مُنذ فجر التَّاريخ وهي تُنقَش على جدرانها قِصصًا من البطولات والتضحيَّات جعلت منها بحق مِثالاً يَحتذي به كل من أراد أن يخطو على طريق المقاومة، ويَسْلك مَعابِر التَّحرير، مدينة الخليل مدينةٌ صنعتها مِحَن ومُنعَطفات التَّاريخ، واستمرت بدمائها جُذوَة نيران المقاومة مشتعلة، حتى زلزلت بقوتها كل من توهم أنه قادر على كسر شوكتها. لتثبت بحق أنها أيقونة المقاومة وعاصمة الغضب الفلسطيني.

من «أَرْبَعْ» إلى «الخليل»

تعتبر الخليل من أقدم مدن العالم، ويعود تاريخها إلى ما يزيد عن 6000 عام، وقد عُرفت الخليل في العصر القديم بعدة أسماء، هي: قرية أَرْبَعْ (نسبة إلى اتحاد أربع قبائل كنعانية)، وحَبرون (وتعني التجمع والاتفاق والصحبة)، وهي ليست كلمة عبرية. وقد سميت بـ «الخليل» نسبة إلى أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام، فقد نزَلَها سيِّدنا إبراهيم، ومكث فيها.

تعتبر الخليل من أقدم مدن العالم، ويعود تاريخها إلى ما يزيد عن 6000 عام.

وقد ارتبطت مدينة الخليل بسيدنا إبراهيم عليه السلام، حيث اشترى مغارة «المكفيلا» ودفن زوجته سارة في تلك المغارة، وتضم رفاته ورفاة زوجته سارة وعائلته من بعده اسحق، ويعقوب، ويوسف، ولوط، ويونس، وهي بذلك ثاني المدن المقدسة في فلسطين عند المسلمين، وتضم الكثير من رُفات الصَّحابة، وفي مقدمتهم شُهداء معركة أجنادين.والخليل مدينة عريقة تُعدُّ من أقدم مدن العالم، ويتضح ذلك من خلال الحفريات الأثرية التي تم اكتشافها في «تل الرميدة» عام 1964، وتعود إلى عام 3500 ق.م، وسكانها الأوائل من الآموريين.وتقع الخليل في الناحية الجنوبية لفلسطين وتَبعُد عن مدينة القدس حوالي 35 كيلومتر تقريباً، وهي أيضاً بوَّابة بيت المقدِس، ومن النَّاحية الديموغرافية، يربو عدد سكانها عن 225 ألف، مما ساعد على إعطائها هذا الزخم الثوري.


من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال الإسرائيلي

فتح المسلمون مدينة الخليل عام 13هـ/636م، وقد شملها الخلفاء برعايتهم لأنها تحتوي على رفات سيدنا إبراهيم عليه السَّلام، وقد زاد الاهتمام بها لارتباط الخليل بسيدنا محمد، بعد أن قطعها قبل وفاته إلى الصحابي تميم بن أوس الداري. وقد اهتم الأمويون بها بشكل خاص، فبنوا المسجد الإبراهيمي، والمقامات على قبور الأنبياء، ووضعوا الشواهد عليها.وفي العصر العبَّاسي قام الخليفة المهدي بعمل مدخل عند السور الشمالي الشرقي بارتفاع 305 متر، وقام بتركيب باب حديدي صغير للحرم الشريف، وفي عهد الفاطميين أضافوا تطورات عمرانية على الحرم الإبراهيمي فبنوا دورًا للزوار حول المسجد، وأنشأوا التِكيَّة الإبراهيمية بجوار الحرم، وظل الحرم الإبراهيمي يؤدي دورًا بارزًا طيلة العصر الإسلامي السابق على قدوم الصليبيين.أما في العصر الأيوبي، فقد قام السلطان الناصر صلاح الدين بعد تحرير القدس والخليل من الصليبيين، بنقل منبر عسقلان إلى المسجد الإبراهيمي عام 1191، وهو من أجمل المنابر التي أضافها المسلمون إلى المسجد. ثم قام الملك المعظم عيسى بتوسيع المسجد وذلك بإضافة رواق جديد.في العصر المملوكي اهتم المماليك بمدينة الخليل وأنشأوا كثيرًا من الأبنية الخاصة والعامة، ومن أشهرها الحمَّام المملوكي، وبِركة السلطان، إلى جانب ما أدخله السلاطين من إنشاءات داخل الحرم الإبراهيمي وخارجه كالمسجد الجاولي، وبناء الزوايا كزاوية الشيخ علي البكَّاء، والتِكايا والأربطة والمدارس، مثل مدرسة السلطان حسن، والمدرسة القيمرية، والفخرية وغيرها من الأبنية، وقد أصبحت المدينة مركزًا للبريد الواصل بين دمشق والقاهرة.وفي عام 1517، أصبحت الخليل تحت الحكم العثماني، فتم الاهتمام بالمرافق العامة كالخانات، والسبل، والحمامات، والمرافق الأخرى، كما أن معظم بيوت البلدة القديمة تعود إلى العصور الأيوبية والمملوكية والعثمانية. وتشمل البلدة القديمة عدة حارات منها حارة بني دار، والقزازين، والشيخ، والأكراد، وغيرها.وخضعت الخليل عام 1917، لسلطة الانتداب البريطاني، وقد شارك أبناء الخليل في جميع الثورات التي قامت ضد البريطانيين واليهود وأهمها هبِّة البراق 1929، ووقعت المدينة تحت الاحتلال الإسرائيلي عام 1967.فاستعمرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي قلب مدينة الخليل، وأقاموا مستعمرات داخل الأحياء العربية، كان أولها مستعمرة «كريات أربع»، ثم امتد الاستيطان إلى قلب المدينة من أجل محاولة تهويدها وإخراج سكانها بالقوة، ويوجد في الخليل أكثر من 20 مستعمرة مُقامة على أراضيها التي صادرتها سلطات الاحتلال لهذا الغرض، ومنها: بيت رومانو، وهداسا الدبويا، وتل الرميدة.


انتفاضة لا تهدأ

حضَّرت الخليل بقوتها المعتادة، وشاركت بشكل فعال في انتفاضة الأقصى، ففي نهاية العام 2002 نفذ الاستشهادي نائل عزمي، عملية استشهادية في حافلة للمستوطنين في القدس المحتلة، أوقعت 12 قتيلاً، و47 مصاب، وكان من أبرز العمليات التي قامت بها الخليل في انتفاضة الأقصى، عملية «زقاق الموت»، التي نفذها الشهداء ذياب المحسب، وولاء سرور وأكرم الهنني، في وادي النصارى بمدينة الخليل، والقريب من مستوطنة «كريات أربع»، والتي قُتل فيها عشرات الجنود والمستوطنين، من بينهم قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال.ورغم أن انتفاضة الأقصى هدأت أحداثها بعد عام 2004، إلاَّ أنَّ انتفاضة الخليل لم تبرد جذوتها:

  1. في عام 2004، قام باسل التكروري (أحد سكان مدينة الخليل) بعملية استشهادية في حي التلة الفرنسية بمدينة القدس، وكانت حصيلتها سبعة قتلى إسرائيليين و22 جريح.
  2. في العام ذاته، نفذ الاستشهادي رائد مسك، عملية تفجير لحافلة غرب القدس، قُتل خلالها 21 مستوطن إسرائيلي وجُرح نحو 130 آخرين.
  3. فجَّر الاستشهادي محمود القواسمة نفسه داخل حافلة للمستوطنين في مدينة حيفا، ما أوقع 15 قتيل، وعشرات الجرحى.
  4. فجَّر الاستشهاديان نسيم الجعبري، وأحمد القواسمة نفسيهما، في حافلة للجنود في مدينة بئر السبع المحتلة، ردًا على اغتيال الاحتلال للشيخ أحمد ياسين، والتي أسفرت عن مقتل 17 قتيلاً وحوالي 100 جريح.
  5. في عام 2005، تمكنت المقاومة في الخليل من تنفيذ عدداً من العمليات ضد الاحتلال في محيط المدينة، وكان من أبرزها؛ قتل أربعة مستوطنين قرب مفترق «عتصيون».
  6. في عام 2008، انطلق من الخليل الاستشهاديان محمد سليم الحرباوي، وشادي محمد زغيّر ليقوما بتفجير نفسيهما أمام مجمع تجاري إسرائيلي في عملية استشهادية مزدوجة بمدينة «ديمونا» داخل الأراضي المحتلة عام 48، التي تقع على بعد 12 كم من المفاعل النووي الإسرائيلي. وأسفرت العملية حينها عن مقتل عالمة الفيزياء النووية «ربوب رزدولفكي» وزوجها العالم النووي «ادورد غادلين»، إضافة إلى إصابة العشرات.
  7. في عام 2010، تمكنت إحدى الخلايا التابعة لكتائب القسام من تنفيذ عملية قتل لأربعة مستوطنين قرب مدخل بلدة بني نعيم شرق الخليل، ضمن عملية سميت حينها بعملية «سيل النار».
  8. في مطلع شهر يونيو من عام 2014، نفَّذت خلية فلسطينية عملية اختطاف لثلاثة مستوطنين قرب مفترق «عتصيون» شمال الخليل، وهو الأمر الذي أربك الاحتلال الذي أعلن الحرب على الخليل وسائر الضفة الغربية، واعتقلت نحو 1500 فلسطيني.

عاصمة الغضب الفلسطيني

استعمرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي قلب مدينة الخليل، وأقاموا عليها أكثر من 20 مستعمرة.

تُبرهن الوقائع المسجَّلة مُنذ انطلاقة انتفاضة السكاكين، والتي بدأت في شهر أكتوبر لعام 2015، أن الاحتجاجات الفلسطينية الغاضبة تدين في استمرارها لأبناء محافظة الخليل التي باتت توصف على ضوء ذلك بـ «عاصمة الغضب الفلسطيني»، فمن أبرز عمليات المقاومة التي شهدتها الانتفاضة الحالية، هو ما سجلته محافظة الخليل من عشرات عمليات الطعن والدهس اليومية، التي ارتقى خلالها عشرات الشهداء، والتي تمكنت المحافظة من خلالها من حجز المقعد الأول في الانتفاضة، لدرجة أعلنت محافل الاحتلال الأمنية أن ما نسبته 85% من عمليات انتفاضة القدس خرجت من الخليل.

أكثر من ثلث شهداء انتفاضة السكاكين كانوا من الخليل.

ولا شك أن الخليل نقلت حراك الانتفاضة الحالية من حالة الطعن والمواجهة بالحجارة مع الاحتلال إلى دخول عمليات القنص على خط المواجهة، وهو الأمر الذي أقرَّت به الجهات الأمنية الإسرائيلية، واعتبرته نقلة نوعية في حراك انتفاضة السكاكين، وهذا ما يبرهنه التراجع الحالي لعمليات الطَّعن في الآونة الأخيرة، مقابل تصاعد حقيقي لأعمال المقاومة المسلَّحة.ومن أصل عدد الشهداء الذين سقطوا منذ بداية الانتفاضة الأخيرة، استشهد أكثر من ثلثهم في محافظة الخليل، وتشهد المعطيات المسجلة أيضًا إنه من بين ما يقدر بـ 60 عملية طعن ودهس استهدفت جنود ومستوطنين، فإن نصفها تقريبًا وقعت في منطقة الخليل، والمواجهات شبه اليومية بين أبناء الخليل وقوات الاحتلال الإسرائيلي خلَّفت إصابة ما يُقدَّر بـ 600 فلسطيني بالرصاص الحي والمطاطي في هذه المحافظة.وغير ذلك من الإجراءات الإسرائيلية التعسفية ضد الخليل حيث تقوم السلطات الإسرائيلية بالإغلاقات المتواصلة على مداخل المدينة ومداخل القرى وتحاول أن تفصل القرى بعضها عن بعض بالسواتر الترابية.وبعد، فمازال حضور الخليل يتصدر كل مشاهد المقاومة، ويتقدم الصفوف من أجل الدفاع عن وطن أراده دائمًا عزيزًا مرفوع الهامة، صامدًا متربصًا لكل من أراد النيل منه. ولا أدَلَّ على ذلك من اعتراف موقع «والا» الإسرائيلي بأن الخليل أظهرت فشل سياسة إسرائيل في الضفة الغربية، فيما اعترفت صحيفة «يديعوت أحرونوت» بأن مدينة الخليل ستكون كلمة السر في تصعيد الهجمات ضد إسرائيل.

المراجع
  1. "الخليل"، موقع مركز المعلومات الوطني الفلسطيني – وفا.
  2. "الخليل.. مدينة ثائرة لا يتوقف فيها نبض المقاومة"، موقع فلسطين أون لاين، 17 نوفمبر 2015.
  3. "الخليل"، موقع الجزيرة نت، 23 أكتوبر 2014.
  4. "لماذا الخليل"، موقع TRT العربية، 7 نوفمبر 2015.
  5. أحمد سلطان، "الخليل: المقاومة ليست حكرًا على غزة"، موقع ساسة بوست، 28 نوفمبر 2015.
  6. عبد الصمد ناصر، "الخليل.. أيقونة الانتفاضة وعاصمة الغضب الفلسطيني"، موقع الجزيرة نت، 23 نوفمبر 2015.
  7. "موقع إسرائيلي يعترف: فشلنا في الخليل"، موقع سما الإخبارية، 2 نوفمبر 2015.