لا يفضل معظم الاقتصاديين التعامل مع الأسئلة الأخلاقية، ويقولون إن وظيفتهم هي شرح سلوك الناس وليس الحكم عليه، ويصرون على أن دورهم لا يتعلق بإخبارنا بالمعايير التي يجب أن تحكم هذا النشاط أو ذاك، أو الكيفية التى يجب أن نُقيّم بها هذا الخير أو ذاك. وعلى الرغم من احتجاجاتهم فإن الاقتصاديين وجدوا أنفسهم بصورة متزايدة متورطين في الأسئلة الأخلاقية، وهذا يحدث لسببين: الأول، يعكس التغير في العالم، والآخر، يعكس التغير في الطريقة التي يفهم بها الاقتصاديون مادتهم. ففي العقود الأخيرة وصلت الأسواق والتفكير السوقي إلى مناطق من الحياة محكومة تقليدياً بمعايير غير سوقية، فنحن نضع بصورة متزايدة سعراً أمام سلع غير اقتصادية.

ما هي فلسفة التشيؤ؟

ويؤكد الفيلسوف الأمريكي «مايكل ساندل» على أن السؤال عن الأسواق ليس سؤالاً اقتصادياً في المحل الأول، ولكنه سؤال عن الكيفية التي نريد بها أن نعيش معاً، هل نريد أن نعيش في مجتمع كل شيء فيه للبيع؟ أم أن هناك سلعاً مدنية وأخلاقية معينة لا يستطيع المال شراءها؟

وهذا يقودنا بالتالي إلى التشيؤ: فالتشيؤ كظاهرة هو ظاهرة النظام الرأسمالي، وهذا النظام هو الذي يتحمل مسئولية ظهور ونمو التشيؤ، فقد بات من الشائع في الأدبيات الاجتماعية الغربية النظر إلى طبيعة العلاقات الإنسانية على أنها مجرد صورة مجسدة لحركة السلع المادية في الأسواق، وبالتالي تم اختزال منظومة الحراك الاجتماعي التي كانت تُشكله في الماضي بدءًا من محاولة سقراط وأفلاطون لفهم الإنسان وانتهاءً بأعمال مفكري عصر النهضة، ضرباً من التوق نحو سيادة الإنسان على الطبيعة إلى ذلك التنميط الساذج المنطوي على إسقاط مفاهيم السوق وحركة السلع المادية على كافة تعقيدات الحياة الإنسانية بجانبيها الروحي والجسدي، وفي هذا النظام المعولم يتحول كل شيء إلى سلعة قابلة للبيع والشراء وفق مبدأ المنفعة إذ يسعى كل فرد للحصول على السلعة التي يحتاجها مقابل التنازل عن السلعة التي يمكنه الاستغناء عنها، وهنا تصبح مقولات الفن والجمال والأخلاق والحب والدين مجرد مفاهيم مجردة يمكن تجسيدها عبر سلع قابلة للتبادل الآلي البحت.

ويعد الفيلسوف المجري «جورج لوكاتش» أول من بحث في موضوع التشيؤ في الفكر الفلسفي الماركسي المعاصر، فقد أفرد لهذا الموضوع فصلاً كاملاً في كتابه الهام «التاريخ والوعي الطبقي» الذي صدر عام 1923، وقد استند رواد مدرسة فرانكفورت في المرحلة الأولي من تأسيس النظرية النقدية إلى تحليل لوكاتش للتشيؤ. فهو يرى أن التشيؤ يحول العلاقات الإنسانية في ظل هيمنة النظام الاقتصادي الرأسمالي إلى أشياء جامدة وخاضعة لمنطق التبادل التجاري بالصورة التي يتحول فيها البشر إلى سلع، بحيث يخضعون لقوى وأشياء خارجة عن إرادتهم، وبذلك فإن هذا العالم الاجتماعي يظهر لنا كما لو أنه لم يعد بمقدورنا أن نغيره، وهذا الوضع ليس وضعاً ظاهرياً فحسب، فالعمليات الداخلية في تشكيل صنمية السلعة والتشيؤ يخلق بنى اجتماعية خارجية يصبح بنو البشر دمى لها.

من اقتصاد السوق إلى مجتمع السوق: أمريكا نموذجًا

يرى هوبز أن عمل الرجل سلعة قابلة للتبادل من أجل المنفعة كأي شيء آخر، فهو يتصور أن السوق يحدد قيمة كل شيء وأن مجتمع السوق هو المجتمع الذي يتنافس فيه كل عضو مع الآخرين من أجل الحصول على السلطة، فالكل يسعى أو يتطلع إلى أخذ سلطات الآخرين ويتجنب نقلها منه إليهم، ولا يتم ذلك من خلال القوة الغاشمة ولكن من خلال العمل السوقي الذي يحدد قيمة كل شخص، فقيم كل الأشياء بما فيها الكائنات البشرية تتحدد بواسطة السوق.[1]

وقد باتت الأسواق من وجهة نظر الفيلسوف الأمريكي مايكل ساندل تلعب دوراً كبيراً في الحياة الاجتماعية، فلم يعد أمر البيع والشراء مقصوراً فقط على السلع المادية ولكنه امتد إلى مجالات من الحياة هي بالطبيعة غير سوقية أو لا تُشترى بالمال، فيقول:

إن السنوات التي سبقت الأزمة المالية لعام 2008 كانت تمثل عصر العقيدة السوقية وإلغاء الضوابط التنظيمية، أي عصر انتصار الأسواق، وقد بدأ هذا العصر في بداية الثمانينيات واستمر في التسعينيات مع الليبرالية السوقية لـبيل كلينتون وتوني بلير، اللذين عززا الإيمان بأن الأسواق هي الأدوات الأولية لتحقيق الصالح العام.[2]

ويرى ساندل أنه بعد ما يقرب من أربع سنوات من التحطم المالي الذي أدى إلى انكماش اقتصادي عالمي، تجنب الأمريكيون إلى حد كبير نقاشاً عاماً جاداً حول قواعد وأخلاقيات مجتمع السوق الحرة، ويرى أن الأسواق يمكن أن تقوض التعاون الاجتماعي، ولذلك يرى أننا بحاجة إلى إعادة ربط الاقتصاد مع جذوره في الفلسفة السياسية والأخلاقية. ولأجل عمل هذا الربط يجب أن نبحث عن الحل في الاقتصاد الكينزي، حيث إنه قدّم وسيلة للحكومة للتحكم في الاقتصاد دون الحاجة إلى الاختيار بين وجهات النظر المثيرة للجدل حول الصالح العام.

حيث إن المذهب الرأسمالي الكلاسيكي ظل مسيطراً على الحياة الاقتصادية منذ الربع الأخير من القرن 18، حيث كتب آدم سميث -الذي يعد رائد الاقتصاد الليبرالي- كتابه المعروف «ثروة الأمم» عام 1776، وحتى الثلث الأول من القرن العشرين حينما ظهر ما يسمى في تاريخ الفكر الاقتصادي بـالكساد العالمي الكبير عام 1929، والذي أدى إلى انهيار المذهب الاقتصادي التقليدي، مما ترتب عليه حدوث ثورة على الأساليب التقليدية في علم الاقتصاد. وكان أول من أحدث هذه الثورة هو الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز عام 1936، وهو الذي وضع كتابه المعروف باسم «النظرية العامة في البطالة وسعر الفائدة والنقود»، كما ظهرت بعد ذلك مدارس تنافس هذا المذهب ومنها المدرسة التاريخية، وهي التي أقرّت بتدخل الدول في النشاط الاقتصادي، وكذلك مدرسة الحماية الاقتصادية، وقد رفض هؤلاء الاقتصاديون التسليم بانسجام المصالح الخاصة مع المصالح العامة وأقرّوا تدخل الدولة لحماية الضعفاء.

وبالتالي، فهناك جدل قائم بين أنصار السوق الحرة ومن ينادون بضرورة أن يكون الاقتصاد محكوماً من قبل الدولة، حيث يرى الفريق الثاني أنه يجب على الدولة أن تتدخل في تحديد المجالات التي يكون للاقتصاد فيها دور والمجالات التي لا ينتمي لها، فيرون مثلاً أن الرأسمالي حر في أن يشتري ما يشاء ويتصرف كيفما يشاء، أما الضعيف اقتصادياً فهو مُكره على فعل معين لكي يحصل على المال بسبب ظروف ناتجة عن عدم المساواة، وبالتالي يجب على الدولة أن تتدخل لتحمي الشخص الضعيف وتحقق الرفاه العام.

أما أنصار السوق الحرة، أمثال «فريدريش فون هايك»، فنجده يُصرّح في كتابه «الطريق إلى العبودية»، بأنه إذا تدخلت الدولة وبسطت يدها على القوى السوقية، فإن ما نحبه وما لا نحبه لن يتحدد بناءً على رأينا نحن بل على رأي شخص آخر، وبالتالي فإن السلطة ستسيطر على ما نستهلكه وكأنها تخبرنا بشكل مباشر كيف ننفق دخلنا ويقول:

إن المشكلة في سيطرة الدولة على الاقتصاد أنه في هذه الحالة ستحل المشكلة الاقتصادية بواسطة المجتمع بدلاً من الأفراد، وهذا يتضمن أنه يجب على المجتمع أو ممثليه أن يُقرروا أهمية نسبية للاحتياجات المختلفة، وبالتالي تنطوي سيطرة الدولة على الاقتصاد على توجيه لكل حياتنا تقريباً.[3]

كيف أوصلت الرأسمالية ترامب إلى البيت الأبيض؟

أما ساندل فيشير إلى أننا الآن نعيش في مجتمعات ديمقراطية رأسمالية، مجتمعات حرة تتمتع باقتصاد حر، ويمكن للبعض أن يرى في ذلك ميزات كبرى، إلا أن ساندل يرى أن ذلك تسبّب في انعدام المساواة وتآكل المجتمع المحلي، مما كان له أكبر الأثر أيضاً في إضعاف إحساسنا بالتضامن ورغبتنا في التضحية من أجل الصالح العام، ويؤكد ساندل أن الحياة المنفصلة التي يحيون في ظلها الآن في الولايات المتحدة ليست جيدة من أجل الديمقراطية ولا طريقة مرضية في الحياة، فالديمقراطية لا تتطلب مساواة تامة ولكنها تتطلب أن يتشارك المواطنون معاً في حياة مشتركة، فالمطلوب هو أن يتواجه الناس الذين هم من خلفيات ومواقف اجتماعية مع بعضهم بعضاً في مجرى الحياة اليومية، ويؤكد دائماً أن السؤال المتعلق بالأسواق ليس سؤالاً اقتصادياً، ولكنه سؤال عن الكيفية التي نريد العيش بها معاً. هل نريد مجتمعاً كل شيء فيه للبيع؟ أم أن هناك خيرات مدنية وأخلاقية والتي لا تُشرِّفها الأسواق ولا يمكن للمال شراؤها؟

ويتصور ساندل أنه ليس هناك علاقة بالضرورة بين تعظيم المنفعة العامة أو الثروة الاقتصادية وإيجاد ديمقراطية مزدهرة، فالأول لا يضمن الثاني، ويرى أن السبيل الوحيد إلى إقامة ديمقراطية مزدهرة هو إيجاد سبيل للتفكير الجمعي في القضايا الكبرى، بما فيها القضايا المتعلقة بالعدالة والمنفعة العامة والتفكير المشترك في هذه القضايا، بحيث يُقرّر المواطنون كيف ينبغي لهم أن يصيغوا القوى الحاكمة لحياتهم. ولذلك يسعى ساندل إلى نقاش قوي حول سبل تمكين الديمقراطية من فرض يدها على الاقتصاد، فيصبح اقتصاداً وطنياً ذات مؤسسات وطنية كبرى.

وبالنسبة لفوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، فيرى ساندل أنه صدمة ولكنه ليس مفاجئاً، حيث إنه يعكس من وجهة نظره فشل النخب في كلا الحزبين من استيعاب السخط الذي يجتاح البلاد، ويرى أن هذا حكم غاضب على عقدين من التفاوت المتزايد والإنقاذ المصرفي ورؤية للعولمة، التي تعود بالنفع على من هم في القمة ولكنها تترك عامة الشعب يشعرون بالضعف.

والآن تذكر الفايننشيال تايمز أن فترة رئاسة ترامب كانت في مجملها إيجابية بالنسبة للمستثمرين، إذ تميزت بتحفيزات ضريبية وإجراءات تسهيلية لفائدة السوق، ولكن اقتراب موعد الانت خابات الرئاسية لعام 2020 قد يجعل الجمهوريين، حسب الصحيفة، يدفعون ترامب إلى اتخاذ مواقف اندفاعية أكثر في مجالات معينة، مثل التجارة والسياسية الخارجية التي يملك فيها سلطات واسعة، بعد فقدان الحزب السيطرة على مجلس النواب، وسيكون لهذه السياسات الاندفاعية المتوقعة من جانب ترامب تأثير سلبي على الأسواق العالمية، وعلى الاقتصاد عموماً، حسب تقدير الفايننشيال تايمز.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. Jesus M zaratiegui labiano, «A reading of hobbes: leviathan with economist’s glasses», international journal of social economics, university press, 2000, Spain, vol.22 No.2.
  2. Michael sandel, «What money can’t buy», Farrar Straus and Giroux, New York, United States of America 2012, p 11:12.
  3. F. A. Hayek, «The road to serfdom», London and New York, British Library 1944, p 95.