تستمد الدول الغربية قوتها وهيمنتها الاقتصادية والثقافية من روادها، هؤلاء الرواد الذين ساهموا جيلاً بعد جيل في نهضتها، فقد أضاف نشاط رواد أعمال مثل جوجل وفيسبوك وغيرهما مزيداً من الهيمنة الأمريكية في العصر الحالي، وهو نشاط متجذر في النظام الأمريكي منذ وثيقة الاستقلال، وهو جوهر الحلم الأمريكي. وقد اعتمدت نهضة اليابان في القرن التاسع عشر على رواد أعمال استغلوا إصلاحات الإمبراطور «ميجي». فرواد الأعمال ورواد الفكر والفن -في نظام يستوعب كل طاقاته البشرية باختلافاتها- هم وقود هذه الهيمنة ومصدر استمرارها.

هذا هو ما شهدته تجربة مصر في نشأة السينما بها، فكانت نتاج مجهودات تراكمت من رواد عبر الأجيال، تلك المجهودات اللامركزية التي قادت في النهاية إلى تطور أحد أكبر مصادر القوى الناعمة لمصر، فهي أحد الإنجازات التي بلا زعيم ملهم، ولا يستطيع أن ينسبها إليه ملكاً كان أو رئيساً.[1]

رواد مصر في النصف الأول من القرن العشرين

شهد المجتمع المصري –في الحضر منه- قبل يوليو 1952، ومنذ ثورة 1919، حيوية كبيرة، فكان العصر الذهبي للرواد المصريين الذين قادوا نهضتها في مجالات عديدة، ففي ظل عدم تمكن جهاز الدولة من تجميع القوة والسلطة داخله نتيجة انقسام السلطة والصراع بين ثلاث جهات: الاستعمار والقصر والأحزاب الوطنية، تحرك الرواد في ظل هامش من الحرية، وأُتيحت الفرصة لأصحاب الفكر والمبادرات. والجدير بالذكر أن استمرار هذا الصراع كان أحد أسباب تحرك يوليو 1952.

كان الرواد في الغالب من الطبقة الوسطى، حيث كان مولد هذه الطبقة في مصر منذ بدء إرسال محمد علي البعثات إلى أوروبا، بدأت هذه المجموعة صغيرة ثم توسعت بفعل خريجي المدارس التي أنشأها الرعيل الأول من خريجي البعثات، ثم تم تفجير الطاقات وحشد الهمم عند ثورة 1919.[2]

ويُعد محمد بيومي ومحمد كريم أهم رواد السينما المصرية، فقد سافرا لدراسة السينما في أوروبا، ثم قدما تجربتهما في مصر، فالأول كان له السبق والمبادرة في إدخال سينما مصرية وطنية متأثراً بثورة 1919، إلا أنه لم يكمل مشواره بعد تعثرات مادية جعلته في طي النسيان، والثاني كان له التأثير الأكبر لما سوف تصبح عليه السينما فيما بعد.

وبالإضافة لهؤلاء الرائدين، كانت الدفعة القوية للسينما قادمة من المسرح المزدهر في تلك الفترة، فلا يمكن التحدث عن بدايات السينما دون التحدث عن المسرح المصري، الذي كان الرافد الأساسي لمبدعي السينما المصرية في بداياتها.

في البدء كان المسرح المصري

ترجع أول إشارة لوجود مسرح في مصر إلى وقت الحملة الفرنسية، حيث مسرح الجمهورية والفنون الذي أنشئ للترفيه عن الجنود الفرنسيين ورعاياهم، إلا أنه هُدم خلال ثورة القاهرة الأولى، تلا ذلك وجود عدد من المسارح الخاصة المملوكة للرعايا الأجانب مثل مسرح زيزينيا ومسارح أنشأها الخديوي إسماعيل (والذي أبدى اهتمامه بهذا الفن وواظب على حضور العروض المختلفة)، فكان مسرح حديقة الأزبكية 1868، ثم تلاه دار الأوبرا الخديوية 1869، إلا أن العروض في كل تلك المسارح كانت لفرق أجنبية وبلغات أجنبية.[3]

ظلت مصر خالية من التمثيل العربي في المسارح حتى عام 1870، حين أقام «يعقوب صنوع» القادم من الشام أول مسرح في مصر عام 1870، وكان هو مؤلف الفرقة والمخرج والممثل الأول. لاقت الفرقة نجاحاً في مصر، حتى تم دعوة الفرقة لتقديم عروض في مسرح قصر عابدين، إلا أنه قدم عرضاً عن تعدد الزوجات أثار غضب الخديوي إسماعيل، ودأب يعقوب بعد ذلك على نقد الجاليات الأجنبية والخديوي حتى تم غلق مسرحه.

استمر الرواد من الشام في القدوم إلى مصر، فبعد المضايقات التي تعرضوا لها في بلادهم، وجدوا في مصر المأوى الذي يحتضن فنونهم، وبعد تجربة «يعقوب صنوع» كانت تجربة فرقة «سليم النقاش» ثم فرقة «القرداحي» التي انضم لها الشيخ سلامة حجازي، حيث أصبح المطرب والممثل الأول بها، وفرقة القباني التي انضم لها عبده الحامولي.[3]

الجدير بالذكر أنه دائماً ما كان يعد «يعقوب صنوع» هو الرائد الأول للمسرح العربي في مصر، إلا أن هناك تشكيكاً في صدق هذه الرواية التي يعد مصدرها الأول مذكرات يعقوب عن نفسه، فيعتبر هؤلاء المشككون أن سليم النقاش هو رائد المسرح العربي في مصر.

مع  بدايات القرن العشرين كان التجربة المسرحية في مرحلة النضج، فقد استمر ظهور الفرق بخروج الأعضاء من الفرق القديمة وتكوين فرق جديدة، حيث كانت فرقتا الشيخ سلامة وجورج أبيض الرافد الأساسي للفرق التي ظهرت بعدها، تنقل الأول في العديد من الفرق الشامية حتى أسس فرقته الخاصة، أما الثاني فأسس فرقته بعد أن درس المسرح بالخارج وعمل مع فرق أجنبية في مصر، وظهر من خلالهما فرقة الريحاني وفرقة علي الكسار وفرقة رمسيس (عزيز عيد) ويوسف وهبي، وغيرهم ممن ثبتوا الفن المسرحي في مصر وأخرجوه من دائرة الأجانب والطبقات العليا في المجتمع إلى الطبقة المتوسطة والدنيا بمناقشة قضاياهم بعيداً عن النصوص الأجنبية المعربة التي كانت تُستخدم في البدايات.[4]

ظهور السينما في مصر

بداية السينما المصرية كانت عبر مدينة الإسكندرية، فهي منذ أمد ملتقى حضارات شتى وثقافات مختلفة، حيث أجمع المؤرخون على أن العروض الأولى لشرائط السينما قد بدأت بمدينة الإسكندرية عن طريق بعض الأجانب الذين استقدموا هذه الشرائط، ففي إحدى قاعات بورصة طوسون تم تركيب آلة عرض للسينما فوتوغراف، وبحضور المتابعين يوم 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1896 ظهرت لأول مرة الصورة المتحركة، وقد أحدث هذا استقبالاً مدهشاً من الحضور لهذا الاختراع العجيب.

استقبلت بعدها مدينة الإسكندرية بعثة سينمائية قامت بتصوير عدداً من الشرائط لمناطق في الإسكندرية، ثم أعقبها بعثة أخرى قامت بالتركيز على عادات وتقاليد المصريين.

كانت البداية الحقيقية لتصوير سينمائي في مصر عندما أقدم كل من عزيز بندرلي ودوريس في الإسكندرية على صنع أول شريط سينمائي مصري، تم التصوير والتحميض والطبع في مصر، وكان التصوير لزيارة الباب العالي لمسجد سيدي أبو العباس عام 1907.

استمر الثنائي في تقديم مجموعة من الشرائط المتنوعة وتبعهم أجانب آخرون حتى أقدم ألفيزى أورفانيللى على أول محاولة لصنع فيلم روائي قصير، مستغلاً نجوم المسرح وقتها، فكان فيلم «مدام لوريتا» عام 1919، وفيه تم الاستعانة بفرقة فوزي الجزايرلي. ثم محاولة أخرى من بونفيللي استعان فيها بفرقة علي الكسار في فيلم «الخالة الأمريكانية».

بالعودة لذكر رائد السينما محمد بيومي الذي ترجع أهميته لا لأنه صنع شرائط إخبارية أولى مثل «عودة سعد زغلول من المنفى»، بل لأنه السينمائي الوطني الأصيل الذي انخرط في بداياته في أنشطة سياسية عبر الحزب الوطني، فقد قدَّم أول فيلم مصري روائي قصير متأثراً بثورة 1919، عن صديقين مصريين من فئات الشعب المطحون، أحدهما مسلم والآخر مسيحي يسعيان للعمل من أجل لقم العيش، كان الفيلم هو «برسوم يبحث عن وظيفة»، وقد أسند بطولته لزميله المسرحي بشارة وكيم عام 1923.[5]

الفيلم الروائي الطويل

ظهر أول فيلمين روائيين طويلين في مصر عام 1927، كان الأول لشابين فلسطينيين درسا السينما في الخارج وقدما إلى الإسكندرية حيث حيوية النشاط السينمائي، وقدما فيلم «قبلة في الصحراء»، كان الشابان هما إبراهيم وبدر لاما، وقد قاما بالكتابة والإخراج والتمثيل والتصوير في أستديو أورفانيللي.

إلا أن الفيلم الأكثر صدى كان الفيلم الآخر وهو فيلم «ليلى» لنجمة المسرح وقتها عزيزة أمير، كان الفيلم من مبادرة منها، حيث قامت بإنتاجه وتحملت تكاليف استئجار دور عرض لتعرض الفيلم. أقيمت حفلة كبيرة ليلة افتتاح العرض، دُعي إليها كثير من البارزين، منهم طلعت حرب وأحمد شوقي وغيرهم الذين شجعوا هذه التجربة ورأوا بها بداية لعهد جديد.

كانت أهم تجربة للسينما المصرية في مرحلتها الصامتة تجربة الرائد محمد كريم في فيلم «زينب»، فبعد عودته من أوروبا سعى إلى تحقيق حلمه بتقديم فيلم روائي طويل مأخوذ عن عمل أدبي، وقد وجد ضالته في إقناع صديق طفولته يوسف وهبي بإنتاج هذا الفيلم المأخوذ عن رواية للأديب والشاعر محمد حسين هيكل، استخدم فيه محمد كريم تقنيات حديثة لأول مرة في السينما، وحقق الفيلم نجاحاً هائلاً، وكان تأكيداً على نجاح هذه الصناعة الوليدة في مصر.

خرج الفيلم المصري عن صمته عام 1932 بريادة محمد كريم وفرقة رمسيس ليوسف وهبي في فيلم «أولاد الذوات»، فهو أول فيلم عربي ناطق. تبع الفيلم عدداً من الأفلام الناطقة الأخرى لرواد مثل عزيزة أمير وتوجو مزراحي وفاطمة رشدي وجورج أبيض، ويظهر محمد كريم مرة أخرى واضعاً أساس الفيلم الغنائي في مصر بفيلم «الوردة البيضاء»، حيث الشراكة الناجحة مع محمد عبد الوهاب التي استمرت لسنوات.

أستديو مصر

وصلنا إلى أهم مراحل تطور الفيلم المصري، وهي مرحلة استديو مصر عام 1935. قبل إنشائه أوفدت شركة مصر للتمثيل والسينما لمؤسسها طلعت حرب عدداً من الشبان لدراسة السينما في أوروبا، كما استعانت بعدد من الخبراء الأجانب للإشراف على إدارة العمل في الاستديو، فبعد أن كانت صناعة السينما تعتمد على مبادرات فردية أصبحت هناك شركة تملك استديو ومعامل للتحميض والطبع وتملك دار للعرض، وكان الفنانون موظفين يعملون بعقود كما هو النظام في كبرى شركات هووليود.

كان استديو مصر أيضًا بمثابة مدرسة لتخريج كوادر الفنانين لصناعة السينما الذين سوف يحملون شعلتها لعقود، فقد كان نقلة في الصناعة ثبَّت موقعها داخلياً بالقرب من واقعية حياة المصري العادي وقتها، وخارجياً حيث الجودة والريادة التي لم يسبق إليها كثير من بلدان العالم حينها.[6]

السينما تفرض نفسها كصناعة

تجاوزت صناعة السينما المصرية في تأثيرها حدود الدول من خلال تصدير إنتاجها عبر الدول العربية وإلى البلاد البعيدة مثل فنزويلا وهونج كونج والدنمارك وتركيا وإندونيسيا، كانت رؤوس الأموال جاهزة خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة حين بحث المستثمرون عن عائد سريع لأموالهم من خلال التوسع في الإنتاج، كانت تلك الفترة العصر الذهبي للصناعة حيث أصبح التردد على دور السينما أكثر وسيلة ترفيه شعبية وأصبحت تشكل جزءاً حيوياً في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، مما أدى إلى قول بعض المعاصرين بأن صناعة السينما أصبحت ثاني أهم صناعة في مصر بعد القطن.

كان الاعتراف من الدولة بالسينما كصناعة أمراً واقعاً، حيث تم إنشاء غرفة صناعة السينما عام 1947 وضمها لاتحاد الصناعات المصرية، إلا أن الهيئات الرسمية -خلال النصف الأول من القرن العشرين- لم تُظهر اهتماماً كبيراً بصناعة الفيلم، سواء كقطاع اقتصادي أو منتج ثقافي، كانت الاهتمامات فقط تُركز على الحفاظ على النظام العام والآداب العامة في المجتمع.

لعبت ثورة 23 يوليو/تموز 1952 دوراً مهماً ومحورياً في دعم صناعة السينما وتجديد دمائها، حيث تم إنشاء المعهد العالي للسينما عام 1959، وتم تعيين محمد كريم كأول عميد للمعهد.

من الصعب تصور أن المسئولين الرسميين في عهد عبد الناصر، والذين اعتبروا صناعة الأفلام مجالاً مناسباً لتدخل الدولة ودعمها والاستفادة منها في مشروعهم داخلياً وعربياً، فعلوا ذلك دون وجود تطورات مؤسسية سابقة لها، فتراث الماضي كان قوياً يتعلق بإنجازات وتجارب الجيل الأول من الرواد الذي توارث عبر الأجيال.[7]

المراجع
  1. Kozzo Yamamura, “A Re‐examination of Entrepreneurship in Meiji Japan”, The Economic History Review, Vol. 21, No. 1 (Apr., 1968), pp. 144-158.
  2. محمد ناصر قطبي، تاريخ مصر عبر العصور: ملحق رواد ورائدات مصر في النصف الأول من القرن العشرين، مجموعة دار الكتب، 2019.
  3. سيد علي إسماعيل، تاريخ المسرح في العالم العربي في القرن التاسع عشر، مؤسسة هنداوي، 2016.
  4. فؤاد رشيد، تاريخ المسرح العربي، وكالة الصحافة العربية، 2013.
  5. سامي حلمي، بدايات السينما المصرية: 1907-1939، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2013.
  6. سعد الدين توفيق، قصة السينما في مصر، دار الهلال، 1969.
  7. ترجمة عايدة الباجوري، رؤية جديدة لمصر: 1919-1952، المركز القومي للترجمة، 2013.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.