بعد فشل المباحثات بين طهران وواشنطن منذ أبريل/نيسان 2021 في العودة إلى الاتفاق النووي وما يعنيه ذلك من حل لمشكلات عالقة كثيرة، قرر الطرفان عقد اتفاق جزئي يحقق لكليهما مصالح عاجلة تمس حاجتهم إليها.

فمقابل إفراج طهران عن خمسة مواطنين أمريكيين، تطلق واشنطن سراح خمسة إيرانيين مسجونين لديها وتفرج عن مليارات الدولارات المجمدة المستحقة لطهران في الخارج.

واحتفت وسائل الإعلام الإيرانية بالصفقة باعتبارها لحظة انتصار على العدو وعلامة على قوة نظام ولاية الفقيه، ورسالة إلى المعارضة في الداخل وفي المنفى مفادها أن طموحاتهم في تغيير النظام قد تحطمت، وأن النظام تجاوز محنته بسلام واستطاع تحرير أمواله والتخلص من بعض العقوبات، وأن الصبر الاستراتيجي أتى أكله بعدما شكك المثبطون في جدواه.

ورغم إطلاق سراح الأمريكيين الخمسة من سجن إيفين سيئ السمعة فإنهم ظلوا رهن الإقامة الجبرية في أحد فنادق طهران، وأعلنت وزارة الخارجية الإيرانية أنه لن يسمح لهم بالصعود على متن الطائرة للسفر إلا عندما تهبط الأموال المجمدة في الحساب المصرفي القطري المخصص لذلك.

واستضافت الدوحة وفدي التفاوض وكانت الوسيط بين الطرفين في المفاوضات غير المباشرة، واستمر القطريون في نقل الرسائل حتى تم التوصّل للاتفاق منذ ستة أشهر، ولم يتم الإعلان عنه انتظارًا لاتخاذ الخطوة الأولى من جانب إيران بنقل السجناء إلى الفندق.

المحتجزون الأمريكيون الخمسة

أول هؤلاء الأمريكيين الخمسة المفرج عنهم سياماك نمازي، وهو رجل أعمال إيراني/أمريكي مزدوج الجنسية يبلغ من العمر 51 عامًا، كان يعيش في دبي، وقرر في صيف 2015 زيارة إيران التي كانت وقعت للتو الاتفاق النووي وحثت المغتربين على العودة إلى ديارهم وجلب خبراتهم وأموالهم، لكن تم اعتقاله ووجهت إليه تهمة «التعاون مع حكومة معادية» في إشارة للولايات المتحدة.

في العام التالي استدرجت السلطات الإيرانية والده باقر، 87 عامًا، مزدوج الجنسية أيضًا، من دبي لرؤية ابنه، فألقي القبض عليه، وتلقى حكمًا بالسجن لمدة 10 سنوات بنفس التهم، وكان باقر حاكم مقاطعة خوزستان (إقليم الأحواز العربي) في العهد الملكي، وعمل مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) في مناصب عليا في جميع أنحاء العالم.

ومع تدهور صحته، سُمح لباقر نمازي بمغادرة إيران في أكتوبر/تشرين الأول 2022 إلى دبي والخضوع لعلاج طبي، وأعلنت طهران حينها أن واشنطن ستفرج عن سبعة مليارات من أموالها المجمدة في الخارج، وهو ما نفته واشنطن ولم تنفذه.

ومن بين السجناء الأمريكيين أيضًا مراد طهباز، 68 عامًا، وهو رجل أعمال يحمل أيضًا الجنسية البريطانية وناشط في مجال الحفاظ على الحياة البرية شارك عام 2018 في إنشاء مؤسسة التراث الفارسي للحياة البرية، وهي منظمة غير ربحية مكرسة لحماية الحيوانات المهددة بالانقراض في إيران، وفي نفس العام تم القبض عليه وثمانية آخرين في المنظمة بتهمة التجسس، وحكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات بتهمة «الاتصالات مع الحكومة الأمريكية».

والثالث هو عماد شرقي، 58 عامًا، وهو رجل أعمال تم اعتقاله عام 2018، وبعد ثمانية أشهر أطلق سراحه من السجن وتمت تبرئته لاحقًا من جميع التهم لكن السلطات احتجزت جواز سفره، وعندما حاول الفرار من البلاد في عام 2020 عبر الحدود البرية اعتُقل وحكم عليه بالسجن 10 سنوات.

ولم تذكر الحكومة الأمريكية اسم السجينين الآخرين، مبررة ذلك بطلب أسرهما عدم الكشف عن هويتهما، أحدهما رجل أعمال من كاليفورنيا اعتقل منذ ما يقرب من عام، والآخر امرأة عملت في منظمات غير حكومية في أفغانستان، اعتُقلت في عام 2023، وكان أحد هذين الشخصين بالفعل قيد الإقامة الجبرية.

كما أن الإيرانيين الذين سيتم إطلاق سراحهم من السجون الأمريكية متهمون بخرق قوانين التصدير الأمريكية والقيود المفروضة على التعامل مع إيران، وتشمل تلك الانتهاكات المفترضة تحويل الأموال عبر فنزويلا ومبيعات معدات ذات استخدام مزدوج يمكن استخدامها في برامج إيران العسكرية والنووية.

تنفيذ الصفقة

رغم البدء في تنفيذ الصفقة فإن إتمامها قد يستغرق أسابيع، ويُتوقع أن يصل المحتجزون الخمسة إلى الأراضي الأمريكية في سبتمبر/أيلول المقبل، انتظارًا لإتمام إجراءات تحويل الأموال.

وقالت وكالة أنباء تسنيم الإيرانية شبه الرسمية إن الأموال سيتم تحويلها أولاً من العملة الكورية الجنوبية، «الوون»، إلى اليورو، ثم إرسالها إلى حساب في قطر يمكن لإيران الوصول إليه.

لكن كوريا الجنوبية تشعر بالقلق من أن تحويل 6 أو 7 مليارات دولار من الوون مرة واحدة سيؤثر سلبًا على سعر الصرف والاقتصاد، وبالتالي تمضي العملية ببطء، حيث يتم تحويل أجزاء صغيرة من الأصول المجمدة لإرسالها في نهاية المطاف إلى البنك المركزي في قطر، وخلال تحويل الأموال هناك تعقيدات إجرائية لتجنب المساس بالعقوبات الأمريكية، لذلك تم ترتيب سلسلة معقدة وتستغرق وقتًا طويلًا من التحويلات من خلال بنوك دول أخرى.

وتم الإعلان يوم الجمعة عن بدء الإفراج عن جزء من أموال طهران المجمدة، وأن الاتفاق يشمل الإفراج عن 10 مليارات دولار ليس في كوريا الجنوبية فقط بل والعراق أيضًا، إذ قالت وكالة الأنباء الإيرانية إنه سيتم الإفراج عن أموال من بنك التجارة العراقي، وسيتم نقل الأموال المجمدة من كوريا الجنوبية إلى سويسرا قبل تحويلها إلى قطر.

والأموال المستحقة على كوريا الجنوبية لإيران هي ثمن نفط تم شراؤه لكن لم يُسمح بتحويله بسبب العقوبات الأمريكية، ونفس الأمر بالنسبة للعراق.

وأثارت الصفقة انتقادات داخلية أمريكية خاصة من الحزب الجمهوري الذي اعتبر قادته أن الرئيس جو بايدن، المنتمي للحزب الديمقراطي، دفع فعليًا فدية لمحتجزي مواطنين أمريكيين، وأنه حتى لو استخدمت إيران الأموال لأغراض إنسانية فهذا يمكن أن يتيح لها توفير الأموال لبرنامجها النووي أو دعم الميليشيات في دول مثل العراق ولبنان واليمن، كما أن مثل هذه الصفقة تعزز وجهة نظر الحرس الثوري الايراني بأن احتجاز الرهائن ممارسة مربحة بأقل التكاليف.

لكن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكين، أكد أن الاتفاق لا يعني رفع العقوبات، وأضاف «سنواصل التصدي بحزم لأنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة وخارجها.. لا شيء من هذه الجهود يبطل ذلك».

وبحسب أحد مصادر شبكة CNN الأمريكية فإن العراق والإمارات وعُمان لعبوا أدوارًا أيضًا في تسهيل المباحثات، وكذلك سويسرا، التي تمثل المصالح الأمريكية في إيران، فليس للولايات المتحدة علاقات دبلوماسية مع طهران، وبالتالي لا توجد لديها سفارة أو دبلوماسيون على الأرض، وتؤدي السفارة السويسرية هذا الدور.

وقال وزير الدولة القطري بوزارة الخارجية، محمد بن عبدالعزيز الخليفي، إن بلاده لعبت دورًا محوريًا في تيسير الحوار ونقل الرسائل بين الطرفين، وأضاف في مداخلة هاتفية له مع قناة الجزيرة القطرية: «قبل الاتفاق، كانت هناك زيارات مكثفة لمسؤولين قطريين لواشنطن وطهران لإيصال هذه الرسائل»، وأن بلاده سهلت «إنشاء قناة مصرفية» لمتابعة تنفيذ الاتفاق.

خلافات حول الاتفاق

يحمل التفسير الإيراني الرسمي لاتفاقية تبادل الأسرى تناقضات مع التفسير الذي أكده الجانب الأمريكي، وعلى الأخص كيف يمكن لطهران الوصول إلى 6 مليارات دولار وإنفاقها؛ فقد قال الأمريكيون إن الأموال ستحول إلى حساب مصرفي قطري، وسيُسمح لإيران باستخدامها «لأغراض إنسانية» فقط مثل دفع ثمن الأدوية والمعدات الطبية، وهذه معاملات لا تخالف قيود العقوبات الأمريكية.

لكن إيران أعلنت في بيان على موقع وزارة الخارجية، الخميس، أن لها السلطة الكاملة لاستخدام الأموال، وقال البيان: «سيتم استخدام هذه الموارد المالية لتلبية مطالب مختلفة للبلاد، ويعود اتخاذ قرار بشأن كيفية إنفاقها إلى المؤسسات (الإيرانية) ذات الصلة».

كما أن تقارير أمريكية زعمت أن طهران أبطأت وتيرة تكديس اليورانيوم المخصب بنسبة قريبة من مستوى تصنيع الأسلحة النووية في مفاعلاتها، لكن وكالة فارس الإيرانية نقلت عن مصدر مطلع، تأكيده بأن البرنامج النووي مستمر دون توقف أو تغيير.

وتعليقًا على ذلك، قال منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، إنه لا يمكن تأكيد إبطاء تخصيب اليورانيوم في إيران.

ما بعد الصفقة

إذا أثمرت جهود خفض التصعيد بين طهران وواشنطن، فقد يلتقي الجانبان على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر المقبل للاتفاق على مزيد من المحادثات في ضوء نجاح الصفقة الحالية.

ويعد إنتاج طهران لليورانيوم المخصب بنسبة 60% أكثر ما يقلق واشنطن، إذ يحذر المسؤولون الأميركيون من أنه يمكن تحويله إلى مستوى كافٍ لصنع القنبلة النووية في أقل من أسبوعين.

ومن المنتظر أن تصدر الوكالة الدولية للطاقة الذرية تقريرها المقبل عن البرنامج النووي الإيراني أواخر أغسطس/آب أو أوائل سبتمبر/أيلول.

واستعادت العملة الإيرانية، نحو 2% من قيمتها المفقودة بعد ساعات من إعلان الصفقة وزادت الآمال في ضخ العملات الأجنبية التي تعاني طهران شحًا كبيرًا فيها مع انخفاض العملة المحلية إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق في العامين الماضيين.