إن هذا الوجود له شقان: جانب خلقي مادي، وجانب أمري نظري، فكل الوجود ما خلا الإنسان مقهور بخلقه وأمره، أي خلقه على سنن مقدرة من عالم الأمر فلا خيار ولا قرار: «إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين» (الأعراف: 54). أما الإنسان فمقهور بخلقه، أي له جسد محكوم بسنن صارمة، لكنه حر في أمره لما فيه من نفخة إلهية: «إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (72)» (ص: 71، 72).

واقتضت حكمة الله أن يزوده بشرعة أمرية يلتزم بها اختيارًا: «ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون» (الجاثية: 18)، ألا وهي القرآن العظيم: «وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم» (الشورى: 52). فالقرآن روح من عالم الأمر متعلق بالجانب الروحي الأمري من الإنسان، يزوده بمنهجه الذي يتبعه اختيارًا لا اضطرارًا ليقوم بوظيفة الخليفة. فالله تعالى جعل الإنسان خليفةً في الأرض، ليستعمره ويصنع الحضارة: «وإلى ثمود أخاهم صالحًا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب (هود: 61)».

ولكنه لما كان حرًّا فيه تقوى وفجور، فقد يفسد ويسفك الدماء، فلزم أن يزوده الله تعالى بكتاب أمري يزكي نفسه، ويكف يده عن الطغيان، ليصنع حضارة إيمانية قوامها التعارف لا العدوان.

ولنقسم سؤال المقالة بناءً على التقسيم الخلقي والأمري الذي قدمناها به:

إن الهداية غير مشخصة وإنما هي خُلُق من عالم الأمر، ولها جذور في النفس البشرية: «ونفس وما سواها (7) فألهمها فجورها وتقواها (8)» (الشمس: 7، 8). لذا نجد القرآن الكريم كانت أول صفة له هدى للمتقين: «ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين» (البقرة: 2). وهذا ما ضمنته الشريعة الكريمة التي زودته بالتشريعات الأمرية الكلية في كل مجالات الحياة، التي عليه اتباعها ليتناغم مع القانون الإلهي الكوني فلا يفسد.

أما الحضارة فهي من عالم الخلق، وهي العمران البشري، الذي يحققه الإنسان باكتشافه لسنن الطبيعة وتسخيرها، ويصنع منتجاته التي تزيل شقاءه وضنكه. وأتت القدرة على بناء الحضارة من تعليم الله تعالى للأسماء، وتعلم الاسم مرتبط بفهم المسمّى، لأن الاسم أتى من السمة، أي الصفة لأنه يسم الشيء، أي يميّزه، فأنت لا تستطيع أن تسمي ما لم تميّز، وهذا يعني القدرة على إدراك الأشياء في الكون، وهذا ميدانه العلم الطبيعي، لذلك نجد آيات كونية كثيرة في القرآن تحث الإنسان على النظر والتفكر في الكون، وسأضرب أمثلة على قدرة القرآن الكامنة لصنع الإنسان الذي يصنع الحضارة المهتدية أو الهدي الحضاري عبر هذه المفاهيم: 1) مفهوم العلم والعلماء. 2) مفهوم القراءتين في سورة العلق، متلاقحًا مع مفهوم التعارف في آية الحجرات. 3) مفهوم العمل الصالح أو الباقيات الصالحات.


1. مفهوم العلم والعلماء

قال تعالى: «ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمراتٍ مختلفًا ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء، إن الله عزيز غفور (28)».

إن الآيات تلفت انتباهك إلى الطبيعة، وما فيها من قوانين ومشاهد تدل على جمال الخلق وتنوعه وإتقانه، فتذكر السماء والمطر والنباتات بأنواعها المختلفة، والجبال وتضاريسها البديعة، والإنسان والحيوان. من هؤلاء العلماء؟ أليسوا علماء الفلك والمناخ والجيولوجيا والنباتات والحشرات والحيوانات والأطباء بتخصصاتهم المختلفة في الجسم والنفس البشريين؟

إنه العلم الذي يبحث في الكون، فيصل إلى خالقه، وينير القلب بالإيمان، فيسبح بحمد الله ويقدس له، ويبين القرآن أن العلماء بالكون هم أكثر الناس خشية لله. إذن، فالخشية تقوم على علم، وأنت لن تعرف الله حق معرفته ما لم تفقه كونه الذي خلقه، وهذا الفقه هو عبادة الله تعالى باسمه الخالق، الذي سماه الغزالي: الفقه الحضاري.


2. مفهوم القراءتين في سورة العلق متلاقحا مع مفهوم التعارف في آية الحجرات

إن العلم واسم الله الخالق يأخذاننا إلى أمر القراءة الأول اقرأ باسم ربك الذي خلق. فالقراءة هنا أمر ولكن باسم الله الخالق، أي كأنه يريد منك أن تخلق باسمه أي تصنع أشياء تسخر الكون (تحويل الأمر إلى خلق)، أي أن يكون القرآن الأمري هاديك إلى خلق الحضارة وأدواتها من خلال القراءة، وهذه الصناعة تبدأ من قراءتك لنفسك وفهم علاقاتها، لأن أي إبداع علمي هو انعكاس لتقدير الإنسان لنفسه وفهمه لها؛ لذلك كانت الإشارة إلى خلق الإنسان أولا: «اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2)» (العلق: 1، 2).

وبذلك نرى أن أمر القراءة الأول يشير إشارة حاسمة إلى العلم الذي يبني الحضارة، فماذا عن أمر القراءة الثاني؟ إن أمر القراءة الثاني يربط التقوى بالعلم، أي الهداية بالحضارة، ولنفصّل في ذلك: إن الأكرم عرّف إكرامه أنه علّم الإنسان بالقلم ما لم يعلم، يوم أمره بالقراءة: «اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)» (العلق: 3-5). فكيف ستكون قراءتك سببًا لكي تقبس من مقتضيات هذا الاسم الأكرم؟

يكون بأن تجعل العلم الذي تعلمته وسيلة للتقوى عند تعاملك مع الآخر لتكون الأكرم عند الأكرم، بدليل هذه الآية: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير» (الحجرات: 13). أي أن يكون التعارف مبنيًّا على أرضية التقوى، فهي معيار التفاضل بين الأمم، أقول هذا وأنا أرى أمم اليوم وظفت علمها للبطش بالآخر ونهب ثرواته واستغلاله، بدلا من اتقاء الله به، أي أصبع العلم للطغيان والاستغلال لا من أجل التعارف المتقي، الذي يعلم الآخر ويتعاطف معه.

إن القراءة منهج لاكتشاف الكون أو الأنفس والآفاق بالتعبير القرآني، منهج يثمر العلوم التي تنتظم أقطار السماوات وفجاج الأرض، علوم يجب أن تكون غايتها تحقيق الإكرام عن طريق التقوى، ويرشدنا هذا إلى أنه لن يقوم بالتقوى حق قيامها من لم يمتلك ناصية العلوم كلها التي تثمرها القراءة، فلن تكون الأتقى ما لم تكن الأعلم، وما لم تكن الأعلم فلن تكون الأكرم، وستفشل في مهمة التعارف المتقي، وستكون فريسة للشعوب الطاغية، وهذا ما ترشدنا إليه بقية سورة العلق: «كلا إن الإنسان ليطغى (6) أن رآه استغنى (7)» لأن العلم الكوني هو وسيلة الاستغناء؛ فالطغيان. فما من أمة تطورت علميًّا إلا طغت وبطشت وتجاوزت حدودها ووظفت علمها في الطغيان لا التعارف المتقي، والتاريخ شاهد على ذلك، فويل للأمم الجاهلة التابعة! إنها صفر في سنة المدافعة. إن القوة ورباط الخيل اليوم، علوم مرعبة فجرت الذرة وطاولت الكواكب البعيدة، فكيف ستتقي وأنت لا تملك أدوات الاتقاء؟!

فالخلاصة أن دعاء الله باسميه الخالق والأكرم اللذين أتيا مع أمري القراءة، يقتضيان أن تصنع علمًا كونيًّا يصنع الحضارة؛ اقرأ باسم ربك الذي خلق، وأن يكون هذا العلم الحضاري أو العمران قائمًا على الهداية أو التقوى؛ اقرأ وربك الأكرم، لعلاقة الإكرام بالتقوى كما أسلفنا من خلال تلاقح هذه الآية مع آية التعارف من سورة الحجرات.


3. مفهوم العمل الصالح/البحث العلمي

إن مفهوم العمل الصالح مفهوم خطير لأنه يتعلق بالفعل الذي يغير الواقع ويصنع التاريخ والحضارة، فكل خلل يشوبه سينعكس تخلفًا، لذا وجب تطهيره. والعمل الصالح هو الذي يقوم على السنن فيؤهل الشيء ليقوم بوظيفته، وانظر في قوله تعالى: «فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين» (الأنبياء: 90). فالصلاح هنا هو قوة واقتدار على أداء الوظيفة الخَلْقية لا الخُلُقية، وهي الإنجاب.

ولن يكون العمل صالحًا باقيًا ما لم يقم على السنن، والسنن لا يكتشفها إلا البحث العلمي، والعمل الصالح قريب الإيمان في آياتٍ كثيرة، إذن فالبحث العلمي الذي يثمر العمل الصالح هو ثمرة الإيمان بالله تعالى، فالإيمان بالخالق أن تفقه المخلوق، لأن البحث العلمي بمناهجه المختلفة سبيلنا لفهم آيات الكون، وعلى هذا يقوم العمران البشري في شتى مجالات الحياة (علم وحضارة)، ثم يأتي الوحي ليضمن تصويب وجهة العمل حتى لا يخدم الفساد (تقوى وهداية). فالقنبلة النووية عمل بشري، لكن اتصال حاملها بالوحي الإلهي، سيجعلها عملاً صالحًا، فإن ملكها أهل الفساد كانت عملاً فاسدًا مفسدًا، وتكمن هنا خطورة التخلف المادي!


الخلاصة

لكي يقود فهمنا للقرآن إلى هداية وفعل حضاري، يجب أن يكون فهمًا صحيحًا له ولكثير من مفاهيمه الكلية كالتقوى والعلم والعمل الصالح والقراءة والخلافة لتبصّر الإنسان وتصوب عمله، فيخلق لها ما يجسدها في الواقع من نظم ومؤسسات في شتى مجالات الحياة. فكم من مسلم يظن أن العلم هو العلم الشرعي فقط، وأن التدين هو عكوف على الشعائر دون ربطها بعلم الحياة والأحياء؟ وكم من ظانّ أن العمل الصالح هو بضعة أعمال خلقية من صدفة وبر وتنفّل؟

فلا بد من تطهير هذه المفاهيم في العقل السليم لتثمر خلقًا في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والقوة العسكرية، كل بحسب موهبته. وهذا يستلزم حتمًا العمل الجماعي المؤسساتي، فكل مجال منظومة متكاملة تقوم على عمل الأفراد في جماعات متعالقة تحكمها شبكة علاقات سُننية صحيحة تحوّل مفاهيمها الأمريّة إلى وجود خلقي قد يكون نظامًا سياسيًّا أو تعليميًّا أو مؤسسة تقنية تصنع الأجهزة التي تكرم الإنسان وهكذا، مستنيرة بتشريعات الهدى القرآنية، تشريع من القرآن (هداية)، وعلم كوني يرشد إليه القرآن والعقل وحواسه (حضارة).