهرين وعشرين يومًا، فأزال الفساد، وأنكر المنكر، وأمر الناس بفتح الأسواق يومي السبت والثلاثاء.

طقوس يوم الجمعة

ويذكر الدكتور فهمي سعد في كتابه «العامة في بغداد في القرنين الثالث والرابع للهجرة/ دراسة في التاريخ الاجتماعي»، أن يوم الجمعة كان الراحة الأسبوعية الرئيسية، ونظرًا لاكتساب صلاة الجمعة أهمية خصوصًا، فقد كان المسلمون يحافظون على طهارتهم في هذا اليوم بدخول الحمامات الشعبية وارتدائهم الثياب الجميلة.

وروى الخطيب البغدادي في كتابه «تاريخ بغداد»، أن صفوف المصلين في القرن الثالث كانت تمتد من جامع المنصور إلى باب خراسان على نهر دجلة، في إشارة لكثرة المصلين، وعندما تبدأ الصلاة يردد بعض الرجال التكبيرات عند الركوع والسجود والنهوض والقعود، لإيصالها إلى المصلين خلفهم، وقد يضطر المصلون إلى الصلاة في سُميرياتهم (سفن ومراكب صغيرة في النهر) لكثرة الازدحام.

وفي القرن الرابع كان المصلون في جامع الرصافة يقفون على مسافة توازي المسافة السابقة، ووصف محمد بن أحمد المقدسي في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» صلاة الجمعة بأنها يوم مشهود.

على أنه كان للبغدادين في يوم الجمعة أوقات يقضونها في غير الصلاة، فقد كان الشعراء يجتمعون في القبة المعروفة بهم، وتسمى «قبة الشعراء»، فيتناشدون الشعر، ويعرض كل واحد منهم على أصحابه ما أحدث من القول بعد مفارقتهم في الجمعة التي قبلها، وكان يحضرها من الشعراء دعبل الخزاعي وأبو الشيص الخزاعي وأحمد بن أبي فنن وأبو تمام، والناس يستمعون لإنشادهم، وكان من رواد هذه القبة في القرن الرابع أبو بكر الشبلي، بحسب ما ذكر «سعد»

ارتياد البساتين وزيارة الأصدقاء

من البغدادين من كان يدخل بساتين منطقة الكرخ، ويحمل زاده معه، حتى إذا حانت صلاة الجمعة اغتسل ومضى إلى المسجد.

وكان البعض منهم يقضون أوقاتهم في زيارة أصدقائهم، وكانت معظم العائلات تجعل راحتها في دورها، مما يجعل من الضروري إعداد الولائم التي تستلزم كمية أكبر من اللحوم، لذا فإن القصابين كانوا يعملون قبل ظهر يوم الجمعة ليتمكنوا من تلبية رغبات زبائنهم، ذكر «سعد».

وفي أيام عطلاتهم مارس البغداديون هوايات مختلفة معظمها موروث، منها ما كان يمارس داخل البيوت، ومنها ما يمارس خارجها، مثل لعبة الشطرنج، التي مارسها كبار رجال الدولة، ومارسها أيضًا العامة وتكسبوا منها.

ويرصد محمد بن هلال الصابئ في كتابه «الهفوات النادرة» صورة للاعبي الشطرنج في العصر العباسي، فيذكر أن التغايظ بين اللاعبين كان يعطي اللعبة نوعًا من الحماسة لمتابعتها، نظرًا للوقت الطويل الذي تستغرقه، والذي يؤدي إلى سهو اللاعبين، وكان من أهداف التكايد إغفال الند عن لعبة يوشك أن يلعبها، فيلجأ الند إلى إثارته حتى يسهو عنه.

وربما أدى التغايظ بين اللاعبين إلى التشاتم وسب الحاضرين، وقد يلجأ أحدهم إلى أساليب تستفز الند، فيصف أحدهم نفسه بأبي الهول ونده بأبي الفزع، أو يصف نفسه بالصيدلاني وخصمه ببذر القطن للتحقير منه.

كما لعب البغداديون أيضًا النرد واتخذوها وسيلة للتسلية والعبث والمقامرة والتكايد في ما بينهم.

نزهات نهرية وصيد حيوانات

اختار أهالي بغداد لهذه النزهات أجمل الأماكن وأكثرها هدوءًا، ومنها متنزه قرية «المحول»، الذي كان من أشهر متنزهات بغداد، وبحسب محمد عبدالله أحمد في كتابه «الحياة الاجتماعية في بغداد في العصر العباسي الأخير 575-656هـ/ 1179– 1258م»، كان الناس يجتمعون في الصباح الباكر ويذهبون إليه، ويخترقون الأشجار والرياض ويفترشونها حتى المساء.

كما اتجه كثير منهم إلى المتنزهات والبساتين على نهر عيسى بالجانب الغربي، وحرص بعضهم على اصطحاب الجواري والمغنيات لتكتمل فرحتهم.

وخرج البعض إلى شاطئ دجلة للنظر والفرجة على أرباب الحكايات، حيث توجد جماعات من العامة عملهم إضحاك الناس بنوادرهم.

وفي بعض الأحيان كان الأمراء والأعيان يدعون أصحابهم لقضاء ساعات من الراحة والتمتع في بساتينهم بعد تناول وجبة طعام، بحسب ما ذكر «أحمد».

واستخدم البغداديون في نزهاتهم النهرية أنواعًا من السفن والقوارب، مثل السُمريات، والشبارة، والمُصفرات، التي كانت من مراكب الأعيان من كبار التجار وأصحاب المقاطعات، حيث يركب الرجل وغلمانه والملاحون وعليهم الثياب الجميلة.

ويذكر «أحمد»، أن بعضًا من أهالي بغداد كانوا يقصدون الأديرة الخاصة بالنصارى للتنزه والراحة، حيث كانوا يقضون أوقاتهم في شرب الخمر، ومشاهدة المردان والنساء الجميلات، فقصدوا دير الثعالب، ودير مار جرجس، ودير سابر، ودير الجاثليق، ودير العلث، ودير قوطا، ودير مليان.

وكانت هذه الأديرة مكانًا لصنع الخمر، إذ كانت تحاط بالأعناب والفواكه التي تُعصر حتى تصير خمرًا، فكان دير الزرقوف مصدرًا للخمر الذي يعصر به ويباع لأهل بغداد.

وفي أوقات العطلات، كان شباب كل منطقة يخرجون على شكل مجموعات لصيد الطيور والسباع، ومعهم أدواتهم الخاصة، فإذا اصطادوا سبعًا طافوا به في باقي المناطق مفتخرين في أنفسهم ومُظهرين شجاعتهم.