في رحلة بحثي المستمرة عن مقهى يُطابق معاييري النفسية للعمل عن بعد، وبعد بحث مضنٍ لأسابيع وجدت ما أبحث عنه، وسط إسطنبول الساحرة، في الجزء الأوروبي، مقهى عربياً يبعد كيلومترات عديدة عن منزلي.

يستغرق الوصول إلى المقهى في المواصلات العامة ما يقارب الساعة إلى الساعة والنصف، يطل المقهى مباشرة على البحر في منظر رائع حقاً للجلوس والعمل، يوفر لك جلسة مريحة وخيارات عديدة من الطعام والمشروبات والحلويات، لا أعلم لماذا وجدته الخيار الأمثل، ربما شكل المقهى وإضاءته وأثاثه الذي يعطي شعوراً دافئاً.

لم يكن هذا المقهى هو خياري الأول، فقد كان الخيار الأقرب هو الافضل في البداية، عزمت في ما بعد على إيجاد البيئة المريحة لي عوضاً عن الأقرب، كرّست أياماً للبحث عن المقاهي المناسبة، عبر جوجل للخرائط، وجدت خيارات عديدة وشاسعة، لتبدأ الجولات الاستكشافية، من المقاهي الصغيرة إلى المقاهي الكبيرة الجميلة والكئيبة التي وفرت ركناً لمن يريد العمل أو الدراسة.

أبدع البعض في إيصال الطابع التقليدي التركي في التصميم وإضافة الحلويات التركية التقليدية، وأخذ البعض الآخر الطابع الغربي، والفرنسي تحديداً، من الكرواسون والماكرون وبعض الحلويات الفرنسية التقليدية، ومع هذه الخيارات الواسعة لم أجد إلا قلة من المقاهي المناسبة للجلوس والعمل فيها.

بالرغم من استمتاعي في العمل من المقهى الآن، ولكن لم تستهوني المقاهي يوماً، سواء إن كان للدراسة أو للعمل، واقتصرت بالنسبة لي على جلسات الأصدقاء، ولم أفهم عند مروري بالمقاهي كيف يمكن للناس أن تعمل أو تدرس وسط هذه الفوضى.

بعد جائحة كورونا، بدأت بالتردد على المقاهي لشرب القهوة المثلجة المفضلة لي وكتابة بعض الأشياء البسيطة في الهاتف، وفي الحقيقة استغربت من سرعة إنجازي وتركيزي في وقت قصير، ومنذ ذلك اليوم بدأت أرتاد المقاهي للعمل والكتابة والحصول على جو اجتماعي مريح.

تاريخ المقاهي

نشأت المقاهي بشكلها الأولي كتجمعات سياسية واجتماعية، أثناء الحكم العثماني في دمشق ومكة، في أواخر القرن الرابع عشر. لم يكن للناس مكان مُخصص لهم، وكان الفضاء العام مقتصراً على المساجد. أُنشئت المقاهي لتُشكِّل مساحة واسعة للجميع للجلوس وتبادل الأخبار، وشاعت في مكة ودمشق بدرجة كبيرة، وبسبب القلق بشكل رئيسي من أن الأحاديث السياسية التي يتم التعبير عنها في المقاهي تتحدى القاعدة الحالية، حُظرت المقاهي في مكة عام 1524م.

افتتح أول مقهى في إسطنبول في منتصف القرن الخامس عشر، باسم Kiva han، كمكان للالتقاء وتبادل الأحاديث والاستماع إلى الأغاني، حيث أتيح للناس التعبير عن أفكارهم ومناقشة القضايا الاجتماعية، إذ كان منافساً للحانات آنذاك، وتسبّبت في تقليل الذهاب إليها واستبدال شرب الكحول بالقهوة، حتى إن الناس سموا القهوة بكحول المسلمين.

ومن إسطنبول سافرت حبوب البن إلى أوروبا في القرن السابع عشر، وتحديداً إلى فيينا بإيطاليا، إذ ارتبط تاريخ ثقافة المقاهي في فيينا ارتباطاً وثيقاً بنهاية حصار فيينا عام 1683، وكانت حبوب البن التي تركها الأتراك وراءهم أساس نجاح «جورج فرانز كولشيتسكي»، وسُمي شارع في الحي الرابع في فيينا باسمه.

وفي بريطانيا مثّلت المقاهي مكاناً ثقافياً وثورياً، يصحبه نقاشات ثقافية وسياسية، يجتمع فيه المفكرون والفنانون والكتّاب وعامة الناس، واتخذ الأدباء والمفكرون من المقاهي مكاتب لهم، وكان لموسيقيين مثل «فاغنر» غرف خاصة في المقاهي اعتادوا تأليف الموسيقى فيها.

ما الذي يجذب الناس للعمل من المقاهي؟

يأتي الآلاف من الأشخاص يومياً إلى المقاهي حاملين معهم جهاز الحاسوب أو أوراق الدراسة، مع أكواب القهوة، استعداداً للجلوس لساعات طويلة هنا.

رائحة القهوة عند دخولك وأصوات الناس والموسيقى الخافتة المعزوفة في الخلفية والتصاميم الجميلة للمقاهي، خلقت منزلاً لعديد منّا وبديلاً مُحبباً عن مكاتب العمل التقليدية، تُوفِّر المقاهي عديداً من الميزات، منها الجو الاجتماعي والإنترنت المجاني والقهوة اللذيذة وإنجاز العمل بشكل أكبر دون مشتتات.

ولكن لماذا أصبحت المقاهي هي الخيار الأول للعمل عوضاً عن المكاتب؟ أثار السؤال اهتماماً في نفسي لمعرفته.

للخروج عن النمط التقليدي السائد لشكل المكاتب المفروضة على الموظف، درست الشركات الكبرى، مثل جوجل وفيسبوك، وضع مكاتب توفر إنتاجية أكبر لموظفيها وتُضفي مزيداً من الراحة والسعادة للإبداع والابتكار، حيث تمنح حرية أكبر في الحركة، وتكون أقل رسمية من المكاتب التقليدية، وحرصت على إنشاء مقرات مبتكرة في جميع فروعها في دول العالم، مع مراعاة أن يطل المكان على مناظر طبيعية خلّابة وقريبة من المترو والأماكن الحيوية في البلدة.

ساعد انتهاء الجائحة في خلق هوية جديدة للعمل، وهو العمل عن بعد، وراق للكثير في الاستمرار بهذا النمط من العمل، بينما وجد البعض الآخر أن المكاتب هي الخيار الأفضل للعمل بدلاً من الجلوس في المنزل، بينما طالب البعض الآخر في دمج الأمرين معاً، في تقليص أيام العمل في الأسبوع إلى أربع، وتقليص عدد ساعات العمل الطويلة. وبين هذا وذاك وجد كثير من الناس أن الفضاء الأوسع بالنسبة لهم هي المقاهي.

تُظهِر أبحاث قامت بها جامعة أكسفورد عام 2012 أن المستوى المعتدل من الضوضاء المحيطة، مثل قعقعة الأطباق وأزيز آلة القهوة، يُحسِّن الأداء في المهام الإبداعية، ويجعل هذه الأماكن بيئات فعالة للعمل.

ونشر بحث حديث قام به «فان دير غورين» في مارس/آذار 2019، أن الإشارات الحسية الناتجة عن الضوضاء في الخلفية تساعد الدماغ على الخروج من الوضع الروتيني العقلي لرؤية الأشياء من وجهات نظر جديدة.

هناك أيضاً حقيقة أننا في المقهى قد نكون مُحاطين ببعض الأشخاص أتوا للقيام بنفس الشيء مثلنا، الذي يعمل محفزاً كبيراً لنا على الاستمرار والتركيز.

ونشرت دراسة بعد تجربة قام بها قسم علم النفس في جامعة لوفين في بلجيكا عام 2016، على مجموعة من المشاركين طُلب منهم الجلوس بجانب بعضهم البعض للقيام بمهمة على شاشة الكمبيوتر، وقد وُجد أن مجرد أداء مهمة بجانب شخص يبذل كثيراً من الجهد في مهمة ما، سيجعلك تفعل الشيء نفسه ويحسن من أدائه.

ويلعب الشكل التصميمي للمقهى دوراً مهماً، حيث أكدت الأبحاث أهمية خلق تصميم فريد وجميل بصرياً ومريحاً نفسياً، كاختيار الإضاءة والألوان والموسيقى الصوتية المناسبة، والتفاصيل اللطيفة الصغيرة المؤثرة على الرؤية واللمس والاستكشاف. ويكون على كل مقهى خلق تجربة خاصة لكل زبون، وليس مجرد معاملة مالية أو الحصول على منتج.

ما بعد المقاهي الشعبية

تعد المقاهي العربية بمثابة ذاكرة شعبية ومكاناً للتسلية والترويح وتبادل الأخبار والقصص والالتقاء بالأصدقاء والمعارف، وقضاء أوقات الفراغ للبعض، ومكاناً ثورياً للبعض الآخر، ويرتادها الصغير والكبير، الغني والفقير.

تكون في العادة بسيطة الأثاث ومكتظة بالرجال، تجلس كل مجموعة حول طاولة مستديرة أو مربعة الشكل، يلعبون إمّا الطاولة أو ورق اللعب أو الدومينو، ويدخن الأغلبية السجائر أو النرجيلة، ويُقدَّم الشاي بكثرة، وتُصبح في بعض المناسبات أشبه بمهرجان كبير يأتي أهالي المنطقة لمشاهدة هذه الأحداث.

بقيت المقاهي حتى هذا الوقت تقدم القهوة العادية، واقتصرت على قسم معين من المجتمع، مُخصصة معظمها للرجال أو كبار السن والمتقاعدين، حتى نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ولكن مع انتشار الشركات متعددة الجنسيات الأمريكية والأوروبية، انتشرت المقاهي بشكلها الحديث، مُشكِّلةً مفهوماً جديداً عن المقهى، ومُوفرةً مساحة عامة للجميع، يلجأ إليها الشباب بالدرجة الأولى.

لم يُغيِّر القرن العشرون من شكل المقاهي فقط، إنما قدّم لنا طريقة جديدة في تحضير القهوة، بعد دخول الإسبريسو إلى الدول الأوروبية، وتحديداً في البندقية بإيطاليا عام 1903، حيث ابتكر المشروب رجل الأعمال «لويجي بيزيرا»، الذي كان يُجرِّب طريقة أسرع في تحضير القهوة، لأن صُنع فنجان واحد من القهوة يستغرق كثيراً من الوقت.

استخلصت العملية الجديدة أفضل وصفات حبوب البن، وسرعان ما أطلق بيزيرا على الآلة اسم «ماكينة القهوة السريعة»، نظراً لأن الكلمة الإيطالية «إسبريسو» تُترجم إلى اللغة الإنجليزية «بسرعة»، فقد نشأ اسم المشروب من الماكينة الأولى. وكان مقهى Gaggia في إيطاليا أول موقع يستخدم هذه الآلات ويقدم الإسبريسو جنباً إلى جنب مع القهوة العادية.

ومن الإسبريسو وُلدت المقاهي بشكلها التي نعرفها اليوم، وافتتح مقهى «كوستا» الشهير في «دونستابل» لندن إنجلترا عام 1971 من قبل الأخوين سيرجيو وبرونو كوستا، قادمين من إيطاليا إلى لندن، لخلق تجربة جديدة وصنع مذاق رائع من القهوة.

ونافسه فيما بعد «ستاربكس»، الذي افتتح أبوابه في سوق «بايك بلاس» التاريخي في سياتل عام 1971 كمحمصة لبيع حبوب القهوة، وانتقل عام 1980 إلى مقهى يقدم مشروب الإسبريسو، وضمّ المتجران سلسلة مقاهٍ متعددة، وانتشرت فروعهم في لندن والولايات الأمريكية، ثم في كل أنحاء العالم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.