لا يستطيع الزائر لدول جنوب شرقي آسيا تجاهل النفوذ الطاغي للأقلية الصينية هناك، حيث تسيطر على مفاصل الاقتصاد، رغم صغر نسبتها السكانية، مما جعل البعض يطلق عليهم مصطلح «يهود آسيا» لهيمنتهم على اقتصاد هذه البلدان كما تفعل الأقليات اليهودية في البلدان الغربية.

وعلى عكس المهاجرين العرب القدامى، الذين اختلطوا بالسكان المحليين وتزوجوا منهم وصاهروهم، فإن علاقة المهاجرين الصينيين بالمجتمع الماليزي تشبه علاقة الزيت بالماء؛ لا يمتزج به ولا يذوب فيه، بل يُكَوِّن طبقة أعلى منه؛ إذ نادرًا ما تحدث حالات زواج بينهم وبين السكان الأصليين.

تدفق المهاجرون القادمون من جنوب الصين على ماليزيا في عهد الاستعمار الإنجليزي، للعمل في مناجم القصدير، وبمرور الزمن تركزت معظم الثروات في يد الصينيين ووجد السكان الأصليون المسلمون من أبناء العرق المالاوي أنفسهم في فقر مدقع، بينما يتمتع الأجانب بكل خيرات البلاد، بل إن الاحتلال البريطاني قبل رحيله عام 1957، اشترط على الملايو أن يمنحوا الجنسية للأقليتين الصينية والهندية، ومن أجل تهدئة مخاوف الأغلبية، نصت المادة 153 من الدستور الماليزي على احتفاظ الملايو بالسلطة.

لكن السكان الأصليين شعروا بعد جلاء الاحتلال الإنجليزي بأنهم ما زالوا يرزحون تحت احتلال من نوع آخر، وتزايدت حوادث العنف الطائفي بين المسلمين والصينيين، وكانت تتفجر أحيانًا بسبب خلاف شخصي بين فردين أحدهما ملاوي والآخر صيني، بسبب مناخ الاحتقان السائد، وعجزت الحكومة عن تحجيم نفوذ الصينيين أو تهدئة مشاعر المظلومية لدى الأغلبية.

وشهدت ولاية سنغافورة – والتي يشكل الصينيون ثلاثة أرباع سكانها – حوادث عنف جماعية بلغت ذروتها في شهري يوليو/تموز وسبتمبر/أيلول 1964، وبدت البلاد كبرميل بارود ينتظر أي شرارة صغيرة لينفجر، فصوّت البرلمان الماليزي على طرد ولاية سنغافورة عام 1965؛ خشية أن تنتقل عدوى الاضطرابات الطائفية لباقي الولايات، على اعتبار أن بتر هذا العضو الصغير من الجسد الماليزي سيمنع تسمم باقي الجسد بداء الفتنة الطائفية الذي يوشك أن يفتك بالبلاد، ووقتها خرج الزعيم السنغافوري الشهير، ليكوانيو، يبكي على التلفاز بسبب قرار البرلمان بطرد ولايته، التي أصبحت منذ ذلك الحين دولة مستقلة ذات أغلبية صينية.


13 مايو/آيار 1969 «سباق النفوذ»

كان تنكو عبدالرحمن، أول رئيس وزراء ماليزي بعد الاستقلال، يتبع سياسة اقتصادية تُركز على تنمية المناطق الفقيرة، وتمييز الملايو في الوظائف الحكومية، ورأى الصينيون في هذه السياسة خطرًا على نفوذهم في البلاد، بالرغم من أنهم ازدادوا ثراءً في عهد عبدالرحمن، فنظموا أنفسهم وتجاوزوا خلافاتهم ونجحوا باكتساح في انتخابات عام 1969، فحصلوا على 40 مقعدًا في البرلمان من إجمالي 104 مقاعد، وحققوا الأغلبية في برلمانات 4 ولايات، وهو الأمر الذي هدد تفرد الملايو بالقرار السياسي، وحرم الحكومة لأول مرة من أغلبية الثلثين التي تسمح لها بتعديل الدستور.

وفي غمرة الإحساس بالانتصار،احتفل الحزبان الصينيان الفائزان، ونظم شبابهما مسيرة كبيرة في العاصمة كوالالمبور، وجّه بعضهم خلالها إهانات للملاويين الذين بدورهم حشدوا الشباب من القرى والولايات القريبة لتنظيم مسيرة مضادة، فوصلت الحشود الغاضبة، وسرعان ما اشتبكوا مع الصينيين قبل موعد المسيرة التي ألغيت فورًا، ووقع مئات القتلى من الطرفين على خلاف في التقديرات، في مذبحة عرقية لم تشهد لها البلاد مثيلًا، واستمرت المذبحة ليومين كاملين، فأعلنت الحكومة حالة الطوارئ وألغت نتائج الانتخابات، وانتشرت قوات الجيش في الشوارع.

تركت المذبحة جرحًا في الذاكرة الجمعية الماليزية، لكنها منحت الحكومة حجة قوية للمضي قدمًا في اتباع سياسة تمييزية لصالح السكان الأصليين لمعالجة الاحتقان الطائفي، وسد الفجوة الضخمة بين الطبقات الاجتماعية، فبرغم أن تلك الأحداث لم تكن أول اضطرابات عرقية في البلاد، لكنها كانت الأكبر من نوعها.

شعر الملايو بالسخط تجاه رئيس الوزراء، معتبرين أنه فرط في حقوقهم واتبع سياسة متراخية فشلت في علاج مشاكلهم طوال ثلاثة عشر عامًا قضاها في السلطة، فاضطر للاستقالة عام 1970، ليخلفه في السلطة عبدالرزاق حسين، الذي أعلن خطة اقتصادية عشرينية تحت اسم NEP بهدف تحسين أوضاع السكان الأصليين بما يضمن عدم تكرار موجات العنف.

وأنشأ عبدالرزاق «تحالف الجبهة الوطنية» وهي جبهة سياسية لحكم البلاد تضم جميع الأعراق، ليضمن تحقيق الاستقرار السياسي التام، ليتفرغ لتنمية الاقتصاد.

وقامت خطة عبدالرزاق على فكرة أنه لن يخصم شيئًا من رصيد الأقلية الصينية الغنية بل سيزيدها غنى ولكن بمعدل ضئيل بالمقارنة مع الأغلبية الملاوية التي ستستفيد من النهوض الاقتصادي بصورة ضخمة، فالنهضة لن تكون على حساب الصينيين، ولن تُصادر أملاكهم أو تؤمم، ولكنهم أيضًا ليسوا هم أول ولا أبرز المستفيدين من النهضة، ووفقًا لهذه المعادلة سارت التنمية في المسارين الاقتصادي والاجتماعي جنبًا إلى جنب، ونجحت جزئيًا في تقليل الفجوات الطبقية بين الملايو والصينيين، وخلق طبقة وسطى من الملايو، والقضاء على الفقر بشكل كبير.


شعب القوارب

شعب القوارب – فيتنام 1977

ولكن جاءت رياح عام 1978 بما لا يشتهي الملايو، إذ تعرضت فيتنام لأزمة في الغذاء تزامنت مع تدهور العلاقة بين الحكومتين الصينية والفيتنامية، مما دفع الأخيرة لتحميل الأقلية الصينية ضريبة فشلها الاقتصادي، فنعتها الإعلام الفيتنامي بـ«الدولة داخل الدولة»، لهيمنتها على التجارة والاقتصاد في جنوب البلاد، وفي مارس/آذار 1978 صودرت أعمالهم وممتلكاتهم، وواجهوا حملة من القمع الحكومي الممنهج، وهرب مئات الآلاف منهم عن طريق البحر إلى الدول القريبة ومنها ماليزيا، وأخذت وسائل الإعلام العالمية تتحدث عن مأساة «شعب القوارب» الذين يفرون على متن قوارب مكتظة ومتداعية.

وفي أواخر عام 1979 أغلقت فيتنام كافة الجرائد والمدارس والجمعيات الأهلية الصينية، فتدفقت قوارب اللاجئين على السواحل الماليزية، فخشي الملايو من خلخلة التركيبة الديموغرافية لصالح الصينيين، لكن حكومتهم اضطرت لاستضافة اللاجئين بشكل مؤقت ووضعتهم في جزر منعزلة، بعد تلقيها وعود من الولايات المتحدة بأن يتم توطينهم في أستراليا ودول غربية في أسرع وقت، وبالفعل تم ترحيلهم للدول المستضيفة على دفعات.

وكانت الحكومة الماليزية تواجه انتقادات من الملايو باستضافتها للاجئين الصينيين بتلك الأعداد الضخمة لأن إجراءات إعادة التوطين استغرقت سنوات طويلة، فقرر رئيس الوزراء مهاتير محمد، في عام 1989، عدم استقبال أي لاجئين جدد، واكتفت ماليزيا بتقديم المساعدات لهم في عرض البحر وإصلاح سفنهم المتهالكة.


الخطة البديلة

استقبلت ماليزيا عام 1990 وهو موعد انتهاء أمد خطة عبدالرزاق العشرينية دون أن تحرز الخطة أهدافها المأمولة رغم أنها خطت بالبلاد خطوات واسعة في كافة المجالات، فأطلق مهاتير خطة ثلاثينية أخرى تحت تسمى «رؤية 2020» أملًا في تحقيق ما عجزت عنه الخطة السابقة، إلا أن عام 2002 حمل للماليزيين مفاجأة غير سارة؛ إذ أعلن في خطاب له فشله الذريع في سد الفجوة الطبقية بين الملايو والصينيين، وتحرير القطاع الخاص من هيمنة الطائفة الصينية، وقال «أتوسل إلى العفو لأنني فشلت»، وفاجأ الجميع بإعلان استقالته بدون سابق إنذار، إلا أنه بعد تعرضه لضغوط من حزبه أجّل استقالته لعام واحد.

والآن ورغم قرب انتهاء مدة خطة مهاتير الثلاثينية والتي لم يتبق منها سوى ثلاث سنوات، إلا أنه لا يبدو في الأفق أي مؤشر على نجاحها في خلق التوازن المنشود بين العرقين المالاوي والصيني، مما أدى لخروج ظواهر شعبية طائفية مثل «القمصان الحمر» الذين يعرضون أنفسهم كظهير شعبي لحزب الأمنو الحاكم في مواجهة الصينيين، و ينظمون احتجاجات شعبية ومسيرات تندد بالنفوذ الصيني في ماليزيا، وتطالبهم بالعودة إلى بلادهم، وهي الظاهرة التي استطاع السفير الصيني استغلالها ليرسخ دوره كأب روحي للطائفة الصينية، التي تشعر بالتهديد، ويضطلع بدور حامي حمى الطائفة.

وهناك واقعة مشهورة أثارت الكثير من الجدل كان بطلها السفير الصيني هوانج هويكانج، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2015،أعلن «القمصان الحمر» عزمهم تنظيم مسيرة بشارع بيتالينج التجاري في كوالالمبور،والذي يعتبر معقل الإثنية الصينية، ضد ما اعتبروه تهاونًا من الحكومة حيال التجار الصينيين، فنزل السفير بنفسه إلى المكان قبل المسيرة المرتقبة بيوم واحد،وأعلن من هناك أن الصين لن تقبل بأي مظاهرات شعبية عنيفة قد تصيب الصينيين بأي سوء أو تعرض مصالحهم للخطر، وأنه يعارض بشدة أي تمييز عرقي.

ولما استدعته وزارة الخارجية الماليزية للاستفسار عن تصريحاته رفض الذهاب، و خالف الأعراف الدبلوماسية وطلب منهم أن يأتوا هم إليه في مقر السفارة، والأدهى أن الصحافة الماليزية والتي يهيمن الصينيون على قطاع كبير منها وجهت انتقاداتها لوزارة الخارجية على تصرفها غير اللائق في حق السفير!


المعركة الديموغرافية

فيتنام، الصين
فيتنام، الصين

وفي حين يحرص السكان الأصليون في ماليزيا أشد الحرص على المشاركة الفعالة في أي استحقاق انتخابي،لخشيتهم من أن ترتفع نسبة تمثيل الصينيين بأكبر من حجمهم الحقيقي ويزيد نفوذهم السياسي بالتبعية في حالة تراجع إقبال الملايو على التصويت في أي انتخابات، إلا أن الصينيين يرون أنهم أحق بتلك المخاوف؛ فنسبتهم السكانية تقل باستمرار؛ ففي حين كانت نسبتهم 33.9% من إجمالي عدد السكان في إحصاء عام 1970،هبطت النسبة إلى 22.6%، في إحصاءات 2010، وتشير توقعات وزارة الاحصاء إلى أن النسبة سوف تتقلص إلى 18.4%، بحلول عام 2040.

وهو ما أزعجهم بشدة فبدأوا يُنشئون نواد لتشجيع الشباب والشابات الصينيين على الزواج والإنجاب، لموازنة هذا الاختلال الديموغرافي، وتنظم هذه النوادي حفلات وسهرات ليلتقي فيها الشباب الصيني من الجنسين للتعارف ومن ثم الزواج.

وفي مقابل ما شهدته البلاد على مدى عقود من هجرة عشرات الألوف من الصينيين للخارج، فإن السنوات الأخيرة شهدت ما اعتبر موجة هجرة جديدة من الصين، الذين بات بعض مواطنيها يفضلون الانتقال للإقامة في ماليزيا بسبب رخص أسعارها مقارنة ببلادهم، وبيئتها النظيفة وتوفر أفضل الخدمات.

ويجري الآن مشروع سكني ضخم لبناء مدينة جديدة في ولاية جوهور على الحدود مع سنغافورة والمتوقع أن تأتي الغالبية العظمى من سكانها – 700 ألف نسمة – من الصين، ما حدا بمهاتير محمد لمهاجمة المشروع بشدة واصفًا تلك المدينة بأنها لن تكون جزءًا من ماليزيا على الإطلاق، و هاجم سلطان الولاية مذكرًا إياه بأخطاء السلاطين في الماضي وتساهلهم مع الأجانب حتى امتلكوا أراضيهم، ووصف المشروع بأنه ليس استثمارًا ولكنه عبارة عن «بيع الأرض للأجانب»، قائلًا إن انفصال سنغافورة كدولة مستقلة في العام 1965 «يجب أن يكون درسًا للجميع بألا نبيع الأرض للأجانب».

وفي مطلع الشهر الجاري هاجم مهاتير، نجيب عبدالرزاق رئيس الوزراء الحالي، بسبب عقده تحالفًا عسكريًا مع الصين، مؤكدًا أن تلك الخطوة رسخت تبعية ماليزيا للسياسة الخارجية الصينية، قائلًا «نحن لم نعد مستقلين، فقد أصبحنا الآن جزءًا من الكتلة الصينية».