محتوى مترجم
المصدر
هآرتس
التاريخ
2015/12/04
الكاتب
شيمي شاليف

ندّدت صحيفة الواشنطن بوست، يوم الأحد 3 يناير 2016، بالمقترح التشريعيّ الجديد الذي تقدَّمت به الحكومة الإسرائيلية ضدَّ المنظمات اليسارية غير الحكومية والذي يُطلق عليه مجازًا «قانون الشفافية». ففي افتتاحيةٍ شديدة اللهجة عنوانها: «خطر على الديمقراطية الإسرائيلية»، كتبت الصحيفة: «إن المقترحَ يعكس نوع التكتيك الذي يمكن أن تستخدمه روسيا والصين لسحق المعارضة، ولا يتماشى مع القيم الأساسية لإسرائيل كدولةٍ ديمقراطية».

كانت هذه الافتتاحية واحدةً من أقوى ردود الفعل حتى الآن في الولايات المتحدة على جهود وزير العدل إيليت شاكيد، الجليَّة في الواقع، في قمع المنظمات غير الحكومية المناهضة للحكومة وجماعات حقوق الإنسان عن طريق وصفهم، في واقع الأمر، كعملاء أجانب. وقد كان لذلك صدىً عالٍ على نحوٍ مضاعف مقابل الصمت المطبق من معظم اليهود الأمريكيين في الرد على موجات التشريعات الشوفينية المعادية للديمقراطية، والتحريضية، التي تغرق فيها إسرائيل على نحوٍ متزايد.

إن الحملة التسلّطية التي تشنّها الائتلافات الحاكمة في إسرائيل منذ عاد حزب الليكود إلى السلطة في عام 2009، تسارعت في الأشهر الأخيرة. إنها الآن تشمل الجميع؛ تدور رحاها في الكنيست، والوزارات الحكومية، والجامعات، والفصول الدراسية، ووسائل الإعلام، سواء الاجتماعية منها أو العامَّة.

تشتمل تلك الحملة على اعتداءاتٍ تشريعية على حرية التعبير، والتحريض ضدَّ المنشقين، ومنع التمويلات الحكومية لأسبابٍ سياسية، واتخاذ تدابيرَ تنظيميةٍ حكومية ضدَّ التلفزيون ووسائل الإعلام الأخرى، وتغييراتٍ إجبارية في المناهج الدراسية، وتعزيزٍ للهيمنة الأرثوذوكسية على الشئون الدينية، والقيام بهجماتٍ متكررة على الأقلية العربية. ويأتي هذا كله بصحبة موجةٍ الكراهية للأجانب التي يبثها وزراء الحكومة الإسرائيلية، بدايةً من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مروراً بوزرائه.

تسارعت الحملة التسلّطية التي تشنها الائتلافات الحاكمة في إسرائيل في الأشهر الأخيرة، لتشمل الجامعات، والفصول الدراسية، ووسائل الإعلام.

بسخريةٍ أو بجدية، أقنع أنصار هذا الاندفاع المعادي للديمقراطية أنفسهم وغيرهم الكثيرين، بأن إسرائيل تواجه مؤامرةً كبرى من قِبل (أعداء الدولة) الداخليين الذي يريدون أن يطعنوها من الخلف، والذين انضموا إلى قوات الطابور الخامس الإسرائيلي العربي الوحدوي، ومن قِبل هؤلاء الحقودين المعادين للسامية في الخارج.

لقد نجحوا بالفعل في الحد من حرية التعبير، وتثبيط النقد الأكاديميّ والإعلاميّ لسياسات الحكومة، وتأجيج العداء الوحشيّ ضد السياسيين والمتحدثين اليساريين -بما يصل إلى الرئيس الإسرائيليّ نفسه- على فيسبوك، وتويتر، وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي. وهم مع كل نجاح يصيرون أكثر جرأة وأكثر طموحًا، في حين أن الإسرائيليين الذين يختلفون مع سياساتهم يصيرون أكثر قنوطًا بشأن حاضرهم وأكثر تخوفًا بشأن مستقبلهم.

لكَ أن تتخيَّل غضب الليبراليين اليهود الأمريكيين إذا حظرت حكومة الولايات المتحدة في عام 2016 كتابًا من المدارس الحكومية لأنه يمكن أن يعزز الزواج بين الأعراق. وحاول أن تستحضر رد الفعل على تشريع في الكونغرس ينصُّ على أن الأمريكيين الأصليين لا يمكن أن يدرسوا في مدارسهم الخاصَّة التاريخ المأساوي لشعبهم.

ولكَ أن تتصوَّر سيل الرعب والفزع إذا حاول مرشحٌ رئاسيٌّ جمهوريٌّ متهوِّر، تحفيز دائرته الانتخابية البيضاء للتصويت عن طريق إخبارهم أن اللاتينيين يتدفقون إلى صناديق الاقتراع بأعداد كبيرة. وتصوَّر الصدمة إذا تمثَّل ردُّ فعل رئيسٍ أمريكيّ على عملية قتلٍ أو حتى عملٍ إرهابيّ ارتُكب من قِبل فردٍ أمريكيّ إفريقي في التعهد بـ (القضاء على الانفلات الأمني) في مجتمع السود بأكمله، كما فعل نتنياهو يوم السبت 2 يناير 2016 بشأن عرب إسرائيل بعد الهجوم القاتل على الأبرياء في تل أبيب.

يظل معظم اليهود الأمريكيين حتى الآن على صمتهم برغم تكشُّف مثل هذه الأحداث والمظاهر الأخرى التي لا تعد ولا تحصى من هذا الانحراف الخطير في إسرائيل. وعلى الرغم من أنهم يفخرون عن حقّ بكونهم الجماعة الدينية الأكثر ليبرالية في أمريكا؛ إلا أنهم ظلوا صامتين بشأن الهجوم الإسرائيلي على تلك القيم العزيزة عليهم، وهي نفس القيم التي يصفونها بأنها (مشتركة) عندما يشيدون بأسس العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل.

حين كتب بيتر بينارت في مقاله الشهير في عام 2010 في نيويورك ريفيو أوف بوكس «أن المؤسسة اليهودية قد طلبت من اليهود الأمريكيين التحقق من ليبراليتهم على باب الصهيونية»؛ فإنه كان يشير إلى الفارق الكبير بين الاحتلال العسكري للفلسطينيين والديمقراطية الإسرائيلية داخل الخط الأخضر. وبعد ست سنوات فقط، يبدو أن اليهود الأمريكيين (يتحققون من ليبراليتهم على باب الصهيونية)، حتى عندما تسللت الآثار الجانبية الخبيثة للاحتلال عبر حدود عام 1967، وأخذت تأكل في الديمقراطية الغالية عليهم وعلى العديد من الإسرائيليين اليهود. إن ما هو جيد للـ (أوزة) الأمريكية اليهودية، على ما يبدو، لا ينطبق بالضرورة عندما يتعلق الأمر بـ (الأوز) الإسرائيلي.

يظل معظم اليهود الأمريكيين حتى الآن على صمتهم برغم تكشُّف الكثير من الأحداث والمظاهر التي تشير إلى انحراف خطير في إسرائيل.

لا أتحدث عن مجموعاتٍ من قبيل المنظمة الصهيونية الأمريكية، التي كتب رئيسها مورتون كلاين هذا الأسبوع لدعم هجوم شاكيد ضدَّ “المنظمات غير الحكومية الزائفة التي تسعى إلى تشويه صورة الدولة اليهودية بالأكاذيب”، ولا أتوقع أن يكون كلاين، الذي يمتلك منظمةً يتم تمويلها بشكل كبير من قِبل شيلدون أديلسون وأمثاله، منزعجًا بسبب النفاق الصارخ للحكومة اليمينيّة، باستثناء انزعاج المليارديرات من حرب إسرائيل ضد ما يسمى بـ (التدخل الأجنبي). أتوقع، وربما بسذاجة، أن اليهود الأمريكيين الآخرين يشعرون بنفس الغضب.

في مناشدته نهاية العام لجمع التبرعات في اللحظة الأخيرة، على سبيل المثال، أشار المدير التنفيذي للجنة اليهودية الأمريكية ديفيد هاريس بفخر للأنشطة الرئيسة في منظمته في عام 2015، وهو العام الذي اتسم بـ «الخوف والقلق». «لقد عقدنا مؤتمرًا استراتيجيًا في بروكسل لمحاربة معاداة السامية العالمية»، ويقول بتبجّح: «عملتُ جنبًا إلى جنب مع قادتنا المنتخَبين لمساعدة الولايات المتحدة على إظهار القيادة الضرورية في الخارج» و«استخدمت بفعالية بنيتنا التحتية الدبلوماسية لتسهيل صداقاتٍ جديدةٍ أكثر عمقًا بين إسرائيل والبلدان الموجودة في جميع أنحاء العالم».

يبدو أن هاريس قد غاب عنه «الخوف والقلق» الذي يجتاح قطاعًا عريضًا من الإسرائيليين وهم يرَوْن أن بلادهم تبتعد عن القيم المجسّدة في إعلان الاستقلال؛ الوثيقة التي سُخِر منها بشكل متزايد وتم تقويضها من قِبل القادة الجدد في إسرائيل. ربما تفرّق اللجنة اليهودية الأمريكية بين تأييد إسرائيل، البند الأول في أجندتها على موقعها على شبكة الإنترنت، وبين التأييد نيابةً عن الإسرائيليين أنفسهم.

بالطبع، هناك أسباب وجيهة لا تُعدّ ولا تُحصى، وكذلك أعذار واهية لإحجام اليهود الأمريكيين عن مواجهة الحكومة الإسرائيلية، أو عن تخصيص أموال أو جهود لتقييد ذلك. أولًا وقبل كل شيء، إن ذلك ليس من طبيعة المجتمع اليهودي، مهما كانت أخطاء الحكومة الحالية – وهي خطيرة جدًا وصارخة جدًا لأن ينكرها أي أحد باستثناء اليمينيين الأكثر حماسًا – يشعر الجزء الأكبر من اليهود الأمريكيين الذين ما زالوا ملتزمين تجاه إسرائيل، بالقلق من توبيخ إسرائيل، أو أسوأ من ذلك، تسليم أعدائها ذخيرة ثمينة. وعلى عكس خلاف العام الماضي حول الاتفاق النووي الإيراني، ما من إدارة قوية في الولايات المتحدة تسحب اليهود الأمريكيين في الاتجاه المعاكس.

إن العديد من المجموعات اليهودية قلقةٌ أيضًا من المغامرة بعلاقاتها الخاصَّة بنتنياهو ووزرائه؛ فالتواصل المباشر والفعال عبر المحيط الأطلسيّ يُعدُّ في كثيرٍ من الأحيان معيارًا لنفوذهم وهيبتهم في واشنطن وغيرها من العواصم العالمية. إنهم قلقون من العمل خارج منطقة الراحة الخاصة بهم والمتمثلة في مساعدة إسرائيل على درء أعدائها الخارجيين، وليس أقل مخاوفهم هو رد فعل مموليهم العدوانيين وذوي النفوذ، الذي قد يتمثل في حجب الدعم المالي عنهم.

إن معظم المجموعات اليهودية الأمريكية، الوطنية أو المحلية، مركز للجالية اليهودية، أو كنيس يهودي، تخاف أيضًا من الانضمام إلى صفوف جي سترييت وصندوق إسرائيل الجديد على قائمة أعداء الجناح اليميني. تتعرض المنظمتان باستمرار إلى النبذ ونزع الشرعية، مثل داعمي حركة المقاطعة لإسرائيل (بي دي إس) وكارهي إسرائيل. إن نفس التأثير السلبي الواضح بالفعل في إسرائيل يمكن على الأرجح أن يُرى في نيويورك ولوس أنجلوس وغيرها من مدن الولايات المتحدة كذلك.

إن أكبر خطر وجودي تواجهه الدولة اليهودية والديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط قد لا يكون إيران، ولكن إسرائيل نفسها.

ربما يبقى اليهود الأمريكيون غير مقتنعين بصرخات الألم الصادرة عن معسكر السلام الإسرائيلي؛ فمن المؤكد أن الأكثر ملاءمة بالنسبة إليهم قبول طمأنة الحكومة بأن الأمر كله ليس أكثر من كثيرٍ من اللغط حول لا شيء. ويمكنهم أن يشيروا بالتأكيد إلى عدم وجود أي إقناع لدى رئيس وزراء إسرائيل، الشخص الذي يمكنه أن يحشد القوات ويجند اليهود الأمريكيين في حربٍ من أجل الديمقراطية.

«نحن في حاجةٍ إلى زعيم، نحن في حاجةٍ إلى زعيم»، ذلك هو الشعار الذي يعبر عنه هذه الأيام الإسرائيليون الذين يعارضون الحكومة، وبينما هو تعبير دقيق عن الوضع السياسيّ المحزن ليسار الوسط في إسرائيل؛ فإنه أيضًا ذريعة لمواصلة احتساء القهوة بالحليب والتخطيط للرحلة العائلية المقبلة في الخارج؛ بينما ما يجري هو الشكوى وعدم القيام بأي شيء. إذا لم يغضب الإسرائيليون أنفسهم، لماذا يجب أن ينزعج اليهود الأمريكيون؟

يمكن للمرء أن يتعاطف مع العديد من اليهود الأمريكيين، خاصَّة من كبار السن، الذين يفضلون الحفاظ على دعم إسرائيل أحلامهم، وإسرائيل شبابهم؛ في حين تتجنب عيونهم وآذانهم ما هو واضح وحاضر. ويمكن للمرء أن يفهم لماذا يفضّلون تأجيل المواجهة مع إسرائيل طالما لها أعداء حقيقيون للغاية، مثل إيران وحماس لا يزالون يهددون أمنها وربما وجودها. هذه هي المعركة التي عملوا من أجلها، والمعركة التي يشعرون معها براحة أكثر، والحرب التي جعلتهم متحدين لعدة عقود.

لكن الوقت ينفد، من خلال الإبقاء على الصمت، وبالامتناع عن هذا النوع من الاحتجاج القوي لتغيير قواعد اللعبة التي تسوغ الوضع الحالي؛ لا يتخلى اليهود الأمريكيون فقط عن الأمر مثل الإسرائيليين، بل إنهم يخونون إسرائيل نفسها. إنهم لا يدينون لليبراليي إسرائيل بالمجيء لنجدتهم؛ إنهم مدينون أولًا وقبل كل شيء لأنفسهم.

بعد كل شيء، إن أكبرَ خطر وجوديٍّ تواجهه الدولة اليهودية والديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط قد لا يكون إيران؛ ولكن إسرائيل نفسها. وقد حان الوقت ليهود أمريكا أن يحتجّوا بشدة على ذلك ويصرخوا في وجه الحكومة التي تعمل على تضييع التراث الليبرالي الإسرائيلي وتنُفّر – عمدًا – جزءًا كبيرًا من السكان. وعلى الرغم من آلاف الاختلافات؛ إلا أنه لن تكون هذه هي المرة الأولى التي يبقى فيها اليهود الأمريكيون صامتين مُعربين عن أملهم في مستقبل أفضل بينما ثمة غيوم تجتمع وعاصفة تهدد إخوانهم وأخواتهم، ولن تكون هذه هي المرة الأولى التي يندمون فيها على شيء إلى الأبد.