بليلة هادئة من ليالي شهر مايو عام 1930 وقف «هنري فوورد» أحد أهم رواد صناعة السيارات داخل البيت الأبيض بجوار عارضة وقع عليها أكثر من ألف خبير اقتصادي يترجى الرئيس الأمريكي «هوفر» بأن يرفض مشروع القانون الذي صاغه أعضاء الكونجرس الجمهوريان «سموت» و«هاولي»، فيما سيُعرف فيما بعد بتشريع «سموت-هاولي». أحد حضور هذا الاجتماع هو أحد الماليين الكبار آنذاك «جون هنري» وصف أن «هنري فوورد» كاد يخر على ركبتيه ويترجى «هوفر» أن يرفض هذا التشريع واصفًا إياه بالغباء الاقتصادي، لكن وعلى الرغم من أن «هوفر» نفسه لم يرض عن المشروع الذي وصفه بأنه ابتزازي ومشين؛ كونه ينقض تعهداته للمنظمات العالمية، إلا أن الرئيس الجمهوري رضخ لضغوط حزبه ورجال أعمال من ورائهم ومرر القانون.


تعريفة «سموت-هاولي»

عقدت الأمم المتحدة اجتماعًا اقتصاديًا عالميًا عام 1927 تطرقت فيه بشكل أساسي لمسألة «التعريفات الجمركية»، وانتهى التقرير بأنه «قد آن الأوان أن نضع حدًا للتعريفات الجمركية ويجب أن تقلل قدر الإمكان»؛ فالديون الكبيرة لا يمكن تسديدها إلا من خلال ثلاثة عناصر هي: الذهب أو الخدمات أو السلع، والأخيرة تلك هي المتاحة. وعلى الرغم من ذلك فإن الحكومات عمدت لفعل العكس وشرّعت فرنسا تعريفات جمركية جديدة بعدها بعام. يوازي تلك الأحداث دخول الكهرباء لعالم الصناعات الأمريكية فيزيد الإنتاج بشكل متسارع جدًا ليحدث فائض كبير، يعقب ذلك ركود اقتصادي في المرحلة الأولى من الكساد الاقتصادي العظيم بنهايات عام 1929.

طرح السيناتور «ريد سموت» حلًا لمشكلة الركود برفع التعريفات الجمركية على الواردات لقيم غير مسبوقة فيما عرف بقانون «سموت –هاولي»، فُعّل القانون على الرغم من التهديدات التي تلقاها الأمريكان من شركائهم الاقتصاديين دولًا وشركات، ورُفِعت التعريفات الجمركية على عشرين ألف سلعة تستوردها أمريكا وهو شيء غير مسبوق.

ردت كندا –أهم شريك اقتصادي آنذاك للولايات المتحدة- بإجراءات مماثلة على الواردات القادمة من أمريكا وأقامت علاقات اقتصادية جديدة مع إنجلترا على حساب ذلك، وفعلت الأمر نفسه فرنسا وبريطانيا وأقامتا علاقات تجارية جديدة مع الاتحاد السوفيتي –الذي استفاد كثيرًا- على حساب أمريكا.

بعد مرور عامين تزداد أحوال العمال والمزارعين سوءًا على عكس ما وعد به سموت وهاولي ويفقدان مقعديهما في الكونجرس في تلك السنة، بينما يتعهد الديمقراطيون بتقليل التعريفات حال فوزهم، وبالفعل يفوز «فرنكلين روزفلت» بالرئاسة ويقر قانونًا جديدًا عام 1934 لتنتهي هذه الحرب التجارية.


هل يشن «ترامب» حربًا تجارية عالمية بالفعل أم هي مجرد مفاوضات؟

إن كنا نعلم أن الحرب الحقيقية هي امتداد السياسة، فالحرب التجارية قد تكون على وجه آخر مجرد «مفاوضات».

ترفع أمريكا التعريفات الجمركية على الحديد والألومنيوم القادم من أوروبا وكندا والمكسيك في خطوة تشبه ما فعله سموت وهاولي، لكن يعرف ترامب ما حدث بهما جيدًا من قبل، ويبدو أنه يدير المعركة على نحو آخر؛ ذلك بأن ترامب –صاحب كتاب «فن الصفقة»- رجل أعمال استطاع في السابق شراء طائرة بوينج قيمتها 30 مليون دولار مقابل 8 ملايين دولار فقط! يحكي الرجل في كتابه عن صفقته هذه مع شركة النفط «Diamond Shamrock» التي يئست من بيع الطائرة، أنه بدأ ببخس الثمن إلى 4 ملايين دولار حتى سوّى معهم الأمر على 8 ملايين.

أضف لهذه القصة القصيرة عبارته الشهيرة: «إن كنت تفكر بأي أمر، فكِّر بأكبر ما يكون»، هنا تتضح الاستراتيجية الاقتصادية للرجل وهي أن تبدأ بشيء كبير جدًا يُحدِث صخبًا وجدلًا كبيرًا ثم تعود لحلٍّ وسط لا يدرك معه الطرف الآخر أنه خسر الكثير.

تلمح شيئاً من هذا فيما فعلته أمريكا مع شركة الهواتف الصينية «ZTE». حجَبَ ترامب الشركة عن أمريكا ثم ما لبث أن رمى لهم الطوق، وبالمثل تصرح أمريكا أن التفاوض بشأن التعريفات الجمركية على الحديد مفتوح، بالطبع ليقدم الطرف الآخر بعض التنازلات، يفعل ترامب الأمر نفسه مع تركيا من أجل إطلاق سراح قِسّ أمريكا المتهم بالتجسس ولا يزال الضغط الأمريكي قائماً والليرة التركية تكابد ضربات ترامب.


الحرب التجارية لن تضرنا

يرد بهذا ترامب على سؤال أحد الصحفيين بمؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء السويدي. يرى الرجل أن أمريكا تم استغلالها تجاريًا خلال عقود عدة وتخسر جرّاء ذلك 800 مليار دولار سنويًا تذهب لأوروبا وكندا والمكسيك والنصيب الأكبر منها يذهب للصين بمقدار 500 مليار دولار سنويًا، هذا ما يعتقده ترامب، لذا كان عليه أن يرفع التعريفات الجمركية بمقدار 20% على 800 سلعة صينية تشمل محركات الطائرات وماكينات صناعية والإلكترونيات، لترد الصين في الحال برفع التعريفات الجمركية على 500 سلعة أمريكية بعضها يخص دوائر صوتت لترامب بقوة كمزارعي فول الصويا ومربي الخنازير، تتحدث الأرقام أن هنالك عشرات المليارات تتحرك هنا وهناك جرّاء هذه التعريفات.


هل تنتصر أمريكا؟

فيما يبدو أن هنالك حربًا تجارية على مقياس أقل مما كان في الثلاثينيات من القرن الماضي، بيد أن هذه تحركها المفاوضات وليس الكساد الاقتصادي، لكن ما عُهد هو أن الحرب التجارية تضر الجميع بطريقة أو بأخرى، فعلى سبيل المثال تُعد الصين المستهلك الأكبر لفول الصويا على مستوى العالم، ويمثل لها المحصول الأمريكي مصدر أساسي، التعريفات الجمركية الجديدة التي وضعتها الصين على هذه السلعة قللت من استيراد الصينيين لها؛ فتضرر المزارعون الأمريكان، بينما على الجانب الآخر يظهر مزارع صيني في تقرير لقناة الجزيرة الإنجليزية يشكر ترامب لأنه أتاح له أن يبيع فول الصويا الصيني بسعر مناسب بعدما قل الاستيراد، لكن وإن كان هذا خير للمزارعين الصينيين إلا أن المخاطرة لا تزال قائمة؛ فالأراضي القابلة للزراعة في الصين تمثل 15% فقط من مساحة البلد، والاستهلاك الصيني يفوق ما يمكن زراعته، لكن –وعلى حسب تقرير موجه للأمريكان على القناة الصينية CCTN الناطقة بالإنجليزية- فإنه هنالك دولًا أخرى تستطيع الصين الاستيراد منها. هذه العملية نفسها تقع على باقي السلع التي يتم عليها رفع التعريفات الجمركية من الجانبين.

يذكر «بروس واسرستين» –وهو أحد روّاد عالم الاستثمار الأمريكي- في كتابه «الصفقة الكبرى» بأنه أحيانًا يمكن جلب فائدة ما من التشويش والتعقيد، ذلك بأن تعقيد الموقف -سواء أكان في الظاهر أو على الحقيقة- يجعل الطرف الآخر يقبل بعروض غير عادلة بالنسبة له. لكن الكاتب يعزو هذه القدرة على التعقيد إلى الخبرة في المفاوضات، فانعدام الخبرة أو قلتها قد يقلب الأمور، وشيء آخر قد يكون نذير خسارة وهو المغالاة في المساومة، بما يجعل الطرف الآخر يشعر بالإهانة، ومن هنا لا يبدو أن نهاية الأمر في يد ترمب بالكلية كما يدّعي، ولو برع في عالم اقتصاد الشركات وألّف كتابًا عن الصفقات كان يومًا الأكثر مبيعًا في أمريكا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.