قام الزعيم الصيني شي جين بينغ بأحد أكثر التحركات السياسية جرأة حتى الآن في زمن جائحة كورونا، وهو يراهن على إطباق قبضته السياسية على هونج كونج من خلال تمرير تشريع الأمن القومي، على الرغم من خطر حدوث اضطرابات جديدة داخل الإقليم الذي يتمتع بـ«حكم ذاتي» منذ خروج بريطانيا منها.

ظهرت توقعات بأن جائحة الفيروس كورونا قد تجعل من سياسة شي جين بينغ تجاه هذا الإقليم تعتريها حالة من الحذر التي تؤهلها للتسوية، ولكن كشفت المقترحات التشريعية، التي كُشف النقاب عنها يوم الجمعة 22 مايو/آيار 2020 في الافتتاح الذي عرفته الجلسة التشريعية السنوية في الصين، أن السياسة الصينية صارمة في طريقة تعاملها مع الملفات الداخلية، حتى تلك التي لها تداعيات خارجية.

وفي ظل هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها المجتمع الدولي بسبب الجائحة، اختارت الصين الضغط لفرض إرادتها مما أثار غضب القوى الغربية في وقت الأزمة العالمية، وهو ما يتزامن مع كفاح الصين للتقليل من وطأة الركود الاقتصادي الذي لم تعرف له شبيهاً منذ عهد الزعيم ماو. (1)

ستبدأ وكالات الأمن القومي الصينية اشتغالها بشكل مباشر في هونغ كونغ بموجب القانون المقترح ضد قوانين التخريب، والذي سيؤثر بالسلب بشكل كبير على الاستقلالية السياسية الكبيرة التي يحظى بها الإقليم. التغييرات القانونية المخططة والتي كشف النقاب عنها في مؤتمر الشعب الوطني الأخير خلال الدورة السنوية للبرلمان في الصين، ستستهدف الحد من «التخريب» و«الإرهاب» وكذا التأثير الأجنبي في هونغ كونغ. (2)

ونقلت وكالة أنباء الصين (شينخوا) عن المسئول الصيني «وانغ تشن» في خطاب ألقاه في المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني قوله «عند الحاجة، ستنشئ أجهزة الأمن القومي ذات الصلة التابعة للحكومة الشعبية المركزية، وكالات في هونج كونج للوفاء بالواجبات ذات الصلة بحماية الأمن القومي».

أدت أخبار التغييرات المقترحة إلى تراجع الأسهم في هونغ كونغ، مع إغلاق مؤشر هانغ سنغ بنسبة 5.6%، وهو أسوأ أداء في البورصة في نهاية المطاف. من المرجح أيضاً أن تؤدي الخطوة التي اتخذتها بكين من جانب واحد لفرض قوانين الأمن القومي التي كان من المفترض أن يتم تشريعها في هونغ كونغ إلى تأجيج التوترات السياسية في الداخل (3)، وهو ما يتجسد بدعوة نشطاء مؤيدين للديمقراطية إلى مظاهرات خلال نهاية الأسبوع. ويخشى منتقدو التغييرات المقترحة من أنها ستمكن منظمات الأمن القومي الصارمة في الصين مثل وزارة أمن الدولة، خدمة المخابرات الداخلية والخارجية الرئيسية في البلاد. (4)

إن المخاوف من إمكانية نقل مواطني هونج كونج إلى الصين ومحاكمتهم بموجب القانون الصيني كجزء من مشروع قانون تسليم المجرمين، هو ما أثار الاحتجاجات التي اجتذبت الملايين إلى شوارع المدينة وقيامهم بمظاهرات كبيرة، التي بدأت في يونيو/حزيران الماضي واستمرت إلى حدود انتشار الوباء بسبب الحظر المفروض على التجمعات الكبيرة، هذه المظاهرات قامت بتأثير على النشاط الاقتصادي لهونغ كونغ باعتبارها مركزاً مالياً كبيراً. (5)

وهو ما دفع الولايات المتحدة لتوجيه نقد على الفور للصين. حيث حذر وزير الخارجية مايك بومبيو من أن إدارة ترامب قد تتوقف عن معاملة هونج كونج ككيان اقتصادي منفصل عن البر الرئيسي للصين، وهو دعم مهم لسهولة وصول التجارة للولايات المتحدة. قد يكون لمثل هذه الخطوة تداعيات كبيرة على اقتصاد هونج كونج. وقال بومبيو إن مقترحات الأمن القومي في حال إقرارها «ستكون بمثابة موت نظام الحكم الذاتي القائم في هونج كونج».

وفي المقابل وصفت القيادة الصينية هونج كونج بأنها محاصرة من قبل قوى فوضوية يسعى مؤيدوها الأجانب إلى تمزيق الصين. وندد وانغ تشين، عضو المكتب السياسي، الذي أوضح خطط التشريع الأمني، بالمتظاهرين الذين دعوا إلى الاستقلال واقتحموا مكاتب الحكومة المركزية. سيسمح التشريع لوكالات الأمن التي يخشى البر الرئيسي من القيام بعملياتها علناً ​​في هونغ كونغ للمرة الأولى، بدلاً من العمل على نطاق محدود وبسرية.

رغبة الصين في اتخاذ تدابير إدارية أقوى في هونغ كونغ يجعل وضعها المالي قابلاً للتعرض للخطر، وهو ما يتجلى لنا بهبوط سوق الأسهم بشكل حاد منذ خمس سنوات مع ظهور تنبؤات بأن رؤوس الأموال يمكن أن تغادر المستعمرة السابقة لبريطانيا في حالة تفاقم الوضع.

ولا يأتي التهديد فقط من بكين التي حددت خطتها لتقوية نفوذها داخل هونج كونج بسن قوانين للأمن القومي، التي تؤثر على المنطقة التي يبلغ عدد سكانها نحو سبعة ملايين نسمة. تضع هذه الخطوة هونغ كونغ بشكل مباشر في قلب الصراع المتنامي بين الصين والولايات المتحدة، وهو ما يمكن أن يعوق جاذبيتها كمكان للقيام بأعمال تجارية.

يخشى رجال الأعمال والمستثمرون من أن يؤدي الصدام بين القوى العظمى إلى وضع حد لهونغ كونغ، التي لطالما جسدت جسراً ثقافياً واقتصادياً بين الشرق والغرب. فهذا المناخ السياسي غير المستقر والمتقلب تسبب بأن أعرب المستثمرون عن مخاوفهم. وهو ما أسهم في انخفاض قيمة سوق الأسهم في هونج كونج بـ5.6% يوم الجمعة 22 مايو/آيار 2020 (6)، حيث انخفض مؤشر فوتسي ألو وورلد بنسبة 0.7%، كما يُخشى أن يتسبب التوتر بين واشنطن وبكين بتفاقم الوضع. (7)

باختصار تحولت هونج كونج من قطب اقتصادي ومدينة تربط بين ثقافة الشرق بثقافة الغرب، إلى أرض معركة ظاهرها أنها بين الاستبداد الذي تجسده الصين والديمقراطية التي تجسدها الولايات المتحدة، ولكن في حقيقة الأمر المعركة ليست بين الديمقراطية والاستبداد بقدر ما أنها بين نموذجين يسعيان لتوسيع دوائر نفوذهما.

الصين تنظر لكل الأقاليم التي تنتمي لسيادتها وتتمتع بحكم ذاتي أنها تحتاج لمزيد ضبط وخضوع للنظام المركزي المتجسد في بيكين، كما تنظر لهذه المناطق بما فيها هونج كونج على أن الهيمنة عليها رسالة جدية للغرب لمدى جدية قوة الصين ونفوذها على المناطق التي تنتمي لها تاريخياً، ويمكن أن نلمس هذه النقطة لو استحضرنا لسياسة الصين تجاه تايوان.

في المقابل الولايات المتحدة تنظر لأهمية هونج كونج ليس لكونها مقاطعة ديموقراطية تكافح للحفاظ عليها أمام تمدد استبداد الصين، الولايات المتحدة الأمريكية لم تسع لدمقرطة دول عديدة واكتفت بمصالحها الاقتصادية كناظم للعلاقة، ومنه فليس صحيح أن ندّعي أن الولايات المتحدة حريصة على دمقرطة دول العالم. ولكن حرص الولايات المتحدة الأمريكية على إبقاء الوضع كما هو عليه في هونج كونج مرده أمور استراتيجية؛ تبدأ بمخاوف الولايات المتحدة من أن تفقد هيمنتها على منطقة بحر الصين الجنوبي، وهي منطقة استراتيجية باعتبارها ممراً تجارياً محورياً للعالم، وصولاً إلى فرض مزيد هيمنة على النظام الاقتصادي الحاكم لمنظومة الشركات متعددة الجنسية الأجنبية، التي تعود أصول عديد منها لجماعات ضغط اقتصادية أمريكية، حتى لا تتكرر تجارب الشركات الغربية الموجودة اليوم في المقاطعات الصينية، التي تفرض عليها هيمنة كاملة من النظام الصيني.

ولكن ما يجب الاشارة إليه هو أن الذي ينظر للضرر الاقتصادي الذي يمكن أن تتعرض له هونج كونج على أنه خسارة اقتصادية لصين، فهو غافل عن أمر مهم مفاده أن الصين دولة «سياسية» بالأساس بأذرع «اقتصادية»، على عكس الولايات المتحدة فهي دولة «اقتصادية» بأدوات «سياسية».

الإرادة السياسية الصينية تعلو على العوائد الاقتصادية حتى وإن عادت بالخسائر، كما أن الشعب الصيني ليس شعب وفرة في التنمية منغمسًا في الرفاه الاقتصادي، «وهذا رغم أن أكبر نسبة من الذين يقتنون البضائع الفارهة هم الصينيون»، شريحة مهمة من الصينيين ما زالوا يتذكرون مخلّفات الثورة الثقافية والقفزة الكبرى للأمام التي تسببت بمجاعة وفقر شديد لدى جل شرائح الصينيين. على عكس النموذج الأمريكي الذي تلعب فيه الإرادة الاقتصادية الدور الأهم للمشهد السياسي، وهو القابل لتأثر بهزات سوق المال والأعمال.

وفي النهاية تجدر الإشارة إلى أن هونج كونج باتت أرض معركة تُضاف لأراضي معركة عديدة فُتحت بين الصين والولايات المتحدة. وعلى المهتم بديناميكية العلاقات الدولية أن يهتم بنبض تحركاتها حتى يتفكك المشهد المُبهم وتتضح خريطة النفوذ المهيمنة على العالم أمامه.

المراجع
  1. By CHRIS BUCKLEY , KEITH BRADSHER , WORKING A CRISIS, XI MOVES TO MAKE HONG KONG BEND, NEW YORK Times, No. 58,702,P:A1.
  2. NICOLLE LIU , JOE LEAHY, Hong Kong security proposalsfuel tension, FTWeekend, 23 -24 May 2020, No: 40,407,p:03.
  3. Ibid.
  4. Ibid.
  5. CHUN HAN WONG , NATASHA KHAN, China to Allow Its Forces to Patrol Territory, THE WALL STREET JOURNAL, 23 – 24 May, 2020, NO. 121 ,P: A10.
  6. ALEXANDRA STEVENSON, Businesses Fret That China’s Clampdown May Drive Commerce Out of Hong Kong, THE NEW YORK TIMES, MAY 23, 2020, No. 58,702 ,p: A17.
  7. Ray douglas, The day in the markets, Financial Times Middle East , 23 -24 May 2020, No: 40,407 ,p:14