في كتابه «كرة القدم، الحياة على الطريقة البرازيلية» يحكي الكاتب «أليكس بيلوس» عن مشجع وفي لنادي فلامنجو يدعى خايمي دي كارفالو. عُرف هذا الرجل طوال حياته أنه لا يتوقف عن بث الحماس في صفوف جماهير فريقه المفضل قبل بدء المباريات.

كان خايمي يحضر جميع المباريات بألوان فريق فلامنجو رافعًا لافتات وأعلامًا صنعتها له خصيصًا زوجته في المنزل، فلم تكن تلك الأشياء تُصنع تجاريًا في أربعينيات القرن الماضي. كما كوّن خايمي رفقة أصدقاء له فرقة نحاسية لتعزف في المدرجات أثناء المباراة، كانت تلك المرة الأولى التي توجد فرقة موسيقية في ملعب مباراة كرة القدم لكن سرعان ما أصبحت تلك الفرقة جزءًا من نادي فلامنجو الذي قام باصطحاب فرقة خايمي إلى الأرجنتين في إحدى البطولات.

انتخب خايمي رئيسًا لرابطة المشجعين في البرازيل وتنقل رفقة فرقته النحاسية مع منتخب السامبا حيثما ذهب، وبفضل خايمي وفرقته تفنن مشجعي البرازيل في ابتكار أساليب تشجيع وأزياء ورقصات تعبر عن سعادتهم وحبهم لتلك اللعبة التي ستعرف بها البرازيل في أنحاء العالم بعد ذلك.

تلك القصة البسيطة تعبر تمامًا عن كون المشجع هو نتاج منطقي للمشهد الكروي الكامل المحيط به. في البرازيل يستمتعون بالكرة ويشتد بهم الحماس لتشجيع فرقهم ويهتفون لساعات ويرقصون احتفالًا ويرتدون الأزياء التنكرية؛ لأن كل ذلك مبهج. تلك البهجة تحديدًا هي ما يبحث عنه البرازيليون في كرة القدم.

دعنا نحاول أن نقيم النظرية نفسها على كرة القدم في مصر خلال الأعوام الماضية. لن نحصل أبدًا على خايمي دي كارفالو ولا أي منظر مبهج على الإطلاق بل إن ما يجسد تلك المرحلة تمامًا هو المشجع الزملكاوي الذي سافر المغرب لتشجيع نادي الوداد ضد النادي الأهلي في نهائي دوري أبطال أفريقيا.

نتناول قصة الرجل الذي تبرأ منه الجميع كأنه دخيل على مشهد يسوده الود والاحترام المتبادل، بينما في الحقيقة هو تعبير منطقي عن المشهد الذي يمارسه الكثيرون كل يوم.

أهمية السياق

بدأت القصة بوصول فريق الأهلي بمطار كازابلانكا حيث استقبلته جماهير الوداد وهي تهتف لفريقها كشكل من أشكال الضغط على الفريق الضيف. هنا ظهر المصري مصطفى عبد الخالق قادمًا من ألمانيا وملوحًا بعلم الزمالك ومقتربًا من لاعبي الأهلي حد المضايقة ليهتف في وجوههم، أن الهزيمة هي ما تنتظرهم لأنه لا يوجد حكام مصريون أو اتحاد كرة قدم يساعد الأهلي، ثم انتهت القصة بفوز الأهلي والتفاف لاعبيه حول مصطفى للاحتفال وردًا على مضايقاته.

فاز الأهلي وانطلق الجميع لانتقاد الرجل، على اعتبار أن ما فعله تصرف غير وطني ودلالة على اضمحلال التفكير. ذهب البعض أنه لا يشجع الزمالك من الأساس بل هو مدسوس لإلحاق العار بجماهير الأبيض. لكن ماذا لو قررنا سويًا أن نمسح هذا المشهد من ذاكرتنا تمامًا ونستبدله بمشهد لمصطفى من داخل المطعم الذي يمتلكه في محطة قطار مدينة بون في ألمانيا.

يمتلك مصطفى مطعمًا صغيرًا يقدم من خلاله خدمة إنسانية للمشردين والفقراء تتضمن شراء أحد الزبائن قسيمة مجانية وتقديمها لشخص محتاج وفي المقابل يقوم المطعم بمنح وجبة مماثلة بالمجان لأحد الفقراء، هذا ما دفع قناة ألمانية لعمل لقاء معه وإبراز ما يقدمه كونه شخصًا مسئولًا مجتمعيًا.

يبدو أن مصطفى ليس مجنونًا كما يعتقد البعض وهنا تأتي أهمية السياق. لا يمكن أبدًا أن نضع الرجل في خانة الموتور كزملكاوي ثم ننقله لخانة المصري «اللي الخير رواه» كمهاجر دون أن ندرك أهمية السياق الذي جعل موقفه يتباين لهذه الدرجة.

في المشهد الثاني فعل مصطفى ما يفعله كثير من المصريين، أدرك أنه لا مجال للانخراط في مجتمع أجنبي إلا بالتأكيد أنه جزء فعال من المجتمع وأنه لم يأت هنا للاستغلال بل للمنح أيضًا، كما أنه يزيل عن نفسه تهمة عدم التحضر التي ربما تلاحقه بمجرد كونه مهاجرًا عربيًا أفريقيًا.

ربما فعل مصطفى كل ذلك عن قناعة وتفهم تامين وربما فعل ذلك كشكل من أشكال التسويق. لكن الأهم أن هذا هو السياق الذي فرض عليه وجعله يظهر في شكل ممتاز يحبه الجميع لكن في المشهد الأول تصرف مصطفى طبقًا لسياق الرجل الزملكاوي العتيد.

السياق الزملكاوي: ما فعله مصطفى يحدث كل يوم

في المشهد الثاني ظهر مصطفى في سياق نعرفه جميعًا، الزملكاوي العتيد الذي يحارب دولة الأهلي التي لا تعترف إلا بابنها المدلل. هل يبدو هذا الكلام جديدًا أو غريبًا على أذن البعض، من المؤكد لا. هذا الحديث يُعاد جملة وتفصيلًا على وسائل التواصل الاجتماعي ثم يقدم في شكل أكثر تهذيبًا على قنوات الإعلام الرياضي من بعض المنتمين للزمالك.

بل إن رئيس نادي الزمالك يعتقد أن هدف الأهلي في الوداد لم تلتقطه الكاميرات لأن هناك سببًا خفيًا يتعلق بالسحر منعنا من مشاهدة الهدف. الأمر غير مقتصر على مرتضى منصور كما يحب البعض الإقرار بذلك، بل إن حسين السيد عضو مجلس إدارة مجلس لبيب المعين على سبيل المثال يعتقد أن الفوز ببطولات افريقيا يحدده الحكام، في إشارة إلى أن الأهلي فاز وخسر ببطولات أفريقيا بنظام المجاملات.

سردية فوز الأهلي بالبطولات بفضل الحكام ومعاونة اتحاد كرة القدم هي سردية يعتنقها الكثيرون من المؤثرين في الرأي العام الزملكاوي. كل ما فعله السيد مصطفى أنه امتلك القدرة المادية التي تؤهله للسفر خصيصًا والهتاف بما يقتنع به كثيرون، لذا أغرب ما يمكن فعله هو التنكر مما فعله الرجل ووضعه في إطار المختل غير الوطني الذي لا يعي ما يفعل.

في المقابل نملك سردية الأهلي الذي لا يقهر والذي لا يهزم إلا بفعل فاعل أو تآمر خفي وتدخل لشخصيات بارزة في الأمر وكأن فقدان الألقاب ليست من طبائع الأندية الضخم منها والمكافح. تلك السرديات هي ما تنتج لنا مصطفى وغيره، هذا هو السياق الذي عبر مصطفى من خلاله عما يدور في ذهن كثيرين.

دعنا نتعمق في المشهد أكثر، هل من المنطقي أن يتم محاكمة الجماهير أخلاقيًا؟

جماهير كرة القدم لا تعترف بالقيادة الأخلاقية

في حقيقة الأمر لا تعترف جماهير كرة القدم كثيرًا بفكرة الأخلاق أولًا التي يتم الترويج لها في كثير من الأحيان، وربما المشهد في مصر يدل على ذلك بشكل واضح. تنخفض وتيرة انتقاد مرتضى منصور بعد الفوز بالبطولات ولا يشفع أبدًا الكود الأخلاقي المتبع في مجالس إدارات الأهلي عند الخسارة بل ويتم انتقاد ذلك في المقابل.

ربما يتضح الأمر بعد أن نفهم فكرة القيادة الأخلاقية، التي تُعرَّف بأنها القيادة التي تعزز السلوك الملائم من الناحية المعيارية أو بشكل أبسط أن تكون المناصب القيادية من نصيب هؤلاء الذين يتمتعون بالسلوك الأخلاقي المناسب في أفعالهم ويكونون مثالاً يحتذى به.

من خلال دراسة نشرت في «مجلة تقييم الإدارة الرياضية»التي تهتم بتسويق وحوكمة الرياضة وتناولت فكرة علاقة القيادة الأخلاقية وكرة القدم كانت النتيجة حاسمة. أشارت النتائج إلى أن المشجعين يهتمون بشكل أساسي بجوانب القيادة الأخلاقية التي تؤثر على وضعهم فقط كمشجعين مثل الاستماع لآرائهم.

من ناحية أخرى أظهرت النتائج أن المشجعين أقل اهتمامًا بالمسؤولية الاجتماعية للجوانب الأخرى، بل إن الدراسة انتهت بأسئلة حول ما إذا كان المشجعون الخاضعون للدراسة يهتمون حقًا بالأخلاقيات على الإطلاق أو ما إذا كانوا مهتمين بأنفسهم فقط وأكدت ضرورة تناول النوايا الأخلاقية للمشجعين بشكل أوسع.

هذا هو الواقع إذن، لا تهتم جماهير كرة القدم بكون المسئولين عن أنديتهم يتمتعون بالوعي الأخلاقي المناسب أو لا لكن يهتمون فقط بالفوز والخسارة وهم في ذلك يلعبون دورهم كمشجعين، لكن في المقابل هنا في مصر يتم محاكمتهم أخلاقيًا من حيث نوعية الهتافات وتصدير فكرة المؤازرة غير المشروطة والوجود في الملعب قبل المباريات بساعات وأشياء من هذا القبيل، ونحن هنا لا نتحدث عن الأفعال التي يعاقب عليها القانون مثل الهتافات العنصرية أو السب والقذف بالتأكيد.

لم يكن مصطفى غريبًا أبدًا عن المشهد بل إن ما حدث أنه نقل المشهد من خانة القول فقط لخانة الفعل وهنا تبرأ منه الجميع. ظهر الرجل ثانيةً ليؤكد أنه دكتور في العلوم السياسية ليرد عليه رئيس بيت العائلة المصرية في برلين ليؤكد أنه لم يحصل على درجة الدكتوراه بل إنه يبيع بدل الرقص كما أنه ضد الدولة لنبدأ في سياق جديد وهو سياق الأعداء المتربصين بالدولة التي تتسم بالأخلاق والخير المطلق.