في عام 1882 استطاعت بريطانيا بجيش قوامه 50 ألف جندي احتلال مصر وإنهاء الثورة العرابية، لكن هذا العدد سريعًا ما انخفض إلى 3 آلاف جندي فقط، ولم يرتفع إلى 6 آلاف جندي إلا عام 1893 مع صدام الخديوي عباس حلمي مع اللورد كرومر.

كيف استطاعت بريطانيا أن تحكم مصر بجيش احتلال تعداده 3 آلاف جندي فقط؟ وكيف رضخ أهل مصر لجيش لا يماثل فرقة في جيش بونابرت الذي دوّخه أهل مصر قبل عقود معدودة؟

الإجابة على هذه الأسئلة تستدعي التعرف على إحدى إستراتيجيات الاحتلال البريطاني لتحقيق احتلال هادئ وآمن.

الحكم عبر وسيط

راسم السياسة البريطانية في مصر هو اللورد «دوفرين» (1826-1902)، أنجح الدبلوماسيين البريطانيين في عصره، وسفير لندن في إسطنبول آنذاك، وهو الذي منع الدولة العثمانية من إرسال جيش إلى مصر وقت الثورة العرابية.

بعثت لندن بدوفرين إلى مصر، فوصل الإسكندرية في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1882، أي بعد أقل من شهرين على الاحتلال، ورفع تقريره إلى وزير خارجيته في 6 فبراير/شباط 1883، وقد وضع فيه أسس سياسة بريطانيا في مصر طوال عهد الاحتلال.

تقرير دوفرين يبدأ بأهم إستراتيجيات الاحتلال البريطاني:

إبداء النصح لبريطانيا بألا تتولى حكم مصر مباشرةً وإدارتها، لأنها لو فعلت ذلك فإنها تثير سخط المصريين وكراهيتهم وتكون عُرضة للدسائس والمؤامرات، فتضطر إلى الجلاء بشروط مُهينة، أو تضطر إلى ضم مصر إلى الإمبراطورية (وهو ما يكلفها عداء ذئاب أوروبا)، ولهذا فعلى بريطانيا إعداد المصريين لأن يحكموا أنفسهم في ظل الصداقة البريطانية. [1]

الحكم غير المباشر الذي يقصده اللورد الإنجليزي يعني إعداد نخبة وطنية رسمية ترتبط مصالحها بمصالح الاحتلال لكي تتولى الحكم، وتحل محل الاحتلال، حتى لا يشعر الأهالي أنهم يخضعون لمحتل أجنبي.

بريطانيا إذن لن تحكم مصر، وإنما تحكم من يحكم مصر!

كيف جرى ذلك؟!

السيطرة على الجهاز الإداري

رأت بريطانيا إبقاء النظام السياسي في مصر على حاله، مع إحداث تغييرات طفيفة عليه، دون فرض أي شكل من أشكال الاحتلال العسكري، فبقي الخديوي على رأس السلطة السياسية، تعاونه وزارة تُشكل من الأتراك المتمصرين، يعيِّنها الخديوي ويعزلها دون تصديق أو موافقة من جهة ما، وإلى جوار الوزارة خلق البريطانيون جهازين استشاريين، هما مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية [2]، وتحت الوزارة توجد كافة أجهزة الإدارة ومؤسساتها والمديريات وصولًا إلى القرى بواسطة العمداء ومشايخ البلد والخفراء. [3]

وحرص الاحتلال البريطاني على تفريغ الجهاز الإداري المصري من كل سلطة، بواسطة بث شبكة من المستشارين البريطانيين عُيّنوا بالوزارات، وضعهم الرسمي مستشارون يقدمون النصح والمشورة للوزراء، بيد أن السلطة الفعلية كانت في أيديهم، من خلال ما عرف بـ «النصائح الإلزامية»، إذ صارت نصائحهم إجبارية، واجبة الاتباع والتنفيذ، ولكن بقرار مصري، والوزير الذي يعترض عليه أن يرحل ويحل محله من يتبع سياسة السمع والطاعة للنصيحة البريطانية. [4]

مصير الوزير الذي يرفض الانصياع للنصيحة الإنجليزية كان واضحًا، إذ بعث «جرنفيل» وزير خارجية بريطانيا إلى السير «إيفلن بارنج» في 4 يناير/كانون الثاني 1884 بتلغراف قصير يقول:

المشورة الإنجليزية واجبة الاتباع، وإن الوزير المصري إذا لم يستمع للاستشارة الإنجليزية فليس أمامه سوى الاستقالة من وزارته. [5]

وحرصت بريطانيا على «تمصير» كافة الوظائف الحساسة في جهاز الدولة الإداري، وانتزاعها من النخبة التركية والشركسية، ولكن صاحب ذلك تعين مستشارين بريطانيين في وزارت الحقانية (العدل) والأشغال (الري)، وسردار (قائد) بريطاني للجيش المصري، ووكيل بريطاني لوزارة الداخلية. [6]

جرى تعين هؤلاء المستشارين البريطانيين على أنهم موظفون مصريون، وبقرار من الحكومة المصرية، ويجري تنحيتهم بقرار مصري، بيد أن الواقع أن تعيينهم وتنحيتهم تجري بواسطة النصائح الإنجليزية المُلزِمة من المعتمد البريطاني.

وعلى هذا، لا يمكن وصف حكومة مصر بعد الاحتلال بهذا اللفظ (حكومة)، وإنما هي كما وصفها نوبار باشا (إدارة)، فواقع الحال أن الحكم والتخطيط كان للمعتمد البريطاني، وعلى الجهاز الإداري التنفيذ فقط. [7]

وهكذا، بقي الهيكل الإداري مصريًا في الشكل، بريطانيًا في اتخاذ القرار، مصريًا في التنفيذ، بريطانيًا في النفع والفائدة، وبقي الأمر كذلك على مدار 10 سنوات، حتى جاء الخديوي عباس حلمي الثاني مُحاولًا إرباك هذا النظام، خالقًا ما عُرف بالصدام بين السلطة الشرعية للخديوي والسلطة الفعلية للمعتمد البريطاني.

إزاحة عقيدة الجهاد

بالنسبة للجيش، رأى «دوفرين» أن مصر لا تحتاج إلى جيش كبير العدد، مُتعللًا بأنه تحِدها الصحاري من جهات ثلاث، فقرّر ألّا يزيد عدد الجيش عن 6000 جندي، ثم ارتفع هذا العدد مع إعداد حملة لاسترداد السودان، وعُيِّنت له قيادة إنجليزية.

وحرصًا على تغريب الجيش وتغيير عقيدته الجهادية، سارع الإنجليز، مع أول تشكيل وزاري بعد الاحتلال في يناير/كانون الثاني 1884، إلى تغيير اسم وزارة «الجهادية» إلى وزارة «الحربية». [8]

محو لفظ الجهاد بما له من دلالات في العقيدة والتراث الإسلامي، واستبداله بلفظ الحرب، وهو لفظ عام، لا يُحدِّد ماهية الحرب التي يخوضها الجنود، كان تغييرًا مقصودًا، يفضح رغبة الإنجليز في طمس الهوية الإسلامية وعقيدة الجنود القتالية، بما يثيره لفظ الجهاد من مخاوف بأن يمتشق أهل مصر السلاح للتخلص من الوجود البريطاني العسكري والسياسي.

وبالسيطرة على الحكومة والجيش والبوليس والمالية، استكان الوضع لبريطانيا، حتى أنها أنقصت أعداد قواتها العسكرية. نزل مصر في 1882 نحو 50 ألف جندي بريطاني، فانخفض إلى 3 آلاف جندي فقط، ولم يرتفع إلى 6 آلاف جندي إلا عام 1893 مع صدام عباس مع الاحتلال.

هذا الرقم الهزيل يشير إلى الهدوء التام الذي ساد زمن توفيق، فإنجلترا تحتل مصر بجيش تعداده 3 آلاف جندي فقط، وحينما تخشى من اضطراب الأمور ترسل 3 آلاف آخرين! لإرهاب شعب تعداده 8 ملايين و650 ألف نسمة!

فهو «جيش» احتلال يقل في عدده عمّا أرسلته إنجلترا في «حملة» فريزر عام 1807!

ما أبعد الفارق بين أهل مصر في بدايات القرن التاسع عشر ونهايات القرن!

انكسرت الشخصية المصرية، وخبت روح الجهاد والفداء والاستبسال، وهذه واحدة من جنايات الحكم العسكري لمحمد عليّ، وواحدة من جنايات تغريب المجتمع.

لم تكن بريطانيا تحكم أهل مصر بثلاثة آلاف جندي فقط، وإنما تحكم بهم النخبة الحاكمة، وهؤلاء يتحكمون في الجيش والبوليس والمالية. صارت النخبة الرسمية هي سمع الاحتلال الذي يسمع به، وعينه التي يرى بها، ويده التي يبطش بها.

هذه السياسة لخصها دوفرين في جملة واحدة:

لا يمكن المحافظة على النظام في القطر المصري إلا بتأديب أهله بواسطة أستاذين من الأجانب وبالكرباج الوطني.

تحقيقًا لهذه الإستراتيجية، لا ينصح دوفرين لندن بحكم مصر مباشرةً، حتى لا يثير ذلك كراهية الأهالي للبريطانيين، ويثير غضب الدول الكبرى الطامعة في مصر والغاضبة من استئثار البريطانيين بها دونهم، فتصبح القاهرة محلًا للدسائس والمؤامرات ضد لندن.

الحل لهذه المعضلة عند دوفرين يكمن في إفهام المصريين أن بريطانيا لا ترغب في أن تحكمهم حكمًا استبداديًا، بل ترغب «بصدق طوية وإخلاص نية في أن تؤهلهم لأن يحكموا أنفسهم تحت ظلال مودتنا المخلصة»، وأن بريطانيا ترغب أكثر من غيرها من بلدان أوروبا في أن ترى المصريين يرفلون في الثروة والسعادة، وأن استعمالها للقوة في قمع ثورة عرابي كان مؤقتًا، ومتى تخلّصت مصر من مشاكلها، وحقّقت بريطانيا ما ترجوه من إصلاحات «ومتى أدركت (مصر) ذلك، نتركها ونحن مرتاحو البال». [9]

هذا المنطق الاحتلالي سوف يقبل به «حزب الأمة»، وسيكون بداية تكوين نخبة مصرية تنظر إلى الاحتلال بإعجاب، تريد أن تتعلم منه، وأن تحل محله في إدارة البلاد.

المراجع
  1. سليم النقاش، مصر للمصريين، ج 6، ص 60. وانظر أيضًا: الرافعي، مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال، ص 32.
  2. يتكون المجلس الأول من 30 عضوا تعين الحكومة منهم 14، وتُنتخب مجالس المديريات بقية الأعضاء. أمّا الجمعية العمومية فتتكون من 82 عضوًا، ينتخب الأهالي 46 عضوًا، والباقون هم الوزراء وأعضاء مجلس شورى القوانين الثلاثون. ورأي المجلسين استشاري فقط.
  3. اعتمدت في هذه الجزئية على تحليل الأستاذ المفكر «طارق البشري» في كتابه «دراسات في الديموقراطية المصرية»، مقالي الاحتلال البريطاني وتخدير الضمير الوطني، ثورة 1919 وجهاز الدولة المصري.
  4. استقال شريف باشا عام 1884 لأنه رفض إخلاء مصر للسودان، واستقال نوبار في يونيو/حزيران 1888 لأنه لم يوافق على مشروع السخرة، واستقال رياض 1891 لعدم موافقته على رأي كرومر في الإدارة العامة.
  5. محمد فهمي لهيطه، تاريخ مصر الاقتصادي في العصور الحديثة، ص 402.
  6. تمصير الوظائف المدنية جاء خصمًا من طبقة كبار الملاك الأتراك والشراكسة، وكسبًا للإنجليز الذي عملوا على مكافأة مواطنيهم بتعينهم في مناصب مدنية تدر عليهم أرباحا طائلة. ونلاحظ أن حرمان الإنجليز لطبقة الذوات الأتراك والشراكسة من مراكزهم القيادية لم يسرى على قمة الهرم السياسي، فأبقوا عليهم رؤساء للوزراء ووزراء.
  7. اللورد كرومر، مصر الحديثة، ترجمة صبري محمد حسن، ج 2، ص 319.
  8. فؤاد كرم، النظارات والوزارات المصرية، ج 1، ص 127.
  9. سليم النقاش، مصر للمصريين، ج 6، ص 60، 122.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.