أعلن الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة (83سنة) نيته الرسمية في الترشح للانتخابات الرئاسية التي ستعقد في شهر أبريل/ نيسان المقبل عن طريق رسالة إلى المواطنين، نشرتها مختلف وسائل الإعلام الأحد الماضي 10 فبراير/ شباط 2018.

بعد مقدمة استعرض فيها مختلف إنجازات فتراته الرئاسية السابقة، وعلى رأسها إخماد نار الحرب الأهلية التي عرفتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي،أعلن خلال الرسالة: «وإنني في هذا النحو واستجابة لكل المناشدات والدعوات ولأجل الاستمرار في أداء الواجب الأسمى، أعلن اليوم ترشحي للانتخابات الرئاسية لشهر أبريل المقبل».

بهذه الكلمات قطع الرئيس الجزائري الشكوك التي أحاطت بترشحه مجددًا هذه السنة نظرًا لحالته الصحية، حيث كان قد تعرض لجلطة دماغية في أبريل/ نيسان 2013 جعلته مقعدًا وأفقدته القدرة على الكلام بطريقة عادية.

هذا الإعلان و إن كان متوقعًا لدى الغالبية من الجزائريين إلا أنه خلف حالة من الذهول والاندهاش عند الكثيرين الذين توقعوا لآخر لحظة أن الرئيس لن يترشح هذه المرة نظرًا لوضعه الصحي. يصعب على المتابع العربي أو الدولي فهم إصرار النظام الجزائري التمسك بشخص مقعد لا يستطيع القيام بحاجياته الخاصة دون مساعدة على رأس أكبر دولة أفريقية من حيث المساحة، ويقطنها 40 مليون نسمة.

سنحاول في هذا المقال إعطاء بعض المفاتيح التي تساعد على قراءة مشهد شديد التعقيد والسيولة.


صراع بين أجنحة الدولة

لفهم المشهد الحالي تجب العودة ست سنوات للوراء، يوم أصيب بوتفليقة بجلطة دماغية لأول مرة في أبريل/ نيسان 2013؛ بعد تلقيه الإسعافات الأولية في مقر إقامته تم نقله إلى مستشفى عسكري في باريس، حيث سيظل حتى شهر يوليو يتلقى العلاج وسط تعتيم إعلامي كبير على تفاصيل حالته الصحية. كان معروفًا أنه هناك، لكن لا أحد خارج دائرته الضيقة المباشرة كان يعرف مدى إصابته.

غياب الرئيس وغياب معلومات موثوقة عن حالته الصحية أفسح المجال للإشاعات التي تداولتها مختلف وسائل الإعلام والصحف داخل البلد وخارجه، كما خلقت حالة من الفراغ في ظل غياب الرئيس عن القيام بمهامه كحكم بين مختلف الأجهزة والمصالح الحكومية، التي بدا وكأنها دخلت في صراع محموم فيما بينها لتحديد من ستكون له الكلمة الأخيرة في تعيين الرئيس القادم، لكن عودة بوتفليقة في يوليو/ تموز من تلك السنة كانت مفاجأة للكثيرين داخل السلطة وخارجها وخلطت كل الأوراق.

أصبح الأمر وكأن الرئيس المريض الذي روج خصومه داخل النظام لوفاته عاد وكله عزيمة على تصفية حساباته مع مراكز القوى داخل الدولة العميقة والانتهاء من (الديوان الأسود[1]) بصورة كاملة.

مستندًا إلى علاقته القوية – لم تظهر للعلن قوة هذه العلاقة إلا في ذلك الحين – بقائد الجيش الجنرال أحمد القائد صالح، باشر عملية قصقصة أجنحة جهاز المخابرات[2]، الذي كان يرأسه الجنرال محمد مدين (توفيق):

1. تم إلحاق مديرية أمن الجيش (المخابرات الحربية) بوزارة الدفاع.

2. تم نزع صفة الضبطية القضائية (القدرة على الاعتقال والتحقيق مع المواطنين) عن ضباط جهاز المخابرات.

3. تم تفكيك الذراع الإعلامية للجهاز عبر إخراج الشركة الوطنية للإعلانات من دائرة نفوذه.[3]

4. القيام بحل فرقة التدخل الخاص التابعة لجهاز المخابرات.

5. القيام بسحب ضباط الجهاز من مناصبهم في الشركات المدنية والإدارات.

6. إعادة هيكلة واسعة للجيش عبر حركة تنقل وعزل لم يعرف لها مثيل.

7. رد الاعتبار للكثير من المسؤولين في شركات القطاع العام الذين سجنوا بسبب تقارير كيدية من المخابرات.

وغيرها الكثير من الإجراءات التي سميت بمشروع الدولة المدنية (عكس عسكرية) التي كانت تهدف في جوهرها إلى تحجيم دور العسكر والأجهزة الأمنية عمومًا في الشأن العام.

هذه الإصلاحات جعلت بوتفليقة يخوض انتخابات 2014 بشعبية كبيرة، خاصة وأنه أعطى الانطباع بأن شبح الحكم العسكري والحرب الأهلية انتهى، كما أن مستوى سعر البترول سمح له بالحفاظ على مستوى التحويلات الاجتماعية والاستمرار في بعض المشاريع الكبرى.

في سبتمبر/ أيلول 2015 قام بوتفليقة بعزل الجنرال محمد مدين قائد المخابرات (مديرية الأمن والاستعلام) الذي كان الجزائريون لا يذكرون اسمه إلا همسًا ولا تعرف له إلا صور قديمة جدًا، كما قام بحل الجهاز نهائيًا وإحالة كل من يشتبه في قربه من رئيس الجهاز إلى التقاعد، تقريبًا تم فصل كل من يفوق عمره 45 سنة. رافق هذا حملة إعلامية مركزة قادتها صحف مقربة من الرئاسة والأمين العام للحزب الحاكم، حزب جبهة التحرير.


تحديات العهدة الرابعة

كل هذه (الإنجازات) رغم قوتها لم تجب على سؤال من سيخلف الرئيس المريض، وصار هناك اتفاق غير مكتوب لتأجيل المسألة لـ2019، في ظل شبه إجماع أن (الفريق الرئاسي[4]) لن يشرح بوتفليقة في المرة المقبلة.

استغل بوتفليقة هذه الانطلاقة الجديدة وشرع في مشاورات موسعة، قادت إلى تعديلات دستورية سنة 2016 تضمنت الحد من الفترات الرئاسية، لكن وفق التفسير الذي أُعطي لهذه التعديلات فإنها لا تنطبق بأثر رجعي، بمعنى أنه بإمكان الرئيس الترشح لفترتين أخريين بعد تبني هذه التعديلات.

ورغم كل القوة التي استجمعها الرئيس في بداية عهدته الرابعة فإنها لم تغير من واقع أنه لا يستطيع ممارسة مهامه بصورة منتظمة رغم حرصه على ترؤس مجلس الوزراء للتوقيع على بعض القوانين واستقبال بعض رؤساء الدول الذين يزورون الجزائر.

كما أن انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية وانخفاض عائداته وضع الحكومة أمام تحد كبير، بدت وكأنها حكومة تسيير أعمال، تتخذ إجراءات تُلغى بعد بضعة أسابيع، وكأنه لا أحد يريد تحمل مسؤولية القرارات الصعبة في غياب الرئيس.

الركود الاقتصادي الذي دخلت فيه البلاد بعد 2015 جعل قضايا الفساد الكبرى التي كان بالإمكان إخفاؤها أيام (البحبوحة المالية) أصبحت تحتل الصحف المحلية والعالمية، قضايا سوناطراك 1 و2 وسايبام وإيني في قطاع المحروقات وقضايا الطريق السيّار شرق غرب.


701 كيلو جرام من الكوكايين

لكن قضية من نوع آخر حدثت الصيف الماضي ستقلب التوازن الحرج الذي عرفته البلاد طيلة الأربع سنوات الماضية، وهي احتجاز قوة من الجيش 701 كيلو جرام من الكوكاين عالية النقاء قادمة من البرازيل على متن حاوية لأكبر تاجر لحوم مجمدة في البلد.

تحقيقات القضية التي لم تنته إلى الآن أظهرت صلات صاحب البضاعة داخل القضاء والشرطة والإدارة وحتى الجيش، وكون المخابرات الحربية من قام باعتراض الشحنة جعل الملف برمته في يد نائب وزير الدفاع القائد العام للقوات المسلحة، الذي بدوره اغتنم الفرصة لشن حملة واسعة داخل الجيش طالت خمسة من كبار قادته: قائد القوات البرية، قائد الدرك ومدير المالية في وزارة الدفاع واثنين من قادة النواحي العسكرية (قادة جيوش ميدانية)، وفي الجانب المدني تم عزل المدير العام للشرطة وأكثر من عشرين مدير أمن على مستوى المحافظات بالإضافة إلى عدد من القضاة، بين من تم إيقافه أو وضعه تحت الرقابة، كما شملت الحملة وزراء سابقين ورئيس حكومة سابق.

كل هذه التغيرات خلال أشهر قليلة عصفت بالتوازن الذي قام في 2013 بين الرئاسة والجيش وكانت قراءة الأحداث على مستوى الرئاسة أن قائد الجيش يتخذ القضية ذريعة لتصفية حلفاء الرئيس داخل الجيش، ويتمركز استعدادًا لمعركة الخلافة.

بلغ التوتر ذروته منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي حيث تم اعتقال الجنرالات الخمسة ومداهمة منازلهم ومنازل أبنائهم والتحفظ على ممتلكاتهم وممتلكات أبنائهم بتهم الفساد والتربح من المنصب.


الرئيس يمرض وفريقه لا يموت

في الفاتح من نوفمبر/ تشرين الثاني ذكرى اندلاع حرب الاستقلال قام بوتفليقة بجولة في العاصمة الجزائر شملت مقبرة الشهداء ومقام الشهيد، كما قام بتفقد أشغال إنجاز المسجد الأعظم، وعلى إثر ذلك عرفت صحته تدهورًا كبيرًا واختفى من المشهد واعتذر عن استقبال ضيوف مهمين كولي العهد السعود ووزير الخارجية الروسي.

تخوفًا منهم من عجزه الكلي عن الظهور أمام الجماهير قام الفريق الرئاسي بمناورة سياسية لمحاولة تأجيل الانتخابات مقابل عقد ندوة حوار وطني، يضم كل التيارات والأحزاب للقيام بإصلاحات عميقة مدة فترة انتقالية يبقى فيها الرئيس على رأس الدولة مع تشكيل حكومة وحدة وطنية وتعقد الانتخابات الرئاسية بعد سنتين.

في البداية لم تكن هذه فكرة الفريق الرئاسي لكنها كانت فكرة عبد الرزاق مقري، الأمين العام لحركة مجتمع السلم (إخوان مسلمين)، الذي التقى سرًا شقيق الرئيس سعيد بوتفليقة، الذي عبر عن تأييده الفكرة.

لاقت المبادرة قبولًا كبيرًا داخل الطبقة السياسية، معارضة وموالاة، لكن مع مرور الأسابيع بدا وكأنها سحابة دخان للتغطية على مشروع الفترة الخامسة. وأن الفريق الرئاسي استغل الإرباك والترقب الذي أحدثته هذه المبادرة لدى الطبقة السياسية للدفع بأجندته وحشد قواعده للانتخابات التي تم الإعلان عنها في آخر يوم يسمح به القانون.


نظام عاجز عن التجدد أمام طريق مسدود

رغم كل الخصال والصفات الشخصية التي اتصف بها بوتفليقة قبل مرضه في 2013 وطيلة مسيرته الشخصية من دهاء وحنكة سياسية وعزم وتصميم وشجاعة جسدية (باختصار بوتفليقة نقيض تام لمبارك)، ورغم كل الإنجازات التي قام بها خلال فتراته الرئاسية الأربعة، فإنه لم يهتم أبدًا بالاجابة على سؤال خلافته، وفي نفس الوقت استهلك جيلًا كاملًا من الساسة، أفقدتهم المشاركة في حكوماته المتعاقبة كل مصداقية لدى الرأي العام الجزائري.

حرص النظام الجزائري عبر مراحل مشابهة (مرض الرئيس بومدين ووفاته في 78 وبعده انقلاب 92) على تقديم مرشحين يحظون بقبول شعبي وسمعة جيدة، لكن هذه المرة عجز عن إيجاد رجل الإجماع. هذا الفراغ على مستوى المرشحين المحتملين من داخل النظام هو من جعل الجزائر تصل لهذه الحالة الهزلية، أن يتقدم رجل بالكاد يستطيع الكلام بصوت مسموع عمره 83 سنة لفترة رئاسية جديدة مدتها 5 سنوات.


الهوامش:-[1] مصطلح في السياسة الجزائرية يقصد به النواة الصلبة للقادة العسكريين الذين قاموا بانقلاب يناير/ كانون الثاني 1992، وشكلوا حكومة ظل موازية كانت تحكم طوال سنوات الأزمة حتى قدوم بوتفليقة.[2] في الجزائر كان هناك جهاز مخابرات كبير يضم المخابرات العامة والحربية ومكافحة التجسس، كما كان لأعضائه مناصب في كل الشركات العامة الكبرى ومختلف مستويات الإدارة المحلية والمركزية.[3] الشركة الوطنية للإعلان كانت ولا تزال وسيطًا يحتكر كل إعلانات القطاع العام، فكان الجهاز يوزعها على الصحف المقربة منه ويحرم منها تلك التي يريد عقابها.[4] يقصد به الحاشية المباشرة للرئيس، التي تشمل أخاه السعيد المستشار في الرئاسة ومساعديه المباشرين وعددًا قليلًا من الوزراء ينحدر معظمهم من ولاية تلمسان.