عندما عادت الأمريكية «بيس جورنيك» إلى منزلها، كانت آثار كلمات الصحفي الليبرالي «موراي كيمبتون» الذي استمعت لخطابه، قبل قليل، ما زالت في رأسها، لتقول لابنتها «إن الولايات المتحدة محظوظة بالشيوعيين الذين عاشوا فيها، لأنهم دفعوا الدولة بشدة نحو الديمقراطية».

القصة تعود إلى أحد أيام عام 1963، عندما تحدث «كيمبتون»، في تجمع بمدينة نيويورك عن المواقف العصيبة التي واجهها الشيوعيون في الولايات المتحدة من ملاحقة، وتنصت، واعتقالات، وغيرها.

كلمات السيدة التي انتمت للتيار اليساري نقلتها الابنة الكاتبة الأمريكية الشهيرة «فيفيان جورنيك»، في مقالٍ لها بصحيفة «نيويورك تايمز»، تحدّثت فيه عن الدور الذي لعبه أصحاب هذا الفكر في الولايات المتحدة، قبل أن يقرر ساستها التخلص منهم بقانون مكافحة الشيوعية عام 1954.

وبعيدًا عن الفروق بين الشيوعية والرأسمالية، والانتقادات التي تحيط بكل منهما، يرى المنتمون للمعسكر الأول أن تأثير الشيوعيين في المجتمع الأمريكي ما زالت آثاره باقية حتى الآن.

تقول «جورنيك» إن الفترة التي مارس فيها الحزب الشيوعي الأمريكي أنشطته بالفعل امتدت إلى ما يقرب من أربعين عامًا، لافتة إلى أن مئات الآلاف من الأمريكيين انتموا إلى هذا التيار خلال تلك الفترة، لكن العديد منهم انتهى مصيرهم بالعزلة الاجتماعية، أو الإفلاس، أو القضاء على حياته المهنية، ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى الزج بهم في السجن.

الحزب الشيوعي الأمريكي

أتى قرار تأسيس الحزب الشيوعي الأمريكي عام 1919، بعد صراع طويل داخل الحياة السياسية في الولايات المتحدة، بدأ برفض قيادة الحزب الاشتراكي السماح للأغلبية التي تعارضها ببسط نفوذها داخل الحزب، في أعقاب الخلاف بين التيارين حول تأييد الثورة البلشفية في روسيا بقيادة فلاديمير لينين، والموقف من الحرب العالمية الأولى، لا سيما بعد إعلان واشنطن خوض الصراع.

في مارس/أذار 1919، نجح الجناح الأيسر داخل الحزب في تحقيق فوز كاسح في انتخابات اللجنة التنفيذية للحزب الاشتراكي، وذلك بالسيطرة على 12 من أصل 15 مقعدًا من اللجنة، ليحظى هذا التيار بالمزيد من الدعم، لكن قيادة الحزب لم تقبل بهذا الأمر وسعت لإلغاء الانتخابات.

وخلال أقل من 6 أشهر، نجح «أدولف جيرمر» السكرتير التنفيذي للحزب، و«موريس هيل» عضو اللجنة التنفيذية، في استبعاد ثلثي الأعضاء.

الخلاف وصل ذروته في سبتمبر/أيلول من العام ذاته، حين اتصل «جيرمر» بشرطة ولاية شيكاغو لطرد ممثلي هذا الفريق من مؤتمر الحزب، وتصف مجلة «جاكوبين» المعنية بشئون اليسار الأمريكي ممارسات الحزب الاشتراكي في ذلك الوقت بالتقارب أكثر مع قادة الاتحاد الأمريكي للعمل، الذي اتسم بطابع محافظ.

اللافت أن العدد الأكبر من أعضاء الحزب الشيوعي عند تأسيسه كانوا من المهاجرين القادمين من بلدان غير ناطقة بالإنجليزية، لكن الحزب نجح، خلال فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، في ضم العديد من أكثر العناصر الراديكالية نشاطًا من مناطق مختلفة من الولايات المتحدة، علاوة على أعداد كبيرة من أعضاء «اتحاد عمال الصناعة في العالم».

تنقل مجلة Salon المواجهة التي دخلها الحزب، في بداية فترة عمله، مع الاتحادات العمالية، لدرجة وصلت إلى دعوته التخلص من كل الاتحادات القائمة، لكن الغالبية العظمى من العمال لم يقتنعوا برؤيته بأن الاتحاد الأمريكي للعمل بات أداة في يد الرأسماليين لاستغلالهم.

اليهود والحزب الشيوعي

إذا ما التفتنا لعنصر الدين، فهناك طائفة لعبت دورًا هامًا في نجاح الحزب، إذ يرى «توني مايكلز» أستاذ التاريخ اليهودي في الولايات المتحدة، أن اليهود شكّلوا قاعدة الدعم «الأكثر أهمية» للحزب، ففي منتصف العشرينيات، شكّل عدد اليهود المتحدثين باليديشية، والذين تعود أصولهم إلى مناطق مختلفة حول العالم 10% من أعضاء الحزب، بنحو ألفي عضو، لكنه أكّد أن مدى مشاركة اليهود في عالم الشيوعية الأمريكية تتخطى ما يوحي به هذا العدد.

نجح اليهود في توصيل صوت الحزب إلى أبناء الديانة عبر العديد من الوسائل، بدايةً من الصحيفة الشيوعية «دي فراهايت» الناطقة باللغة اليديشية التي وصل عدد قُرّائها إلى 30 ألف شخص، متفوقةً بذلك على أي صحيفة شيوعية أخرى في تلك الفترة.

كما تمكّنوا من إنشاء مدارس لمختلف المراحل العمرية، ومنشآت ثقافية، ووصل الأمر إلى بناء وحدات سكنية أقام فيها عشرات الآلاف من أعضاء الحزب، وعائلاتهم، إلى جانب تكوين فرق موسيقية، ومسرحية، وحظوا بشعبية بين العمال اليهود في صناعة الملابس، حتى كادوا أن يسيطروا على الاتحاد الدولي لعمال الملابس النسائية.

قيادات الحزب الشيوعي نفسها كانت تنظر إلى العمال اليهود الذين انتظموا في اتحادات يسارية شديدة التنظيم، باعتبارهم مدخلاً إلى المنظمات العمالية بشكل عام.

لكن العلاقة بين أصحاب الديانة اليهودية والشيوعية كمذهب سياسي لم تكن منفصلة عن الأحداث التاريخية التي شهدتها تلك الفترة، ففي أعقاب الثورة البلشفية في روسيا، بات العديد من اليهود مؤيدين للاتحاد السوفييتي ليس من الناحية الفكرية فحسب، بل لاعتقادهم بقدرة النظام الجديد على إنقاذ الشعب اليهودي نفسه، بعد القتل الجماعي الذي تعرّضوا له خلال الحرب الأهلية الروسية، بحسب رأي «مايكلز».

كما رأى اليهود الروس الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة أن مصالحهم مرتبطة بالاتحاد السوفييتي، وهو الأمر الذي لم تتفق معه معظم الجماعات الأخرى للمهاجرين.

وتعرّض أعضاء الحزب اليهود كذلك لمضايقات السلطات الأمريكية، ففي أول عامين من عمله، داهمت القوات الفيدرالية مقر اتحاد اليهود، وصادروا ترجمات لكلمات قادة الثورة الروسية، فلاديمير لينين وليون تروتسكي، وأحد بيانات الحزب، حتى وصل الأمر إلى عقد المؤتمر الثاني للاتحاد التابع للحزب في الخفاء.

هل استفاد الأمريكيون من الشيوعية؟

في الثلاثينيات من القرن الماضي، وبينما كان نجم «أدولف هتلر» يسطع في ألمانيا، بدأت الحركة الشيوعية حول العالم تتبع وجهًا آخر للسياسة، وبرز ذلك في دور الحزب الأمريكي في تأسيس مؤتمر المنظمات الصناعية، بالتعاون مع «جون لويس» أحد قادة عمال المناجم، في أعقاب خروج 10 اتحادات من الاتحاد الأمريكي للعمل.

لكن تركيز الشيوعيين في الولايات المتحدة لم يكن مقتصرًا على الحياة العمالية، إذ كانوا حاضرين في مجال الفن، والثقافة، ووسّعوا دائرة القضايا التي تبنوها حتى اعتبرهم الكثيرون مدافعين عن الديمقراطية، حتى في وقت كانت تتواصل فيه حملات التطهير التي يقوم بها الاتحاد السوفييتي.

القضية الأخرى التي يتفاخر الشيوعيون بدورهم فيها كانت مواجهة التمييز العنصري في الولايات المتحدة، ففي عام 1928، أعلن المؤتمر السادس للشيوعية الدولية عن بدء مرحلة جديدة أطلق عليها «الفترة الثالثة»، توقعوا فيها أن تشهد المؤسسات الشيوعية نموًا متسارعًا، والثورة على الرأسمالية، والقضاء عليها، لكن الحقيقة أن أهم ما برز خلال هذه الفترة هو تركيز الحزب الشيوعي الأمريكي على الأزمات التي يعانيها السود، ليكون أول منظمة راديكالية من البيض تقوم بهذا الأمر.

في تلك الفترة، كان العمال السود مُلتحقين باتحاد عمال الصناعة في العالم، لكن الاتحاد، بحسب مجلة «جاكوبين»، لم يكن لديه برنامج لمواجهة التمييز، كما لم يعبأ الحزب الاشتراكي بالأمر، بل على العكس، سمح بنشر النكات العنصرية في إحدى الصحف التابعة له.

اعتبر الحزب الشيوعي أن مساندة أحزاب البشرة السمراء ستمثل تحديًا أمام الرأسماليين، حتى نجح في إلحاق البيض بهذا النضال، وجعل الفكرة تتغلغل بين العدد الكبير من المهاجرين بين أعضائه.

ركّز الحزب على تنظيم السود في الجنوب الأمريكي، وبدأ في محاربة عمليات الإعدام التي يتعرّضون لها بدون محاكمة، حتى جاءت القضية الأبرز، عندما دافعوا عن «فتية سكوتسبورو».

في مارس/أذار من عام 1931، واجه تسعة فتية سود، تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشر والتاسعة عشر، اتهامًا باطلًا باغتصاب سيدتين من أصحاب البشرة البيضاء على متن قطار، لتُقرِّر هيئة المُحلفين، الذين كانوا جميعهم من البيض، إعدام ثمانية من المتهمين التسعة.

بحسب موقع History، تدخّل الحزب الشيوعي عبر جناحه القانوني (الهيئة الدولية للدفاع عن العمال)، وذلك من أجل دفع الرأي العام لمواجهة العنصرية، وقاد حملة وطنية للدفاع عنهم عبر مظاهرات وتجمعات ومسيرات.

وبعد شهرين من إصدار الحكم الأول، قرّرت المحكمة وقف تنفيذ حكم الإعدام حتى استئنافه أمام المحكمة العليا في ولاية ألاباما، لكن الأخيرة صدّقت على إدانة 7 من المتهمين، قبل أن تعود المحكمة العليا الأمريكية وتلغي هذه القرارات، وتعود القضية إلى المربع صفر.

استمرت القضية لسنوات طويلة أمام القضاء الأمريكي، تمكّن خلالها الحزب الشيوعي من تحقيق مكاسب سياسية ضخمة، ونجح في الوصول إلى الفئات التي لم ينجح في الوصول إليها من قبل، كالكنائس، والمنظمات الأخوية والسياسية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.