يقف الفتيان والفتيات كأنهم على وشك أن يعبروا الصراط، يرتجفون بكاءا و رعبا، و يشهقون من شدة الخوف، أعمارهم لا تزيد عن العاشرة، لكنهم يحملون هموم قرون كاملة على أكتافهم في هذه اللحظة بالذات ، كنت أكبر منهم بسنتين حينها فسألتهم مابكم؟

الأبله فاتن هاتضربنا عشان نسينا كراساتنا

لم تكن قد ضربتهم بعد، لكنها وضعتهم خارج الفصل في عقاب أشبه بعقاب الآلهة، عقابهم كان أن ينتظروا عقابهم.


كان محمود مختلفا ، لم يكن يؤدي واجبه أبدا ، وبشكل أو بآخر كنت أشعر أنه يتلذذ بالعقاب الذي يناله. لكن الأمر كان مختلفا هذه المرة ، كانت فاتن في قمه غضبها ، شمرت عن ساعديها فبدت وكأنها مفتولة العضلات و العروق ، سألته خصيصا وهي تعرف الإجابة مسبقا.

حليت الواجب؟ لا اشتريت الكراسة وجلدتها؟
لا (هذه المرة بخوف كبير ، فقد كانت على وشك أن تنفجر فيه حرفيا)

طلبت منه الخروج من مقعده، أخذ يرجوها أن تتركه هذه المرة فقط ، فقط هذه المرة و أخذ يقسم أنه لن يكرر هذا الأمر. لم تستمع لتوسلاته ، و طلبت من باقي الفصل «تثبيته»، فجأة قام كل الأولاد، أصدقائنا وأصدقائه من مقاعدهم والتفوا حوله في بضع دوائر متداخلة، أحدهم يمسكه من قميصه والآخر من ياقته، أحدهم يمسكه من كتفه وآخر من ساقه و قدمه.

الفتي يصرخ ويحاول التملص منهم لكنهم كثر، كنت الفتي الوحيد الذي لم يشارك في تثبيته (حمدًا لله). طلبت منه أن يخلع حذاءه، أخذ في البكاء والتوسل أكثر.

وضعت قدمه على حافه الكرسي بمساعدة مخبريها الكثر، وبدأت تنهال عليها بأقصى ارتفاع كان يمكن ليديها الوصول إليه.


كانت أول مره يدخل لنا ، لم يقدم نفسه ولم نعرف حتى أنه من سيدرسنا تلك المادة التي تعلمت كيف أكرهها (الرياضيات). مشى بهدوء بين الصفوف كالأفعي ثم و بكل خفة في يده باغت صديقي الذي كان يعدل جسده كي يخرج شيئا من حقيبته، لم يكن صديقي يراه لكنني رأيته وهو قادم، لم أستطع أن أحذره، لم أجد وقتا للكلام حتى، ضرب صديقي على رأسه، فبكى كما لم يبك من قبل، ولم أعرف أبكي من الألم أم من الصدمة.

يقولون أن قرارات الديكتاتور لا تصبح تاريخية قبل أن تمر بالمدرسة ولكنهم لم يقولوا أن الديكتاتور لا يطمئن على حكمه قبل أن يعين ضباطه في المدرسة.

يقولون أن قرارات الديكتاتور لا تصبح تاريخية قبل أن تمر بالمدرسة ولكنهم لم يقولوا أن الديكتاتور لا يطمئن على حكمه قبل أن يعين ضباطه في المدرسة.

بدأ الأمر في الأسبوع الثاني من الالتحاق بمؤسسات الدولة «التعليمية» حيث صفعتني المدرسة لأني كنت أحادث من بجانبي ومن هنا بدأت مسيرتي التعليمية (التعليمية بمعنى التعليم على الجسد)، لا أتذكر ترتيبا زمنيا ولكن سأحاول السرد بشكل متقطع للأحداث.

يبدو أني بدأت كثير الحديث وهو ما كان يزعج صناع الحضارة ومربيي الأجيال، ففي إحدى المرات حينما رأتني مدرسة الرسم أحادث من بجانبي أمرتني أن أقف في آخر الفصل رافعا يدي طوال حصتين متتاليتين ولم أكن قد جاوزت السابعة بعد.

لم يكن العنف مرتبطا فقط بمبنى المدرسة، ولكن أيضا في الدروس الخصوصية حيث يتم دفع مبلغ شهري من والدي التلميذ إلى المدرس عبر يد التلميذ، تلك اليد التي كانت تمتد إلى المدرس مرتين مرة عند الضرب ومرة عند دفع ثمن الضرب.

في ذلك اليوم قرر المدرس أنه سيعلق أحد التلاميذ «المستهترين» في السقف نتيجة هروبه من الدرس وبالفعل ربط المدرس الولد وتم تعليقه واستمرت الحفلة حوالى نصف وقت الحصة على مرأى ومسمع من بقية التلاميذ الذين لم ينبت أي منهم ببنت شفه.

كان المدرسون حينها يتم تقييمهم من أولياء الأمور على قدر قسوتهم فكلما كان المدرس أشد قسوة زاد ذلك من معدل تنافسيته في السوق التعليمي حتى أنه معروف بين التلاميذ مقولة «كسر وأنا أجبس» التي كانت سائدة بين أولياء الأمور مطالبين فيها المدرسين باتباع أقسى الأساليب الممكنة ومعطين لهم الضوء الأخضر لحفلات تكسير العظام.

يبدو أن الإنسان حين يختار أن يكون جلادا يستطيع بدون أي تدريب في دول شرق أوروبا أو غيرها أن يبدع في وسائل التعذيب المادي والمعنوي

في إحدى المرات حينما انزعج مدرس المكتبة من الضوضاء التي يحدثها التلاميذ قرر أن يتم التفتيش على الكراسات ثم جلب التلاميذ المقصرين إلى مقدمة الفصل، وتم وضع أحد المكاتب الدراسية في منتصف المنطقة الخالية ما بين السبورة وبين صفوف التلاميذ لتكون مثل كعبة يدور حولها التلاميذ حفاة الأقدام، ويقف هو على أحد جوانب الكعبة يضرب من يمر بجانبه، لم يكن يضرب كل من يمر بجانبه بمعنى الكلمة، ولكن كان يختار عشوائيا فتارة يضرب وتارة يدعك تمر من أمامه سالما تارة تأتي الضربة على ظهرك وتارة تأتي على قدمك الحافي ليصل إلى التلميذ في الأخير أنه أمام «النمرود» الذي يحيي ويميت فقط متى شاء.

في الغرفة المكتظة بصفوف الأطفال/التلاميذ انهال المدرس «الخصوصي» على الطالب «المهمل» بالضرب بخرطوم الكهرباء أثناء إحدى نوبات غضبه، نزف التلميذ الدماء من أنفه ولم يمنع ذلك المدرس من الاستمرار في الحفلة وحينها أسرعت للفت انتباه المدرس الغاضب لنزيف التلميذ، فالتفت لي بغضب أشد مستنكرا على ما يبدو تجرؤي على تلك اللفتة وانهال علي أنا الآخر بخرطومه الأحمر ثم عاتبني في آخر الحصة بعد هدوئه من فورة المنتقم الجبار بعتاب الأب الغفور الرحيم بأن لا شأن لي لأتدخل وأرثي على هذا الطالب المهمل.

كان مدرس الرياضيات والعلوم في المرحلة الابتدائية شابا تجديديا فلم يكن يحبذ استخدام العصا على ما يبدو بل كانت له أساليبه الخاصة حيث كان يجيد استخدام يده في شد شعر الأطفال بطريقة جديدة ومؤلمة تحمر لها أصداغهم ليشعروا بحرقان الكولونيا الـ «خمس خمسات» على ذقونهم المحلوقة قبل أن تنبت.

في المدرسة الإعدادية كان المكان أشبه بمؤسسة عقابية أكثر من أي شيئ آخر، المكان والقائمين عليه والروتين والمدير حتى الجمهور من التلاميذ وتعاطيهم مع الأمر، كان المدير هو الجلاد الكبير الذي كان يلعب دور مدير السجن حيث كان من المعروف أن الداخل إلى غرفته مفقود والخارج منها مولود فالداخل بذنب عظيم مصيره غالبا ما يكون التعليق على البوابة، حيث يصعد التلميذ ليتعلق بالبوابة بكلتا يديه وقدميه ثم يبدأ المدير بتوجيه الضرب بخرزانته على مؤخرة الصبي المارق وكان الضرب بالخرزانة على ظهر اليد في الصباح البارد هو مصير المتأخرين من السجناء إن لم يتفضل عليهم المدير (الجلاد) بتهوين العقاب ليكون الزحف على الرمال ثم لم القمامة من حوش المدرسة.

في ذلك اليوم أراد المدير (الجلاد) أن يبدع في العقاب أو ربما أنه رأى أن التلميذ (الضحية) سيئ لدرجة فوق المعتادة فربط التلميذ في إحدى شجر المدرسة ليحضن الطفل الشجرة من ناحية ويده مربوطة من الناحية الأخرى ويتسلى المدير/الثمرة بالضرب ذهابا وعودة من حين لآخر على جسد التلميذ (الغرس).

كانت المؤسسة العقابية (المدرسة) مليئة بضباط الخدمة (المدرسين) القساة والمتباهين بقسوتهم، فيوم إشراف هؤلاء على التنظيم المدرسي كان لابد أن يكون مثالا للانضباط.

يبدو أن الإنسان حين يختار أن يكون جلادا يستطيع بدون أي تدريب في دول شرق أوروبا أو غيرها أن يبدع في وسائل التعذيب المادي والمعنوي، في تلك الحصة الأخيرة من يوم دراسي طويل جاء أخيرًا البسكوت المدرسي ليوزع على الطلاب فهم بعضهم بفتح العلبة والأكل منها حيث لم يكن هناك أي نشاط يتم عمله في تلك الحصة حصة الصيانة غير صيانة الذات من الإهانة بالالتزام بالصمت طوال الأربعون دقيقة تقريبا وهنا قرر الضابط/السادي/المغلوب على أمره من قبل الوزارة أن هؤلاء الشياطين الصغار يستحقون العقاب المعنوي فأمر بأن يضع كل تلميذ علبة البسكوت أمامه بشكل ظاهر بدون أن يلمسها، أي أن يجلس الطفل ليظر إلى البسكوت على بعد عدة سنتيمترات من يده بدون أن يأكل منها، فقط ينظر إليها وزاد بأنه سيذهب إلى خارج الفصل وسيأتي فجأة وإذا رأى فم أحدهم يتحرك فسوف يفعل به الأفاعيل.

أما المدرسات (الضباط) من الجنس الرقيق حديثي الانتساب إلى المهنة، الذين لم يجيدوا بعد استخدام عصيهم في العقاب، فكانوا يستعينون بقدامى المحاربين من زملائهم لينتقموا لهم إذا خرج أحد الشياطين الصغار عن الطوع.

لم يكن كل ذلك بالطبع أعمالا فردية نابعة من شر خالص في شخوص الأفراد، بل كان عملا جماعيا يتعاون فيه الجميع بدأ من رئيس الجمهورية وانتهاءا بالتلميذ الذي يُعيّن مؤقتا ليشي بزملائه. ولم يكن ذلك بالطبع يمر على هؤلاء الصغار الذين تواطأ الجميع بعلم أو بجهل على مسخ ذواتهم دون أن يترك تشوها بالغا في نفوسهم، سواء تشوه آني أو مستقبلي. فمثل أي مؤسسة تعمل على مسخ الإنسان كان العنف ينتشر بين أفراد المؤسسة (الأطفال) وبين بعضهم البعض فاللعب دائما ما يكون عنيف، وإن لم يكن عنيفا يكن تنافسيا يهدف إلى هزيمة الآخر، السباب والألفاظ الجنسية منتشرة وأحيانا الممارسات الجنسية في بعض المجموعات المغلقة، دائما يكون هناك البلطجي المهيمن على الآخرين والذي يكون في الغالب أكثر من يتم كبته من جلاده/مٌدرسه/مٌروضه.

لن أتحدث هنا عن التحصيل الدراسي أو ما شابه لأني لن أتحدث عن التهذيب والإصلاح إذا كنت بصدد الحديث عن السجن ولا المناهج لأني بالطبع لن أتحدث عن نصوص الدستور إذا كنت بصدد الحديث عن الانتهاكات في دولة غاشمة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.