هناك نوعان من الألم؛ ألمٌ يزيدك قوة، وآخر لا طائل تحته؛ ألمٌ هو محض معاناة، وأنا لا أطيق الصبر على هذا النوع الأخير.

فرانك أندروود قبل أن يقتُل كلبًا يتأوه ألمًا في المشهد الافتتاحي لمسلسل هاوس أوف كاردز.

قد أنبأني أبي أنه لا يصِح أن يبقى أي من أعضائي مُعطلًا بغير استعمال، لذا؛ فأنا أقبل بما ستفعله بدُبري عن طيب خاطر.

ممثل هندي الأصل في أحد الأفلام الأمريكية المُستقِلَّة تأصيلًا للشذوذ الجنسي قبل ممارسته للمرة الأولى.

يذهب عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- إلى أن الفلسفة البراغماتية تنطلِقُ من افتراض أن العالم ليس فيه نظام واضح؛ فكل شيء نسبي متغير. هذه السيولة التامة جعلت من المجتمع الأمريكي مجتمعًا علمانيًا بمعنى الكلمة، وإن تدثَّر بمظاهر البروتستنتية وديباجاتها؛ فلا تسيطر عليه أية تصورات كلية عن طبيعة الإنسان والكون. وعلمانية المجتمع الأمريكي الكاملة، وتحرُّره من الوعي الأخلاقي التاريخي؛ جعلت العقل الأمريكي ديناميًا ومُتحررًا إلى أقصى الحدود، ومتطلعًا إلى معرفة كل شيء وتجربة أي شيء، بغض النظر عن الاعتبارات الأخلاقية أو الجمالية،فهي حضارة الإجراءات والتفاصيل التقنية الصغيرة التي تُغيِّب الكُليات القيمية. وكما كانت معرفة الذات هي شعار الفلسفة السقراطية القديمة، فقد صار شعار الوجدان الأمريكي هو تحقُّق الذات بفعل ما يُرضيها. ومن ثم فالمجتمع الأمريكي (ومن تشرَّب «ثقافته») لا يشغل نفسه بالحقائق ولا يبحث إلا عن الراحة والهناء الماديين اﻵنيين.

والرؤية البراغماتية بجعلها «النجاح» المادي المتعيِّن في تحقيق مكانةٍ ما (حتى لو كانت مكانة بين اللصوص) هو المعيار الوحيد للحكم على أي شيء، وبتجاوزها للتاريخ والتراث الإنساني؛ جعلت «الحقيقة» الوحيدة المقبولة هي ما ساد وهيمن على يد القائم بترشيد الواقع، أو ما سهَّل لنا التعامُل مع الواقع كما هو، وليس كما ينبغي أن يكون. وهي لهذا رؤية مُغالية في المحافظة، بل رجعية؛ وإن ادَّعت العكس. وهي كذلك رؤية شديدة الطوباوية، تُضفي مثالية (ميتافيزيقية) كاذبة على الواقع المتعيِّن؛ رغم أنها تدعي التعامل مع الواقع دون «أوهام» نظرية عن التاريخ أو الحقيقة، وأنها تشجع الفعل وتقلل من أهمية التنظير.

إن نزع الإنسان من سياقه التاريخي يدفع به إلى عالم البراغماتية الخطِر دائم التغيُّر، والذي لا ضمان فيه لشيء؛ يُلقي به في أتون اللحظة اﻵنية ويحبسه في سجن حواسه فردًا مُتفلتًا حتى من إنسانيته، يفعل ما يشاء ولا يعرِف إلا ما يُجرِّب، ولا ينتمي إلى نسقٍ من القيم والافتراضات المسبقة. فهو يتطور حسب قوانين عُنصرية تشبه قوانين الطبيعة/المادة؛ من تسوية مادية بين كل المخلوقات إلى طفراتٍ تُفرِّق بينهم وتصنع التفاوت وتفرِز العباقرة (أو الطواغيت بمصطلحنا، والقائمين بترشيد الواقع بمصطلح المسيري). هذا الفرد هو بلا شك إنسان الطبيعة/المادة الذي لا تقيده قيود، ولكنه في الحقيقة لا يتمتع بأية حريات لأنه يعيش في عالم الصدفة. هذا الاستقطاب الحاد بين عنصرية التفاوت وعنصرية التسوية لا يحسمه إلا العنف، أو السلاح، أو الردع التقني، أو أسعار البورصة، أو العبقري/الطاغوت باعتباره مُعطى طبيعيًا/ماديًا.

وفي داخل هذا الإطار يظهر نمط إنساني يُجسد تلك الصفات، التي لا هي بالفضائل ولا بالرذائل، من منظور البراغماتية؛ لأنها قانون طبيعي/مادي يتجاوز ثنائية الخير والشر. ويرى المسيري أن تجسيد هذه الشخصية في كتابات وليم جيمس -أب البراغماتية- هو الرائد الأمريكي أو الكاوبوي المؤمن بقدراته الخارقة على إخضاع كل شيء، وعلى غزو البرية العذراء. ونضيف نحن أنه «المستثمر» والسياسي الأمريكي: الإمبريالي الجديد الذي يغزو كل شيء، حتى نفسه وأهله وأعضاء جسده. وهو ما سماه المسيري بـ«التاجر الأعظم»، واعتبره الأساس البورجوازي الكامن للوجدان الأمريكي.

ينقل المسيري عن البراغماتي الصهيوني هوراس ماير كالن أن موقف الكاوبوي الأمريكي يشبه الوجود الأمريكي ككل من عِدَّة وجوه، بما أن الشعب الأمريكي يستجيب للواقع استجابةً مباشِرةً لم تقررها من قبل أية معطيات أو قيم أو تقاليد تاريخية اجتلبوها معهم من أوروبا. فهم قد طرحوا التاريخ ليدخلوا في علاقة مع عالم محفوف بالمخاطر غير المسبوقة والتي لا يمكن التنبؤ بها. إن الرجل الأبيض الأمريكي هو البراغماتي الأعظم والسوبرمان الحق والكاوبوي الذي لا يُبالي بشيء (لاحظ الهوس الأمريكي المرضي بالأبطال الخارقين)، ويخاطر بكل شيء؛ فيفقد كل شيء أو يربح كل شيء. إنه مقامِرٌ بالفطرة. وعندنا أن هذا يفسر مكانة لاس فيجاس في الوجدان الأمريكي؛ بوصفها فردوسًا لا تاريخيًا خارج «الفردوس اللاتاريخي» الأمريكي نفسه (ومثلها لائحة الأمنيات: The Bucket List)!، فهي مساحة «مُقنَّنة» يمكن له أن يُطلِق فيها العنان لشبقه الجنوني في المقامرة بكل شيء، وهو الشبق الذي قد لا يجد مُتنفسًا كاملًا له، حتى في مجتمعٍ علماني مثل الولايات المتحدة؛ بسبب بقايا من قيود مهنية أو اجتماعية لم تنحل بعد. هذا التاجر/المقامر الأعظم الذي يخاطر بكل شيء يكاد يقترب من العاهرة في تركيبته، كما يضيف المسيري.

ولعل الفارق الوحيد بين المواطن الأمريكي «العادي» وبين العاهرة يكمُن في أن الأول يتسلَّح بأداة ما (وظيفة، نفوذ، مال، بندقية.. إلخ) ويرتدي ملابسه، أما العاهرة فهي تعود للطبيعة/المادة حرفيًا؛ فلا تحمل سلاحًا ولا ترتدي ملابسًا (هل يُمكن اعتبار الجسد الطبيعي/المادي سلاحًا؟). ولكن يظل الفارق طفيفًا، كما يؤكد المسيري؛ فهذا العالَم ما هو إلا محض سوق لا نقابل فيه بشرًا، وإنما نتصارع مهم؛ فنصرعهم أو يصرعوننا. قد تكون الحلبة هي سوق الأوراق المالية، أو ميدان قتالٍ حقيقي، أو حتى فراش… سيان! إذ الإنسان عند وليم جيمس هو الحيوان الوحيد الذي يفترس أبناء نوعه.

وإسقاط الوجود التاريخي ينحدر بالإنسان إلى أن يصير كائنًا طبيعيًا ماديًا، وبذا يمكن اصطياده كالفريسة دون هلع أخلاقي. لكن الرؤية البراغماتية التي تُضفي هذا البُعد العملي/الطبيعي/المادي على الفريسة، تُضفي بُعدًا مثاليًا/ميتافيزيقيًا على الصياد، ليصير مخلوقًا آليًا غير تاريخي في بساطة الظواهر الطبيعية وعنفها، كما صارت الفريسة كائنًا ماديًا وجزءًا من البيئة الجغرافية لا خصوصية له ولا قداسة؛ جماد يُمكن اجتثاثه بغير وجل.


لقد ظللت أؤجِّل مشاهدة ما عُرِض من المسلسل الأمريكي «هاوس أوف كاردز House of Cards» منذ موسمه الأول. ولم يكُن ذلك لأني أريد التفرُّغ له خصيصًا، ففي العادة ما تكون مشاهدتي الأولى لأي عملٍ درامي استكشافية؛بمعنى أنه إما أن يجد طريقه إلى تركيزي ويُجبرني على التفرُّغ ويُفسِحُ لنفسه مساحة في نماذجي التفسيرية، إن كان جديرًا بذلك، أو ينسرِبُ من وعيي إن لم يكُن على المستوى المرغوب، فلا أعيد مُشاهدته مرة أخرى، وقد أنسى اسمه.لكن كان التسويف والتأجيل بسبب الخوف مما سألاقيه؛خوف مما كنت أعرف أنني مُلاقيه من نماذج «إنسانية» في دراما أمريكية من هذا النوع، ذروة عصر السيولة. لكن تراكُم أربعة مواسِم شجَّعني لمشاهدتها جميعًا دفعة واحدة قبل عرض الموسم الخامس في صيف2017م. فاستغرقت مني مشاهدتها ما يزيد قليلًا على الأسبوع، بمعدَّل ست ساعات متواصِلة يوميًا!.

والحقيقة أنني لا أسعى هنا لقراءة المسلسل نقديًا أو تتبُّع الرؤية الكونية الكامِنة فيه، ولا حتى تحليل مضمونه الفلسفي، رغم أهمية ذلك كله؛ فهذا ما يضيق المجال دونه.وإنما يقتصِرُ هدفي نسبيًا على محاولة قراءة حمولة الرمز الذي يطويه العنوان الأصلي (ترجمته العربية الحرفية هي: بيت بطاقات اللعب) في إشارة مباشرة إلى الكابيتول أو إلى لوحة المصوِّر الفرنسي شاردان التي تحمل نفس الاسم، أو حتى إلى البيت الأبيض.أو ربما هي إشارة غير مباشرة إلى الحضارة الغربية عمومًا، والأمريكية أو الأنغلوسكسونية خصوصًا؛ بالنظر إلى الخيط الدرامي للمسلسل، ولكونه مُستمدًّا بالأساس من رواية بريطانية تحوَّلت قبل ذلك إلى مسلسلٍ بريطاني يحمل نفس العنوان، وإن لم يلق نفس «النجاح».

وقد كان هذا العنوان المركَّب والمتناقِض وحده كفيلًا ليملأ جوفي ترددًا؛ فهو لا يطوي فحسب معاني الهشاشة والضعف، بل يطوي كذلك إشارةً إلى نوعٍ مُعيَّن من القوة التي تُبقي هذه البطاقات الواهِنة مُتماسكة على صورة بنيانٍ يُرهِب العالمين؛قوة المخاتلة البراغماتية. وهو بنيان لم يُبنَ على صخرةٍ ثابتةٍ كما تتواتَر الصورة الإنجيلية، بل هو مبني على الرمال الهشة، ثم لفَّق له العنف البراغماتي بعدها قواعِد تحمِله، استلهامًا لوصية المفكر والأديب الأمريكي الأشهر هنري ديفيد ثورو. وليت الأمر اقتصر على قواعِد البناء، بل إن مادة البناء ذاتها واهِنة كخيوط العنكبوت. هذا النوع من «القوة» الذي لا يرقى الوعي إلى إدراك أبعاده إلا بالتجربة الحياتية يليها الذوق العرفاني يُذكِّرنا بقوة سحرة فرعون، الذين سحروا أعيُن الناس؛ فاسترهبوا قلوبهم.ويُذكرنا أيضًا بأن هذه “القوة” -إن جاز أصلًا تسميتها كذلك- لا تعتمد على الحِجاج أو على قناعات الجماهير وآرائهم الحرة كما قد يَدَّعي الطواغيت/العباقرة، ولكنها تعتمد على قدرة الرعب على سوق الجماهير -بنعومة!- إلى ما يشتهيه القائم بترشيد الواقع: الطاغوت المتخفي.

ولا تعتمد هذه الفاشية الناعمة فحسب على استسلام الإنسان الكُلي للذائذ الدُنيا وتمام إخلاده إلى الأرض، بل تعتمد بالأساس على ضرورة خرقه لكافة الشرائع -حتى الوضعية!- في سعيه اللانهائي إلى اللذة. وقد تعمَد أحيانًا إلى رشوة المستعبَد بالتغاضي عن بعض هذا الخرق حتى يستقِر النمط. وقد مثَّل تتبُّع عورات اﻵخرين وسقطاتهم مصدر قوة بطل المسلسل (فرانك أندروود) منذ كان يحشد القطعان داخل الكونجرس للتصويت على ما يُريده القائم بترشيد الواقع،يحشدها بالرُعب البراغماتي.

هذا الرُعب الذي يحفظ على بطل/فرعون المسلسل هيمنته وسيطرته، ويدهس الأخلاقي والأنطولوجي معًا بغير تردُّد؛ لم يخفُت قليلًا إلا حين رقد الطاغوت بين الحياة والموت في الموسم الرابع.هذا الرعب البراغماتي نفسه هو الذي يحفظ بُنيان بيت بطاقات اللعب بعيدًا عن عصف الرياح، والتي قد تهوي به مثل بيت العنكبوت الذي لا يُتخذ إلا في الأركان العطِنة التي لا تصلها الريح ولا الماء، ومن ثم يعزل عُبَّاد هذا الطاغوت عن صوت موسى الصادِح في البرية.

صحيح أن صوت موسى هو اﻵخر كان مسموعًا في المسلسل بدرجةٍ ما، وليس صوت فرعون فحسب؛ لكنه ظل صوتًا خافتًا باهتًا مُتهافتًا، فما من موسى حقيقي ليواجِه فرعون وسحرته. وكل من سما لحظة إلى النُطق بكلام موسى قد أخلد إلى الأرض في اللحظة التالية، أو كان لوكه لكلام موسى أول الأمر بغير وعي ولتحقيق مصلحة دنيوية آنية.

ذلك أن أي موسى حقيقي لن يُمكنه استنقاذ بني إسرائيله مكتفيًا بعصاه التي تنقلِبُ حيَّة حقيقية -بإذن الله- لتأكل إفك السحرة، ولن يتحقَّق ذلك قطعًا لو أضاف إليها معجزة إغراق فرعون، بل يلزمه بادئ ذي بدء الاستعداد ليحدو قومه في التيه الذي سيتبع ذلك، وأن تؤهِّله درجة اعتصامه بأمر الله إلى البراءة من قومه، الذين ابتُعِث لإنقاذهم؛ إن أرادوا الارتكاس إلى ما كانوا فيه من قبل من الشرك والعبودية للهوى، وهو التحدي الأهم الذي فشلت فيه كل القيادات الكبرى للحركات الإسلامية المعاصِرة؛ فما أشق البراءة من أفعال الأهل وضعفهم ورغبتهم الارتداد إلى ما كانوا فيه، حين يتوهمون أن الحياة الدنيا فردوس لا وَصَب فيه ولا نَصَب، ولسان حالهم يُردِّد: «أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا». لقد كان الكليم عليه السلام من أولي العزم الشديد، وكذا ينبغي أن يصير كل موسى يسير على دربه.

وإذا كان بني الإنسان لا يُميِّزون عادةً بين النبي والدعي، وسيخلط أكثرهم بين المسيح والدجال؛ فإن ذلك ليس بسبب ثقل طينهم وسهولة إخلادهم إلى الأرض فحسب، بل لأن الدعي يستخدم عادةً نفس مُفردات الخطاب التي يستخدمها النبي وحواريوه ودُعاته المؤمنون، وذلك بعد تفريغها من محتواها وشحنها بمحتوى مُضاد (كما تفعل الإمبريالية الثقافية الأمريكية بالرموز الدينية والمواريث الثقافية المختلفة). وفرعون مثال جلي على ذلك؛ إذ استخدم عبارة «سبيل الرشاد»، التي استخدمها مؤمن آل فرعون؛ للدلالة على ما يدعو إليه!وهو في ذلك ليس بدعًا من غيره، ولا شاذًا بين الطواغيت؛ فإن النفس الإنسانية لا تستجيب للباطِل صراحةً إلا فيما ندر، وما عدا ذلك؛ فإنها قد تستجيب له بضميرٍ مُستريح ما تدثَّر بثوب الحق. حتى وإن كانت الغلالة التي يتدثر بها لا تخفي حقيقة سبيل فرعون وأنه محض تعبيد لهواه وحده دون سواه، وكان سبيل الرشاد الذي يدعو إليه مؤمن آل فرعون يُشير بالحُجة الناصعة إلى الله الواحد.

فإذا ما علا صوت دعوة موسى ليصُك أسماع القاطنين على أطراف بيت العنكبوت؛ هرع فرعون إلى أقصى ما يستطيع: «ذروني أقتل موسى وليدعُ ربه»، وانظر كيف يُسوِّغها لقومه الذين استخفهم بفسقهم: «إني أخاف أن يُبدِّل دينكم، أو أن يُظهر في الأرض الفساد»! هذا القلب للحقائق وتفريغ الحُجة من مضمونها يلتقي في الكثير مع “قوة” السحر، بل هو في الحقيقة ضربٌ من السحر كما روي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرًا».وقد كانت من أوائل التُهم التي ووجِهَ بها خاتم الأنبياء، حين جهر بدعوته؛ أنه ساحر أو كاهن أو شاعر: أي يستخدم البيان للتلاعُب بالجماهير! وهو عين ما اجترحه أبطال المسلسل طوال المواسم الأربعة: التلاعُب بالجماهير.فتارةً يستجلبون تعاطُفهم، ودائمًا ما يسترهبون قلوبهم ليُخضعوهم. وكما كان السحرة استكمالًا لهيمنة فرعون واطرادًا مع نموذجه؛ كان سحرة أبطال المسلسل كذلك اطرادًا لهيمنته وأدوات يوظِّفها لتمكين سيطرته.

هذا الرعب الذي يُجسِّد مكمن القوة الأهم لبطلي المسلسل يكشِف عمليًا عن بُعدٍ شديد الأهمية من أبعاد البراغماتية سبق للمسيري الإشارة إليه: العُنف. بل إن بطل المسلسل يؤصِّل لأهمية هذا العنف ودوره ككاسحة بشرية حين يختار خليفته في الكونجرس، لأنها مثله تعتنق «براغماتية متوحشة» لا هوادة فيها. وخليفته جاكي شارب لا تتورَّع مثله عن سحق من يعترِض طريقها بدمٍ بارد؛ إذ فضحت أستاذها وأزاحته من طريقها لترقى على جثته بعد ترددٌ لم يطُل، لكنها تقِف إلى اﻵن عند حد القتل المعنوي بضمير مؤرَّقٍ بعض الشيء. أما أندروود نفسه، بطل المسلسل والبراغماتي النماذجي والكاوبوي السياسي؛ فهو يقتُل بيديه إن لزِمَ الأمر في سبيل استمرار مسيرته السياسية، وما القتل المعنوي في جُعبته إلا أهون الأسلحة التي استعملها ليفترس جمهرة من خصومه. وعندنا أن هذا العنف البراغماتي هو أعلى درجات التأله الطاغوتي وأدنى دركات العبودية للهوى؛ فهو يقتلع كل شيء في سبيل هوى صاحبه. ورحم الله المسيري القائل: «إذا كان برنامجك السياسي هو أهواؤك، وإذا كان الأمر الواقع هو المحك، إذن فالبقاء للأصلح؛ الأصلح (بيولوجيًا/ماديًا) الذي يطمع في كل شيء، ويفتح نيرانه على كل من يجرؤ على الوقوف بوجهه. يقول الأخلاقيون إن هذه شريعة الغاب، ويقول المتفلسفون أمثالي إنها داروينية نيتشوية، ويقول النابالم على أجساد الفلسطينيين وخط بارليف إنها الجاهلية الأولى عادت من جديد».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.