لعل المفارقة التاريخية التي واجهت أطروحات نهاية التاريخ، وقبلها مزاعم ارتباط الرأسمالية بذاتها بالديمقراطية، هى تراجع هذه الديمقراطية مع تعميق الرسملة والوصول بها لأقصى أشكالها نقاءً وتجريدًا، من خلال عملية الأمولة، أي تعميق الطابع المالي للرأسمالية، والوصول به لحالة عامة من غلبة وهيمنة رأس المال المالي على مُجمل عمليات إنتاج وتوزيع وتداول الناتج الاجتماعي، محليًا وعالميًا بدرجات متفاوتة.

وهو التراجع الذي نراه اليوم عبر ديناميات متنوعة ومتناقضة أحيانًا، فما بين تجبُّر لرأس المال على قوى العمل بشكل يحطم العدالة ويعمّم التسلّط السياسي والقهر الاجتماعي، وعولمة تحفّز الشعبويات كردود أفعال غريزية وحلول عشوائية للرأسماليات المحلية المأزومة، تجتمع الخيوط كلها لتتضافر على تقليص الديمقراطية الحقيقية وحقوق الشعوب في العيش بكرامة!

ولفهم مُحركات الديمقراطية والعدالة تاريخيًا، أي على المستوى الأعمق اجتماعيًا لها، يجب أن نعود إلى العلاقة الاجتماعية الأهم في المجتمع، وهى علاقة العمل بالملكية، أو ما أسميه بنمط الديمقراطية الاجتماعية أو التاريخية، فعلى كثرة أبعاد وتفاصيل الديمقراطية كمفهوم سياسي واجتماعي، فإنها تتمحور في التحليل الأخير حول توزيع الناتج الاجتماعي بين العمل والملكية، ومن هنا فنقطة البدء في فهمها هي نظام الإنتاج ونمط نموه.

ومن هذا المنظور، لا عجب مُطلقًا في تراجع الديمقراطية عالميًا بتصاعد الهيمنة المالية أو الأمولة كما سمّاها سمير أمين وناعوم تشوميسكي وغيره، وهو الموقف الذي دعمته كذلك دراسات إمبريقية على الجبهة الأخرى للاقتصاديين والباحثين التقليديين الداعمين للفكر الرأسمالي، أو غير النقديين بشكل عام، فهذا التحوّل في ديناميات نظام الإنتاج وطريقة تجديده الاجتماعي، أخلَّ بتوازنات القوى الموروثة عن الحرب العالمية الثانية، وساهم ضمن عوامل أخرى في إعادة توزيع الناتج لصالح رأس المال على حساب العمل؛ وهكذا عزَّز التحولان معًا – اختلال توازن القوى وتوزيع الناتج – تراجع الديمقراطية الاجتماعية؛ ومن ثم الديمقراطية السياسية كتعبير عنهم وتجسيد لهم مجتمعين!

فأولاً: تمثّل الأمولة بذاتها وبالتعريف عملية تركّز وتمركّز احتكاري لرأس المال، يأخذ شكل تغليب طابعه المالي على الإنتاجي والمجرد على الملموس من جهة؛ ومن ثم زيادة مرونة حركته عبر القطاعات (من خلال تعميم عمل الأسواق المالية) والاقتصادات (من خلال عولمة أسواق السلع ورأس المال بعامة) من جهة أخرى؛ ما يزيد عبر الحركتين – تعميق الاحتكارية وتوسيع إمكانات الحركة الرأسمالية – وبالتضافر بينهما، إعادة هيكلة أسواق رأس المال لصالح العرض على حساب الطلب، أو البائعين على حساب المشترين؛ ما يعني زيادة سلطة رأس المال النقدي (المالي والمصرفي) على المادي (الإنتاجي)؛ ما يخرج أولاً قدرًا مبدئيًا أكبر من الناتج وفائضه من نطاق التوزيع بين العمال والرأسماليين، إلى نطاق التوزيع بين الرأسماليين، ويزيد ثانيًا قوة رأس المال في مجموعه في مواجهة العمل؛ بتعميم السيطرة على عرضه وزيادة مرونة ذلك العرض، أي نقل قدر أكبر من الهيمنة الاجتماعية على القرار الإنتاجي إلى أيدي رأس المال الاحتكاري، وخفض قدرة توازنات السوق بين المُستهلكين والمُنتجين على التأثير عليه.

ثانيًا: لعبت الأمولة دورًا هامًا في تعميق عملية عولمة رأس المال، التي أدت بالشراكة مع الدولة، التي كبحت بدورها حركة العمل بين حدودها القومية، إلى تغيير هياكل أسواق العمل محليًا وعالميًا؛ بشكل وسّع عرض العمل محليًا وعالميًا؛ فانخفضت أجوره وضعفت قدرته التفاوضية عمومًا؛ فانخفض نصيبه في الناتج وضعفت قدرته السياسية سوقيًا ومؤسسيًا.

ثالثًا: أضعفت تلك الأمولة الدور المالي والنقدي للدولة؛ بتسهيلها حركة رءوس الأموال وإضعاف قبضة الدولة عليها؛ ما قلّص فاعلية ونطاقات عمل السياسات النقدية (القوة الشرائية وسعر الفائدة محليًا وسعر الصرف خارجيًا) والمالية (مصادر الإيرادات ونوعية النفقات) والاستثمارية (حركة وتخصيص رءوس الأموال)، فكانت «الثلاثية المُستحيلة» أحد تجلّياتها (استحالة امتلاك الدولة سياسة نقدية مستقلة وسعر صرف ثابت مع حرية حركة رأس المال)؛ وهو ما أخرج كثيرًا من مساحات التأثير الاقتصادي والاجتماعي من نطاق الديمقراطية السياسية أساسًا؛ فغدت عصية «تقنيًا» على تأثير الدولة، حتى لو امتلكت القوى الشعبية وأحزاب اليسار تلك الدولة، ناهيك عن مجرد امتلاكها الحكومة (والفارق بينهما شاسع كما نعلم)، وما مثال حزب سيريزا اليوناني عنا ببعيد!

رابعًا: عملت الأمولة كقناة نقل لفوائض رءوس الأموال إلى قطاعات الخدمات النامية، ضمن عملية تورّم الخدماتية في النظام الرأسمالي عبر النصف قرن الأخير، تلك الخدماتية التي لعبت دورًا مزدوجًا في إضعاف العمل اجتماعيًا وسياسيًا: أولاً كميًا من جهة، بتعويض نقص مساهمة العمالة الإنتاجية في قاعدة الطلب، دونما حاجة لتوظيف إنتاجي بذات الوتيرة أو خفض لمعدلات استغلال العمالة (ما يضمن الحفاظ على حصة أرباح أعلى من الناتج؛ خصوصًا مع طبيعة توظيف قطاعات الخدمات الأقل كميًا ونوعيًا في غالبه من توظيف قطاعات السلع)؛ ما يضعف بمجموعه الطلب الكلي على العمل، وثانيًا كيفيًا من جهة أخرى، بطبيعة توزيع قوى العمل المُشتت بهذه القطاعات الخدمية؛ الذي يجعلها عاجزة عن تنظيم نفسها؛ ومن ثم عاجزة عن تكوين قوة تفاوضية وفعل سياسي مؤثر.

هكذا بالمُجمل، وكما هو واضح، تترابط جميع هذه التحولات/العمليات في الحقيقة، لتصب أساسًا في تحوّل موازين القوى لصالح قوة رأس المال على حساب قوة العمل بعامة، سواءً بتقليص قدرات الدولة الاقتصادية في مواجهة رأس المال، مقابل تعظيم قدراتها السياسية في مواجهة العمل، أو بتوسيع أسواق العمل المُجزأة أمام رأس المال؛ ومن ثم زيادة عرضه الكلي وإضعاف قوته التفاوضية، أو بنمو قطاعات الخدمات ذات الطلب المحدود والمُشتت والمُنخفض نوعيًا على قوى العمل؛ ومن ثم خفض الطلب عليه؛ فإضعاف قيمته السوقية وقوته التفاوضية مع تفتيته تنظيميًا، أو بزيادة التركّز والاحتكارية بالتكامل والأمولة؛ وبالتالي تركيز القرار في قبضة حلقة أضيق من الطبقة الرأسمالية العالمية؛ بما يعظّم قوة رأس المال في مواجهة العمل، المُفتت قوميًا والمُقيد محليًا، على المستوى العالمي عمومًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.