منذ ظهور فيروس كورونا انتشر على ألسنة الناس كلمة «تطعيم» و«لقاح»، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، ما أصل تلك الكلمة، ومتى بدأ العالم في استخدامها، وما أول لقاح في العالم تم اكتشافه، ومن العالم «إدوارد جينر» صاحب تلك الثورة المناعية؟

والإجابة على هذه الأسئلة مرتبطة بثالوث: الجدري، وإدوارد جينر، واكتشاف اللقاح.

كيف احتل الجدري العالم لمئات السنين؟

إن أصل الجدري غير معروف، لكن يعتقد العلماء أنه كان موجودًا منذ تاريخ 10 آلاف عام قبل الميلاد، ولكنهم تتبعوا آثاره في الحضارة الإنسانية، فوجدوا أن المصريين القدماء استخدموه كسلاحٍ بيولوجي في حروبهم ضد الحيثيين، ووُجدت علامات للجدري في مومياوات مصرية كمومياء رمسيس الخامس.

واستخدمه كولومبوس ورفاقه أيضًا كسلاحٍ بيولوجي في إبادتهم للهنود الحُمر، وكان الجدري سببًا مباشرًا في سقوط حضارتي الأزتك والإنكا. وقد انتشر في بلاد آسيا عن طريق التجارة وطريق الحرير، وتركّز في بلاد بعينها كاليابان والصين.

أمّا أوروبا، فقد عانت منه الويلات وكان لها النصيب الأكبر من البلاء، فقد انتشر فيها عن طريق الحروب الصليبية وأثناء تجارتهم مع الشرق، وكان بالنسبة لهم كالطاعون، وتسبّب في كثير من الأوبئة، وخَلّف وراءه الملايين من الموتى، وتسبب في وفيات بنسبة 10% سنويًا.

ينتقل فيروس الجدري بشكل أساسي من الإنسان إلى الإنسان عن طريق السعال أو رذاذ الأنف أو العطس، ليُسبِّب ارتفاعًا في درجات الحرارة والحمى والإحساس بالصداع والدوخة والتقيؤ وظهور بثور على السطح الخارجي للجلد في الجسد كله، بما في ذلك الفم واللسان، فيما يُعرف بالطفح الجلدي.

الصدفة ودورها في ثورة جينر العلمية

وُلد إدوارد جينر في مقاطعة جلوسترشير في لندن عام 1749، وفي سن الـ19 سمع إحدى العاملات في مجال الألبان تقول إنها لن تُصاب بمرض الجدري أبدًا، لأنها أصُيبت من قبل بجدري البقر.

في ذلك الوقت كان من الشائع في الأرياف أن العاملين في مجال الألبان لا يُصابون بالجدري الذي يصيب الإنسان، ولكن لم يكن هناك سببٌ معلومٌ لذلك. وفي سن الـ21، انتقل جينر إلى لندن ليدرس الطب والجراحة على يد الطبيب الشهير «جون هنتر» في مستشفى سانت جورج، واقترح على هنتر ما كان يعتقده الريفيون بخصوص العلاقة بين الجدري وجدري البقر، لكن هنتر لما يقتنع بذلك.

ضرع بقرة به بثور اللقاح وأذرع بشرية تظهر بثور الجدري وجدري البقر
ضرع بقرة به بثور اللقاح وأذرع بشرية تظهر بثور الجدري وجدري البقر

عاد جينر إلى مسقط رأسه عام 1773 ليمارس هناك الطب وما تعلّمه تحت يد هنتر. وفي عام 1775 قرّر جينر أن يدرس –بمفرده- العلاقة بين هذين المرضين (جدري الإنسان وجدري البقر) لعله يسهم في انتصار البشرية في معركتها ضد الجدري. وخلص إلى نتيجة مفادها أن جدري البقر لا يحمي من الجدري فحسب، بل يمكن أيضًا أن ينتقل من شخص إلى آخر كآلية معتمدة للحماية.

وهنا يأتي دور إلى راعية البقر التي قالت لجينر إنها لن تصاب بالجدري مرة أخرى لأنها أصيبت بجدري البقر في يدها، سارة نيلمز. ففي عام 1796، استخلص جينر من سارة- التي كانت مصابة بجدري البقر– مادة من بثور جدري البقر المنتشر على جلد سارة، وقام بحقنها لطفل عمره 8 سنوات يُدعى «جيمس فيبس» يعاني من الجدري في ذراعه.

عانى الطفل من أعراض جانبية تتمثل في الإصابة بالحمى، وبعد 9 أيام أصابه البرد وفقد شهيته تجاه الطعام، لكنه تعاف أخيرًا. وهنا أثبت جينر توقعاته بشأن تلك المادة المُستخلصة من بثور جدري البقر، لكن جينر قام بحقن ذلك الطفل مرة أخرى كتجربة تأكيدية، وبالفعل نجح الأمر.

الدكتور جينر يجري أول تطعيم له على طفل يُدعى جيمس فيبس
الدكتور جينر يجري أول تطعيم له على طفل يُدعى جيمس فيبس

قام جينر بعد ذلك بإجراء هذا الاختبار على 13 شخصًا آخر وكانت النتائج مبشرة. فقام جينر بكتابة ورقة علمية فيها خلاصة ما توصل إليه بخصوص تلك المادة، وقدّمها إلى الجمعية الملكية في لندن، لكنها رفضته. ثم سافر إلى لندن ليقوم بتوسيع تجاربه على مرضى جُدد عددهم 25 شخصًا، وأيضًا نجح الأمر مرة أخرى، لتوافق هذه المرة الجمعية الملكية على نشر أبحاثه. وفي تلك الورقة العلمية ظهر فيها لأول مرة مصطلح Variola Vaccine، وتعني الحقن بمادة مستخلصة من بثور جدري البقر.

انهال التكريم على جينر وانتشرت طريقته الجديدة في مقاومة الجدري في إنجلترا، ثم انتقلت إلى أوروبا، حتى أنه يُقال إن جينر توسط لدى نابليون في سجينين إنجليزيين عنده، فوافق نابليون على الفور وقال إنه لا يمكن رفض أي طلب لهذا الرجل.

تم تأسيس جمعية جينر الملكية للتطعيم عام 1803، وحصل جينر على الدكتوراه الفخرية من جامعة أوكسفورد عام 1813. وحاليًّا يُلقب جينر بأنه أبو علم المناعة.

ثم جاء العالم الشهير «لويس باستير» عام 1881، وقام بعزل البكتيريا العصوية المسببة لمرض الأنثراكس– الشهير بالجمرة الخبيثة– وزرعها في درجة حرارة عالية لإنتاج مادة تطعيم تُسبب هجمة ضعيفة من الأنثراكس لدى الحيوان المصاب وتُكسبه مناعة ضدها، واقترح باستير حينها أن يُسمى ذلك الإجراء باسم «Vaccination» والمشتقة من كلمة Variola Vaccine التي وضعها جينر. ومنذ ذلك الوقت فُتح بابُ جديد أمام العلماء لمواجهة أعتى أنواع الأمراض باستخدام التطعيم.

وفي عام 1959، وضعت منظمة الصحة العالمية WHO خطة للقضاء على الجدري حول العالم، لكن الخطة عانت من قلة المال واللقاحات والأطباء. إلا أن البرنامج تم تفعيله مرة أخرى بشكل مكثف عام 1967، وفي هذا الوقت كان الجدري قد انتهى وجوده في أوروبا وأمريكا الشمالية.

وبحلول عام 1971 تم القضاء على الجدري تمامًا في أمريكا الجنوبية، وانتهى وجوده في آسيا عام 1975، ثم أفريقيا أخيرًا عام 1977، وكانت آخر حالة مصابة بالجدري عام 1980، ومنذ ذلك الحين لم يعد هناك أي أثر يُذكر للجدري.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.