ارتبطت نشأة الوقف الإسلامي في مصر بنشأة نظام «الولاية الإسلامية» فيها بعد تمام الفتح على يد عمرو بن العاص الذي أزال سلطة الحكم البيزنطي. وتذكر المصادر التاريخية أن «جامع عمرو بن العاص» هو أول وقف في مصر الإسلامية، وأن «قيسبة بن كلثوم التحبيبى» قد تصدَّق به ليكون مسجداً للمسلمين، وذلك في سنة 21هـ – 641م، وهى السنة نفسها التي تم فيها الفتح.

وتذكِّرُنا نشأة الوقف في مصر على هذا النحو بالنموذج الأول لنشأة الوقف مع قيام «دولة المدينة» عقب هجرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، إليها، وإنشاء مسجد قباء ومسجد المدينة. وقد قرر الفقهاء أن المسجد إذا أنشئ وأقيمت فيه الصلاة صار وقفاً مؤبداً.

واستهلال نشأة الوقف بتأسيس المساجد تحديداً يفسر لنا لماذا حظيت المساجد بالأولوية الأولى على مر التاريخ -وحتى الآن- في سلم أولويات الواقفين. ولعل السبب في ذلك هو أن «المسجد» عبارة عن نموذج مثالي لترجمة فكرة الوقف -من حيث كونها صدقة جارية- في صورة عملية، محررة من ملكية البشر، ومتاحة أمام الجميع دون تمييز للحصول على خدمات متنوعة. وتذكر المصادر التاريخية، أيضاً، أن الصحابة الذين دخلوا مصر بنوا بها -بعد فتحها مباشرة- مائتين وثلاثة وثلاثين مسجداً، وأن ظهور الأوقاف قد تتابع منذ ذلك الحين، وكان أساسها الاقتصادي متمثلاً -خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة- في العقارات المبنية؛ أكثر منه في الأراضي الزراعية والبساتين.

ويعزو المؤرخون القدامى –وبعض الدارسين المعاصرين أيضاً- السبب في قلة الوقف في الأراضي الزراعية في بادئ الأمر إلى غموض الوضع القانوني لأرض مصر بعد الفتح، وهل صارت ملكاً للدولة، ممثلة في سلطتها الحاكمة الجديدة؟ أم بقيت بأيدي أهلها؟ فَمَنْ رأى أن مصر فُتحت عنوة، ذهب إلى أن أرضها صارت ملكاً للدولة، ومن رأى أنها فتحت صلحاً ذهب إلى أنها بقيت بأيدي أهلها.

يبدو أن الرأي الراجح هو أن بعضها فُتح عنوة، والبعض الآخر فُتح صلحاً، وأن التكييف الفقهي (القانوني) لهذا الوضع قد دخلت عليه عدة تعديلات بمرور الزمن، بحيث تم الجمع بين الملكية العامة للدولة، والملكية الخاصة للأفراد بنسب متفاوتة من مرحلة لأخرى.

ويأتي ارتباط مشكلة التكييف القانوني لملكية الأرض بظهور الوقف في الأراضي الزراعية، من أن الأصل في العين الموقوفة هو أن تكون جارية في الملك التام للواقف حين قيامه بوقفها، وإلا بَطُل وقفه عند بعض المذاهب.

وخلاصة المناقشات الفقهية والتحقيقات التاريخية حول هذه المسألة هي: أن معظم أرض مصر -بعد فَتْحها- صارت ملكاً لبيت المال (الدولة). ولم يكن للزُرَّاع ملكية الرقبة في الأرض التي يزرعونها، وإنما كان لهم حق الانتفاع بها فقط نظير أداء ما عليها من خراج لبيت المال. ولذلك أصبح ظهور الوقف في الأراضي الزراعية مرهوناً بانتقال ملكية الأرض إلى الأفراد، وهو الأمر الذي بدأ تدريجياً بعد ما يقرب من نصف قرن من تاريخ الفتح؛ إما عن طريق الشراء من بيت المال بأمر من الإمام أو نائبه صاحب السلطة، وإما عن طريق إحياء الأرض الموات؛ بمعنى استصلاحها. وامتلاك الأرض عن أي من هذين الطريقين هو تملك صحيح ومن ثم يجوز التصرف فيه بالوقف، «سواء كان لمسلم أو لذمي» كما ذكر ابن نجيم في الأشباه والنظائر.

وقد انتشرت الأوقاف في الأراضي الزراعية مع اتساع نمط الملكية الفردية لها، حتى صارت -أي الأرض الزراعية- الوعاء الأساسي الذي استمدت الأوقاف منه معظم أعيانها.

ونلحظ أن الحكام من الأمراء والولاة والسلاطين، قد شاركوا منذ البدايات الأولى في إنشاء الأوقاف من أملاك بيت المال، وأطلق الفقهاء والمؤرخون القدامى على ما وقفوه من أملاك بيت المال اسم «الإرصاد»، ومعناه «حبس أرض من بيت المال لجهة من جهات النفع العام». وقد توسّع بعض الولاة -فيما بعد- في تخصيص ريع الإرصاد فأضافوا إلى غرض «النفع العام» أغراضاً أخرى، كان بعضها من قبيل «البر الخاص»، وبعضها الآخر كان على سبيل المساعدة أو المكافأة لأفراد بعينهم ولأولادهم وذريتهم من بعدهم. وعرف هذا النمط في عهد الأيوبيين والمماليك باسم «الرُّزق الأحباسية» وجرت عليه «أحكام الوقف» مع استثناء خاص بشرط الواقف؛ إذ لم ير الفقهاء وجوب العمل به وأجازوا تغييره، وهذا الاستثناء خروج على ما نصوا عليه من أن «شرط الواقف كنص الشارع فى لزومه، ووجوب العمل به».

وبإقرار الفقهاء لأوقاف الحكام وإرصاداتهم -من الولاة والسلاطين إلخ- على النحو المشار إليه صار «الوقف» نقطة التقاء منتظمة بين السلطة السياسية الحاكمة من جهة والمحكومين من جهة أخرى، ونشأ ما وصفناه بالمجال المشترك بين هذين الطرفين. وتعززت قوة هذا المجال بمرور الزمن، واكتسب موقعاً وظيفياً في إطار تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع وذلك لعدة أسباب، كان من أهمها أن ريع تلك الإرصادات في معظمه كان مخصصاً للصرف على الخدمات والمرافق والأشغال العامة؛ وفى مقدمتها المساجد، والمدارس، والبيمارستانات (المستشفيات)، وتوفير مياه الشرب، وتمهيد الطرق، وتجهيز الجيوش، إلى غير ذلك من الخدمات والمرافق التي اهتمت بها أوقاف عامة الناس أيضاً. وكان الوقف -بقواعده الفقهية ونظمه الإدارية- هو الجامع لجهود السلطة والناس، أو الحكام والمحكومين وهو المنظم لتلك الجهود في هذا المجال المشترك.

إن عملية التكوين التاريخي للمجال المشترك، ونمو وظيفته الاجتماعية والسياسية، قد تطورت عبر الممارسة الاجتماعية لنظام الوقف، وتشير بداية ظهور هذا المجال في سياق النشأة المبكرة للأوقاف إلى أن «فكرة الوقف» كانت فكرة بنائية مؤسِسة (بكسر السين)، وأن الممارسة المبكرة لها في مستهل نشأة النظام السياسي الجديد بعد الفتح تعتبر من الوقائع التأسيسية التي أسهمت في تشكيل معالم التنظيم الجديد لحياة المجتمع بصفة عامة، وهيأت لنمو شبكة من العلاقات الاجتماعية والأخلاقية عبر الأنشطة والمؤسسات الخدمية والخيرية التي أنشأتها الأوقاف أو مولتها خلال المراحل التاريخية المختلفة.

وفى ضوء هذه الدلالة التأسيسية للأوقاف الإسلامية في مصر، يكون من المرجح أنها لم تكن مجرد امتداد لبعض النظم التي عرفتها مصر إبان العصر البيزنطي، والعصور السابقة عليه، وخاصة ما كان يُعرف بنظام المؤسسات الدينية والخيرية Piae Causae -وهو يشبه إلى حد ما نظام الوقف الخيري ونظام الاستئمان Fidi Commissum- وهو يشبه إلى حد ما نظام الوقف الأهلي أو الذُّري.

كما أن الوقف لم يكن مجرد امتداد لما كان يُعرف لدى الرومان، من قواعد خاصة بالأشياء المقدسة Les Res Sacroe قصدوا بها المعابد وأدوات أداء الطقوس الدينية. فبالرغم من وجود بعض أوجه الشبه بين تلك النظم ونظام الوقف فإن أوجه الاختلاف أكثر وأعمق؛ ذلك لأن نظام المؤسسات الدينية والخيرية كان يتضمن معنى رصد مجموعة من الأموال لتحقيق وجه من وجوه البر، ومن هنا أشبه الوقف الخيري، إلا أن مثل تلك المؤسسات كانت تنشأ وفقاً للقانون الروماني بموجب قرار من مجلس الشيوخ أو بأمر إمبراطوري، بينما نجد أن إرادة الواقف -الفرد- تكفي لإنشاء الوقف، سواء كان هذا الوقف عبارة عن مسجد أو أي جهة أخرى. فضلاً عن أن الواقف حر في أن يتولى إدارة وقفه بنفسه، أو أن يسندها إلى شخص آخر أو جهة أخرى، بينما المعابد عند الرومان والبيزنطيين كانت الحكومة تتولى إدارتها، ولم تكن خاضعة للإدارة الأهلية المستقلة.

أما نظام الاستئمان البيزنطي -والذي كان ما زال قائماً عندما فتح المسلمون مصر- فقد كان يقوم على أساس أن يوصى شخص بماله أو بجزء منه إلى شخص آخر، ويكلفه في الوصية نفسها برد ذلك المال -كله أو بعضه- إلى أشخاص بعينهم ويذكرهم في الوصية أيضاً. وهذا هو وجه الشبه بينه وبين الوقف الأهلي -أو الوقف على الذرية- ولكنهما يختلفان في أمر جوهري؛ وهو أنه طبقاً لنظام الاستئمان كان المال رقبة ومنفعة يؤول إلى من يحددهم الموصى بصفة نهائية، ولكن طبقاً لنظام الوقف فإن الريع وحده -أو المنفعة- هو الذي يؤول إلى المستحقين، وبشرط أن يؤول في جميع الحالات من بعد انقراضهم إلى جهة بر لا تنقطع.

وهناك أوجه اختلاف أخرى، خاصة فيما يتعلق بالمصدر المعرفي الذي نبعت منه فكرة كل نظام من تلك النظم، وتتعلق أيضاً بالتكييف القانوني للتصرف في الملك طبقاً لفقه كل منها، وأساليب تنظيم الأنشطة والمؤسسات التي تنشئها هذه التصرفات، وطرق إدارتها والسلطة التي لها حق الإشراف عليها، والأغراض التي تخدمها، الأمر الذي يجعلنا نؤكد مرة أخرى أن نظام الوقف الذي عرفته مصر مع الفتح الإسلامي لم يكن امتداداً للأنظمة البيزنطية أو الرومانية السابقة، بل كان على نمط الأوقاف الإسلامية الأولى التي عرفها المسلمون في المدينة المنورة، من قبل فتح مصر وتحريرها من الحكم الأجنبي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.