اللغة بيت الوجود.
مارتن هايدغر (1889-1976م)، في كتابه «الشعر واللغة والفكر».

عندما يطرق الإنسان باب السؤال حول حقيقة اللغة، يستحضر في سؤاله هذا العديد من الإشكالات، ومهما كانت غزارة بحثه، فإنه لا يتمكن من تحقيق الشرط الأساسي الذي تضعه العلوم للتعريف بحقيقة الأشياء، فلا الحد الماهويّ، الذي يُعتبر الأداة التعريفية الرئيسية في الفلسفة، باستطاعته أن يمدَّ المتلقي بتعريف حول كنه اللغة، مثلما أن المنطق في حده الجامع المانع لا يمكنه احتواء تلك السعة الدلالية للغة، فلا الفلسفة والمنطق بإمكانهما تحديد مسار دلالي واحد للغة.

ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن الإنسان يستعمل اللغة يومياً في سياق التوصيف والتواصل والتعبير عن ظواهر تصل إلى أقصى مراحل التباين والاختلاف، فهو على سبيل المثال ينسب اللغة للحيوانات، وأحياناً يقول إن هنالك صياغات لغوية معينة تنتمي إلى معجم الفلاسفة والقانونيين والأطباء، وكذلك لا يختلف في أن مجتمع الصم والبكم لهم لغتهم الخاصة، والإنسان لا يقع هنا في محض الجمع والاستدخال، بل يفصل عدداً من الكائنات والموجودات التي إن تحدثنا عن اللغة لا نجدها في السياق، فلا يقول مثلاً إن للكراسي أو النباتات لغة خاصة، وهذا كما لا يخفى استبعاد صريح لعدد من الموجودات في أثناء مناقشة مسألة الاستعمال اللغوي.

تعريفات مهمة.. عرض ومناقشة

هنالك مجموعة من التعريفات الاصطلاحية المهمة والتي تعيّن دلالة اللغة، فالجرجاني (ت816هـ) يقول في كتابه الشهير التعريفات، إن اللغة هي ما يعبر كل قوم عن أغراضهم [1]، بينما يعرّف ابن جني (ت392هـ) وأبو البقاء الكفوي (ت1094هـ) اللغة باعتبار ما يجري على لسان كل قوم والكلام الذي يصطلح عليه أفراد القبيلة [2]، ومعرفة الكلمة وأوضاعها. [3]

هذه التعريفات تعطينا تصوراً مهماً عن التداول الدلالي للغة في المعاجم العربية الإسلامية، أساسه القبض على أمرين أساسيين عند الحديث عن دلالة اللغة، الأول هو الاقتران المباشر بين الكلام واللغة والترادف الصريح بينهما، بينما الأمر الآخر هو أن الاستعمال اللغوي لا يمكنه الانفكاك عن العامل الاجتماعي الذي يُتداول فيه، الذي يتجلى في القبيلة أو القوم، أو بالاصطلاح الحديث هو المجتمع، فاللغة على هذا النحو لا يمكن لها أن توجد خارج الجماعة، ولا يمكن أن تتشكّل خارج دائرة مكتملة من الأفراد الذين يتفاعلون في ظرف تاريخي واحد، وينتهون إلى وضع مستقر للألفاظ ودلالاتها.

وهذا الإطار التفسيري للغة لا يقف عند تراث المسلمين فحسب، بل حتى في اللسانيات الغربية، حيث ترى بعض المدارس اللسانية أن الابتداع الفردي للغة أمر محال، ولا بد من وجود وعاء اجتماعي يستوعب قيام الوضع اللغوي الذي به تتمايز الألفاظ عن الأخرى، مثلما أن دي سوسير (1857-1913م) يقرن تعيينها بعدد من التقاليد الاجتماعية الضرورية [4]، كما أن علماء الاجتماع الغربيين، يتفقون على تعيين واضح وهو اشتراط المحيط الاجتماعي لقيام التمايز المشار إليه في النفس البشرية [5]، في حين يأخذ الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر منحى متطرفاً معتبراً اللغة نسقاً وجودياً لا يمكن للإنسان أن يتجاوز أسواره، فهي ليست أداة تواصلية بالنسبة له، بل نسقاً يستدعي الأشياء، والموجود عنده لا يمكن أن يوجد إلا في معبد اللغة. [6]

والتعريفات اللسانية في عمومها عند الغرب لا تزيل الحيوانات من المعادلة اللغوية، وإنما تضمّنها فيها، ولا تكترث بالفرضية الديكارتية التي تقول إن الحيوانات آلات لا تنطق ولا تتكلم وإنما أفعالها سلوكيات انعكاسية.

وهذا كله لا يعني عدم وجود اتجاهات تجريدية محضة، ولكنها تتعلق في الغالب بقضية النشأة، وهو تفسير مختلف عن موضوع المقالة الأساسي، أرسى أركانه اللساني المشهور نعوم تشومسكي حتى صار أباً روحياً له في العصر الراهن.

هل تمكنت تلك التعريفات من احتواء مفهوم اللغة؟

تلك التحديدات الدلالية التي أشرنا إليها على أن الأخذ بها مهم في بحث إشكال تعريف اللغة، غير أنها لا تحصر أشكالاً لغوية أخرى متعددة، فهنالك من الناس منْ لا يتواصل باللفظ الصوتي، بل بلغة الإشارة والتعبيرات الإيمائية، وهذا ما يستدعي حاجتنا إلى تركيب يستوعب الظاهرة اللغوية ككل، ولذلك فإن عملية الفصل مهمة، بين دلالة اللغة من جهة كونها وظيفة تعبيرية كلامية عمّا يفكر فيه الإنسان، ودلالة اللغة من جهة وظيفتها التعبيرية بالأنساق التي تؤطر عمليات التواصل، وهذا لا يعني انتهاء هذا الإشكال، بل تلك نقطة الانطلاق نحو إيجاد بنية تعريفية أكثر شمولاً تحمل دلالة كل ذلك.

وعند تفكيك تلك البنية المنشودة سنلحظ عدداً من السمات التي تنظم التعريف الذي يراد الوصول إليه، وهي كالتالي:

  1. ما ينظم اللغة، أي ما يعطي اللغة صفة النسق والوسم، فتلك الصفة لا تأتي إلا من خلال القواعد المعروفة لدى كل لغة.
  2. العناصر التي تحتويها تلك اللغة، وهي مستوياتها الصوتية والتركيبية، ويترتب على هذه العناصر تأثيرها على المتلقي.
  3. الوظيفة التي تؤديها اللغة، عبر التواصل من خلال المواضعات التي تتفق الجماعة عليها.

ومنه يمكننا أن نصل إلى مرتبتين تعريفيّتين للحديث عن مرادنا، مرتبة خاصة وعامة؛ فالخاصة تتمثل في التعريف الذي يُراد باللغة كلاماً وينطبق على كلام البشر، أمّا التعريف النموذجي العام فهو ما يجعل اللغة نسقاً هدفه التواصل، والسعة الكبيرة التي يمنحها هذا التعريف العام هو انطباقه على كثير من أنظمة التواصل، كما أنه لا يزيح أنظمة التواصل لدى الحيوانات من دائرته، وإنما يحتويها دونما إشكال.

أين يقع حل المعضلة؟

لا يحصر ذلك كله تعريف اللغة في دائرة واحدة، وإنما يتسق مع المحاولات المعاصرة الكثيرة القائمة على منح تساؤل «ما هي اللغة؟» مزيداً من تشرّب الاجتهادات التي تسعى إلى تسييره إلى الطريق الذي يعكس مطلبه.

أمّا التعدد والاختلاف في التعريفات، فهو دلالة لثراء الفكر اللغوي واللساني، ولا يعبر عن أي ملمح سلبي في هذا المنحى من البحث، والقول إن اللغة يصعب احتواء سعتها الدلالية لا يعني أنها هلام ليس له كينونة ولا وجود، إنما هذا الاختلاف في التعريف يعكس إبداعية الوعي اللغوي.

ومن أراد أن يحكم قبضته على الصيغة النهائية لمفهوم اللغة فسيقع تحت إشكالين رئيسيين؛ أولهما الدخول في معترك التعريفات المتنوعة القابلة للانطباق مع المطلوب، وهذا سينتهي حتماً بالقارئ إلى استحالة الاختزال والفصل، وثانيهما ميوعة وميل بعض الأبحاث نحو التعريفات الخاصة، وفي هذا الاتجاه غالباً ما يسود التحيز المذهبي الذي يُبعد الموضوع عما يراه اللغوي المتمذهب، وكل ذلك من شأنه إلغاء شطر كبير من النتاج التعريفي للغة، وبالتالي اجتزاء المادة المعرفية التي سيتلقاها القارئ.

ولذلك فالحل يكمن في القراءة التي تهدف للتعرف على الاجتهادات المتنوعة مهما بلغت من تنوع وغزارة، كما أنه من المهم تكثيف التأمل في الممارسات الفكرية للعلماء والمتخصصين اللغويين واللسانيين، ولا مانع حينها أن نصل إلى نقطة اشتراك نحقق فيها فهماً يوسع أو يضيق مساحة الوصول إلى تعريف ما، عبر ضوابط محددة.

وذلك يعني استحسان الانطلاق في منهجنا الاستطلاعي من إلغاء الاستفهام في سؤال «ما هي اللغة؟» نحو «هذه هي اللغة»، فنتجنّب الجدل الدلالي في شأن المعنى، لأن الجواب عن «ما هي اللغة؟» سيتجه لا إرادياً نحو تكوين وجهة نظر خاصة تثبت جانباً واحداً فقط، في حين أننا أمام أدوات وعناصر وأنساق ووظائف متعددة.

المراجع
  1. التعريفات، السيد الشريف الجرجاني، دار النفائس (الطبعة الأولى)، ص26.
  2. الخصائص، ابن جني، ج2، دار الكتب المصرية (الطبعة الثانية)، ص33.
  3. الكليات: معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أبو البقاء الكفوي الحنفي، مؤسسة الرسالة (الطبعة الأولى)، ص697.
  4. علم اللغة العام، فيرديناند دي سوسير، دار الآفاق العربية للصحافة والنشر (الطبعة الثالثة)، ص26.
  5. علم الاجتماع اللغوي، علي السيد، مؤسسة شباب جامعة الإسكندرية، ص44.
  6. الشعر واللغة والفكر، مارتن هايدغر، بيرينيال كلاسيكس (طبعة إنجليزية مترجمة من الألمانية)، ص203.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.