باستعراض المسألة الأولى، سنعود لإثارة الجدال الواسع بين اللغويين وعلماء اللسانيات حول ما إذا كان للغة علاقة مباشرة بالفكر ونمطه، بمعنى هل نفكر من خلال لغتنا وبالتالي نرسم حدود عالمنا وتطلعاتنا عبرها، فتتحدد نظرتنا للعالم بحسب اللغة التي نفكر بها؟ أم أننا نكوِّن تصورات سابقة عن العالم ونستخدم اللغة فقط للتعبير عن تلك التصورات؟ وبالطبع الخلاف كان كبيرا ومازال.

إلا أنه استقر عند ثلاثة أقوال: أولها أن هناك وحدة بين الفكر واللغة، فهما شيء واحد، إلا أن هذا القول قد ضعف بدليل ثبوت تفكير الطفل قبل تملكه للغة، وثبوت التفكير في حالة العجز عن التعبير.

هل للغة علاقة مباشرة بالفكر ونمطه أى هل نفكر من خلال لغتنا فنرسم حدود عالمنا وتطلعاتنا عبرها فتتحدد نظرتنا للعالم بحسب اللغة التي نفكر بها؟

وثاني هذه الأقوال هو أن اللغة سابقة للفكر، وأنه بواسطتها ينشأ التفكير ذاته. والقول الثالث أن الفكر سابق للغة واللغة مجرد مطية له.

وهذان الأخيران في حالة اشتباك مستمر، وزاد من الاشتباك إضافة مفهوم الكلام للمسألة والفصل بينه وبين النطق والتعبير الصوتي أو الإشاري، فهناك كلام النفس الذي سبق وذكر في جدال المعتزلة والأشاعرة حول الذات والصفات، وأعاده بصيغة ما دي سوسير عندما فرق بين اللغة والكلام ، إلا أن الاتفاق هو وجود ارتباط وثيق بين اللغة والفكر.

وقد رُجِّح ذلك عبر عدة مقولات لكبار الباحثين في اللغة والثقافة، كمقولة ابن حزم: «إنه لا سبيل إلى معرفة حقائق الأشياء إلا بتوسط اللفظ».

وكمقولة فتجنشتين: «أن حدود اللغة التي أفهمها هي حدود عالمي»، وكمقولة سابير: «إنه من الوهم الاعتقاد أن اللغة مجرد وسيلة عرضية لحل مشاكل التواصل والتفكير، إن أهمية اللغة تكمن في أن العالم الواقعي يتأسس على العادات اللغوية للجماعة».

وكما تحدث دي سوسير: «إن أخلاق الشعب تؤثر على لغته واللغة هي التي تصنع ذلك الشعب»، وكما أثر في الثقافة العربية: «لكلِّ قومٍ لسانٌ يعرفون بِهِ؛ إن لم يصونوه، لم يُعرَف لهم نسبُ»، وغير ذلك كثير.

فإذا ذهبنا هذا المذهب يتوجب علينا فحص مترتبات التداخل اللغوي أو الاصطلاحي في بعض أحاديثنا، ويكون السؤال هو الآتي: هل تؤثر تلك الكلمات الداخلة -من الإنجليزية على سبيل المثال- في طريقة تفكيرنا عندما تصبح تلك الداخلات عادة يومية تتفاقم باطراد؟ أقصد ماذا يحدث عند تداخل لغتين أو أكثر في جملة ما؟

باعتبار أن تلك الجملة هي تعبير عن تصورنا للواقع، وباعتبار أن لكل لغة خصوصية في التعبير عن ذلك الواقع، فماذا يحدث عن تداخل هذه الخصوصيات؟ أنا لا أتحدث عن التداخلات العابرة، إنما أتحدث عندما تصبح هذه التداخلات عادة لغوية، وعندما تزداد تلك التداخلات طولا، عند تحول الاقتباس من كلمة إلى جملة كاملة، ونحن نلاحظ اطراد الزيادة في عدد التداخلات وطولها بين الأجيال، هل يؤدي هذا لاضطراب في التفكير أو تردد في النظر للعالم؟

نحن هنا نطرح أسئلة لمعرفة مترتبات ذلك على صعيد الثقافة والمحمول الحضاري، ولسنا نقف موقفا ضد اللغة الإنجليزية أو تعلمها قطعا، ولا نتحدث عن الاقتباسات الاصطلاحية العلمية في الحقل الدراسي أو العملي، وبالطبع نأخذ في الاعتبار أن تعلم أكثر من لغة هو مدعاة لفهم أكثر عمقا للعالم، إلا أننا نبحث عندما تؤثر لغة على لغة أخرى وتتراجع واحدة لمصلحة الأخرى، وإنما نصوب على أحاديثنا عندما نريد التعبير عن أفكارنا أو مشاعرنا أو نريد تبليغ مراد ما.


الثنائية اللغوية والازدواجية اللغوية

خطت العديد من الدول سياسات لغوية تهدف إلى حماية لغاتها الخاصة من الغزو أو التأثر اللغوي والثقافي الأجنبي وعرف بالتخطيط اللغوي أو السياسات اللغوية

إن هذا التداخل اللغوي يعبر عنه بمصطلحين: الأول «الثنائية اللغوية» والآخر «الازدواجية اللغوية»، وهذا الأخير يعرَّف «وجود لغتين من نفس النظام اللغوي»، كالعامية والفصحى، أما المصطلح الأول فيعرَّف «بوجود مستويين لغويين مختلفين ليسا من نفس النظام اللغوي في لغة قوم وعلى بقعة جغرافية محددة»، كالعربية والإنجليزية مثلا.

والمشترك بين المصطلحين أنهما يدلان على أن هناك استقطابا وتجاذبا بين طرفين كثيرا ما ترجح فيه كفة طرف على الآخر، أو يحدث تمييز بين الطرفين باعتبار أن أحدهما أكثر رقيا من الآخر أو أكثر قدرة في التعبير.

فالازدواجية اللغوية بمثالها المطروح -العامية والفصحى- يتخذ فيها البعض موقفا رافضا للعامية بدرجة ما أو ساعيا لتحجيمها بحجة أنها تشوش على الفصحى وتهدد بزوالها، بينما يرى بعض آخر أن العامية أكثر قدرة على التعبير عن مراد المتحدثين بها، أما الفصحى فهي لغة جامدة أو قاصرة.

وعلى الرغم من أهمية الموضوع إلا أننا نريد التركيز على المصطلح الثاني لتوغل المشكل الثقافي والحضاري فيه أكثر من غيره، فالأسباب التي أدت لنشوء الثنائية اللغوية متعددة، ومنها ما هو مرتبط مباشرة بالتخلف والتقدم الحضاري وبالاستلاب الثقافي، بل وبالهيمنة الثقافية، وكذلك الغزو العسكري في حقب من حقب التاريخ، ولكي تزداد الرؤية وضوحا ندلف للمسألة الثانية، وهي علاقة اللغة بالسمو الحضاري والثراء الثقافي.

خير سياق يطرح لهذا الحديث هو فرنسا وعنايتها باللغة ومقاومتها للتأثير اللغوي الخارجي، فالفرنسيون كانوا في ريادة الشعوب التي اهتمت بهذه المسألة سواء فيما يخص الدفاع عن الفرنسية التي تمثل الهوية والقومية والريادة والضامن الحضاري، أو ما يخص تصدير الفرنسية بتجلياتها خارج فرنسا إما قهرا خشنا أو ناعما.

فلنأخذ هذه الوقائع بالنظر، فبعد خمسة سنوات فقط من قيام الثورة الفرنسية أنشأت «الأكاديمية القومية للعلوم والآداب والفنون والأخلاق والسياسة» وأنشئ بداخلها مبحث عن علاقة الفكر بالعالم الخارجي الذي يقع في قلبه مسألة علاقة اللغة بالثقافة والفكر.

وفي العام 1970م شكل رئيس الوزراء الفرنسي ما سمي بـ لجنة المصطلحات وهي اللجنة المسؤولة عن تصفية المصطلحات الدخيلة على اللغة الفرنسية لاسيما الإنجليزية، وفي ذات العام أصدرت المحكمة الفرنسية قرارا بحظر استخدام عدد من الكلمات الإنجليزية في المكتبات، مع استثناء الكلمات الشائعة التي يمكن أن تلفظ بلكنة فرنسية مميزة.

وفي عام 1976م أصدرت وزارة الدفاع الفرنسية قرارا بمنع استخدام قرابة المئتي كلمة إنجليزية بين الجنود الفرنسيين، وفي سنة 1994م أصدرت فرنسا قانونا يحظر على المواطنين الفرنسيين استخدام أي كلمات أو تعابير غير فرنسية طالما هناك في الفرنسية ما يغني عنها، ويشمل ذلك الوثائق والإعلانات والمكاتبات والأفلام التي تبث عبر الإذاعة والتلفزيون داخل فرنسا، وينص القانون على بعض الاستثناءات في ما يخص المصنفات الموسيقية والأفلام في نسختها الأصلية.

وكذلك يخضع البث الموسيقي لقواعد ذات صلة بهذا القانون تلزمه بحد أدنى من الأغاني باللغة الفرنسية في الإذاعة والتلفزيون، وجنبا إلى أي مصطلح أو جملة بلغة أجنبية يجب أن تظهر ترجمتها الفرنسية.

وينص القانون على عقوبة السجن أو الغرامة المالية للمخالفين، كل ذلك أدرج تحت قانون توبون نسبة لوزير الثقافة الفرنسي جاك توبون؛ القانون الذي يهدف إلى إثراء اللغة الفرنسية والالتزام باستخدامها والدفاع عنها كاللغة الرسمية للجمهورية، وضمان أسبقيتها على المصطلحات الإنجليزية حصرا لزيادة استخدام الإنجليزية على الأراضي الفرنسية.

وهذا التوجه الثقافي قديم في فرنسا فقد سبق أن أصدرت جملة قوانين في القرن الخامس والسادس عشر كان أبرزها قانون فيلي كوتري، الذي أدى إلى إزاحة اللاتينية والإسبانية والإيطالية وكذلك اللهجات المحلية كالباسكية والكاتلانية واللهجات المتأثرة باللغات الأخرى كالهولندية والألمانية والإيطالية.

هذا على صعيد الحماية والتدعيم الداخلي، أما على صعيد التصدير للثقافة الفرنسية عبر اللغة، فقد سعت فرنسا لإنشاء رابطة الدول الفرانكفونية، وهي رابطة ثقافية سياسية بامتياز، تضم كل الدول التي غزتها فرنسا واستعمرتها في الماضي، وقدمت فرنسا عرضا بإلغاء الدين العام على الدول الإفريقية مقابل أن تضمن حكومات هذه الدول حماية اللغة الفرنسية وضمان تفوقها على ما سواها.

كما ناضلت فرنسا من أجل أن تكون اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية للإتحاد الأوروبي، يكفي أن نذكر مقولة شارل ديغول عندما قال: «لقد صنعت لنا اللغة الفرنسية ما لم تصنعه الجيوش»، وما قاله فرانسوا ميتران: «إن الفرنكفونية ليست هي اللغة الفرنسية فحسب. إذا لم نتوصل إلى الاقتناع بأن الانتماء إلى العالم الفرنكفوني سياسيا واقتصاديا وثقافيا يمثل إضافة فإننا نكون قد فشلنا في العمل الذي بدأناه منذ عدة سنوات».

لماذا تقوم فرنسا بذلك سواء ضد الإنجليزية أو ضد غيرها من اللغات أو فيما يخص سعيها لتصدير الفرنسية؟ إنه حماية الثقافة والدفاع عن الهوية والدفاع عن التاريخ وتأمين المستقبل والحفاظ على الخصوصية الحضارية، وضمان المنافسة الثقافية والحضارية على مستوى العالم، أليس هو الحفاظ على الإقلاع الحضاري الذي يبدأ بالسيطرة على ناصية اللسان؟ لماذا فرض الفرنسيون لغتهم بالقوة على الشعب الجزائري؟

لقد زار مسئول جزائري الخرطوم في الستينات في لقاء جامع مع نظرائه من الدول العربية، حاول ذلك المسؤول عندما جاء دوره في إلقاء الكلمة التحدث باللغة العربية، ولكنه فشل فشلا ذريعا، لم يستطع متابعة حديثه إطلاقا! فما كان منه إلا أن أجهش بالبكاء! البكاء بالطبع قلقا على ضياع الثقافة وتبدد الهوية الحضارية، إنه الخوف من فقدان التواصل مع محيطه التاريخي وسقوط الجزائر في الهوة الفرنسية بالكامل.

وليست فرنسا حالة استثنائية، فعلى الرغم من أن مصطلح الفرانكفونية ظهر في العام 1880م، إلا أن بريطانيا سبقت فرنسا بإنشاء رابطة دول الكومنولث عام 1931م، وتأخرت فرنسا حتى العام 1970م، وفي هذا المسعى خصصت بريطانيا ميزانية سنوية بلغت 200 مليون جنيه استرليني لنشر اللغة الإنجليزية من خلال برامج «تعليم اللغة» في هيئة الإذاعة البريطانية وبرامج «سلسلة تعليم الإنجليزية».

ولم تكن بريطانيا بحاجة لكل المجهودات التي قامت بها فرنسا، ذلك لأن بريطانيا في صورة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، كانت تحكم ثلث مساحة العالم التي يقطنها ربع سكان العالم، فكان الغزو العسكري كفيلا ببذر الإنجليزية لغة وثقافة في تلك البقاع الشاسعة.

وما لبث نجم الإمبراطورية البريطانية في الأفول حتى ظهرت الولايات المتحدة الأميريكية كقوة عالمية مهيمنة حملت معها إنجليزيتها الخاصة بأسلوب الهيمنة الثقافية والعسكرية، وبدأت بالتناغم مع بريطانيا بوضع سياسات نشر اللغة الإنجليزية عن طريق برامج التعليم والمنح الدراسية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك صراعا نشب داخل فناء اللغة الإنجليزية بين البريطانيين والأميريكيين، وذلك في القرن التاسع عشر الميلادي، سمي ذلك الصراع بحرب المعاجم، عندما سعت أميركا للاستقلال اللغوي وتكوين هوية لغوية خاصة بها لفك الارتباط مع بريطانيا.

وليتوج الاستقلال السياسي باستقلال ثقافي معرفي، فقد نشب الصراع بين صاغة معجم ورستر Worceter الذي كان ينزع نحو اللغة الإنجليزية المحافظة المعتمدة في بريطانيا، وبين صاغة معجم وبستر Wobster الذي نزع نحو الاستقلال اللغوي للأميريكيين؛ الأمر الذي نجح فيه هذا الأخير فعلا وصار ذلك المعجم ذا صيت واسع ومنافسا عالميا.


السياسات اللغوية

استخدام الإنجليزية بتعمد في أحاديثنا مع غنى العربية وسلاسة العامية يعنى أن المتحدث بصورة واعية أو لاواعية يريد الإخبار بأنه أكثر تحضرا

قد خطت العديد من دول العالم سياسات لغوية تهدف إلى حماية لغاتها الخاصة من الغزو أو التأثر اللغوي والثقافي الأجنبي، فيما عرف بالتخطيط اللغوي أو السياسات اللغوية، والتي تشمل الآتي:

1. التنقية اللغوية: كمثال فرنسا الذي أشرنا إليه آنفا، ونضيف هنا ما قامت به الحكومة الروسية في عام 2002م، حيث سنت قوانين عبر مجلس الدومة تشترط فيها إتقان اللغة الروسية لمنح المواطنة، وتمنع استخدام كلمات إنجليزية إذا كان هناك بديل روسي.

2. ترقية اللغة: كمثال ترقية اللغة السواحيلية لتصبح لغة وطنية في تنزانيا، و ترقية اللغة الماليزية لتصبح بديلا عن لغة المستعمر في أرخبيل إندونيسيا.

3. إحياء اللغات الميتة: كمثال إحياء اللغة العبرية وجعلها اللغة القومية التي يدرس بها في الكيان الصهيوني، فبعد خمس سنوات من إعلان اغتصاب الأرض وتمكن الدولة الصهيونية، أنشئ مجمع اللغة العبرية، وتكوَّن مجلس أعلى يضم نحو أربعين لجنة متخصصة في كل الفروع العلمية والفكرية والأدبية والفنية، تهتم بمسايرة اللغة للتطور واستحداث شبكة اصطلاحية مفروضة على الإدارات والمؤسسات، ونص على معاقبة كل من يخالف هذا التوجه.

4. إحلال اللغات القومية محل اللغات الأجنبية في التعليم: اختارت هذا التطبيق من التخطيط اللغوي كثير من الدول التي حرصت على تيسير العلوم باللغة الأم لأبنائها وتوطين العلوم والتقنية بلغة شعوبها وطبق هذا في اليابان وروسيا وكوريا والصين وفيتنام وسورية.


إن نزوع بعضنا لاستخدام الإنجليزية بتعمد في أحاديثنا مع غنى اللغة العربية وسلاسة العامية، لا يعدو أن يكون ثقافية انهزامية أمام سياق حضاري مستعل، إنه لا يعني شيئا سوى أن المتحدث بصورة واعية أو لاواعية يريد الإخبار بأنه أكثر تحضرا باستخدامه لتلك اللغة.

والحقيقة أننا جميعا لسنا سوى أجرام صغيرة تدور في أفلاك كواكب ضخمة، لسنا سوى توابع أو ملاحق، إننا عيال على أمم أخرى في الفكر والثقافة واللغة والقرار والملبس والمطعم والمشرب، بل وحتى الآمال والأحلام.

إن الأمر في جوهره ليس إعجابا بتلك اللغة في ذاتها إنما هو انبهار بالمحمول الثقافي والنموذج المعرفي الذي تعبر عنه، دون فحص معرفي دقيق لتلك الثقافة وذلك النموذج.

لقد صدقت مقولة ابن خلدون قديما حين قال: «المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وساير أحواله وعوايده»، «والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلبٍ طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها صار اعتقادا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به وذلك هو الاقتداء».

فالأمر هو خضوع لما يسمي بـ «الإمبريالية اللغوية» كما يصفها روبرت فيلبسن عبر كتابه الإمبريالية اللغوية، والذي تحدث فيه عن هيمنة اللغة الإنجليزية بأنها «الهيمنة التي فرضها وحفظها التأسيس والتشكيل المتواصل للتمييز الثقافي والبنيوي بين الإنجليزية واللغات الأخرى».

وقد تنبهت عدة شعوب لهذا الأمر وحاولت التخلص من هذه الهيمنة الثقافية، مثال على ذلك المحاولات الإيرلندية للتخلص من الإنجليزية، المحاولات التي تلخصت في ضرورة مقاومة النزوع لتقبل كل ما هو إنجليزي ببساطة لكونه إنجليزيا، ذلك أن ما يجب الالتفات إليه أن القبول بهيمنة لغة ما، ما هو إلا قبول للنموذج المعرفي أو النمط الحضاري للناطق الأصلي بهذه اللغة.

وفي المقابل هناك بالطبع الدعوة للخضوع اللغوي الكامل، أي الخضوع للهيمنة الثقافية للغة الإنجليزية، ذلك في مثال سنغافورا التي نظمت فيها الحكومة حملة تشجع الشعب السنغافوري على التحدث بالإنجليزية.

وبطريقة الناطقين الأصليين بها، أي دون أي تبيئة أو خصوصية لسانية، بحجة أن ذلك يرفع من معدل النمو الاقتصادي، فنظمت حركة تحدثوا الإنجيزية جيدا، وقد صرح رئيس الوزراء أن التحدث بالإنجليزية بطريقة «مشوهة» سيفقد البلاد «ميزة تنافسية كبيرة»، إلا أن البعض قد تخوف من أن تصبح سنغافورة عينة لحديقة حيوانات غربية.

ختاما نستذكر مقولة جون كالفي عالم «السوسيولوجيا اللسانية»، عندما قال:

إن الإمبريالية الأمريكية تتوصل إلى نشر لغتها عن طريق فرض هيمنتها السياسية والاقتصادية، وأما فرنسا فهي على عكس ذلك تنشر لغتها وثقافتها لتصل عن طريقها إلى فرض هيمنتها الاقتصادية والسياسية، فاللغة هنا في مركز القيادة، وأما السياسة والاقتصاد فتابعان، ونتيجة لا وسيلة

طريقان للهيمنة ولنفي أو قمع الذات الأخرى يمران عبر اللغة، فيكون من الغفلة بمكان، الظن بأن اللغة ليست سوى وسيلة للتعبير، متجاهلين الكم الثقافي الهائل الممرر باللغة من لدن العالم المتيقظ.