يُحكى أنه في عصر الآلهة خرج بعض الساعين إلى المعرفة في رحلة بحثًا عن أحد كبار الحكماء لينهلوا من حكمته، ولكن بعد أن وجدوا أنفسهم أمام أبواب مدينته هالهم أنها في حراسة كائن أسطوري ضخم، والذي أخبرهم أنه سيتركهم يعبرون فقط إذا ما استطاعوا الإجابة على سؤاله.

وكان السؤال عبارة عن معضلة مضمونها: ماذا ستفعل إذا ما تعرض (ابنك وابنتك) لخطر ما في نفس الوقت، أيهما ستنقِذه وأيهما ستتركه؟

ثم أخبرهم أن أمامهم 5 ثوان، وبدأ في العد إلى أن انتهى دون أن يحرك اثنان منهم ساكنًا فيما كان الثالث كان قد ألقى بـِ إجابته بعد أول ثانية والتي على إثرها كان قد سمح له الكائن الأسطوري بالمرور من أحد الأبواب؛ وفي الوقت الذي توقع فيه هذا الكائن أن الاثنين سيرددان نفس الإجابة التي سمحت لصديقهم بالعبور إلا أنهم ظلوا صامتين، أحدهم متردد شاعر بالإحباط والآخر واثق مبتسم حتى انتهى العد، فـ انهار المحبط ولكن صديقه الواثق أخبره بألا يفسِد إجابتهما الصحيحة، فلم يفهمْ المتردد كيف.

فـ شرح له الواثق أن بعض الأسئلة تُطرح ليس من أجل الإجابة وإنما إيقاظًا للتأمل وغرس بذرة الحكمة وإعدادًا للفهم والوصول إلى الوعي جرّاء التفكر، فأحيانًا يكون الصمت هو الإجابة المناسبة حتى تستطيع أن تدرك الغاية من السؤال؛ ولحظتها فقط أشار لهم الكائن الأسطوري إلى الباب الصحيح وأعلمهم أنه كان قد أرشد صديقهم إلى أحد الأبواب الخاطِئة لأنه ما زال أمامه الكثير حتى يفهم.

عن مديح الصمت في الأزمات (ما بين الغائية والغوغائية)

في منطق الفلاسفة نرى أن الأزمات ما هي إلا أسئلة كبرى تطرحها الطبيعة على بني البشر؛ ولما كانت الأسئلة تنقسم إلى نوعين أحدهما انتظارًا للإجابة والآخر دفعًا للتأمل، أصبح من الواجب معرفة الغرض من السؤال لنعلم أي الطريقين سنسلك.

استيقظت البشرية من بضعة شهور على فيروس تحول مع الوقت إلى وباء ثم إلى جائحة، ليكون أكبر سؤال تطرحه الطبيعة على البشر في العصر الحديث وهو (COVID-19)، وبالرغم من اتخاذ الحكومات خطواتها الإلزامية بفرض الحجر الصحي والعزل الاجتماعي والشروع في البحث العلمي لإيجاد علاج للمرض سالكة بذلك الطريق الأول وهو محاولة الإجابة فعليًا على السؤال، إلا أن البشرية ربما ما زالت متجاهلة الطريق الآخر ومتناسية أن المعضِلة الكبرى أحيانًا لا تكون في الأسئلة، بل تكمن في معرفة أنها تستلزِم الصمت، ولكن ما جدوى الصمت؟ ولماذا قد تطرح الطبيعة أسئلة؟

يرى الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانط» أن الإنسان هو وسيلة من الوسائل لحفظ الغائية في آلية عمل الطبيعة، بمعنى أن هناك خطة كونية لها غاية، والبشر هم أحد أدوات الطبيعة لتحقيق تلك الغاية، وبوصفنا الكائن الوحيد الذي يمتلك عقلاً على الأرض يجب علينا أن نسْعى للوعي وأن نمتلك الفهم والإدراك والثقافة لتحقيق غاية الطبيعة الأسْمى، والتي حددها الفيلسوف كانط حين قال:

ربما تكون الغاية الأولى للطبيعة من حولنا هي السعادة، والغاية الثانية هي ثقافة الإنسان، ولكنها ليست تلك السعادة التي يختصرها على شهواته ورغباته لأن تلك متقلبة ومتغيرة. (1)

ووفقًا لما يرى كانط، فلن تستطيع البراعة والثقافة أن تتطور بشكل واسع في الجنس البشري إلا عن طريق تعرضهم للأزمات، لذلك تلجأ الطبيعة أحيانًا إلى تضخيم النكبات كـ الطاعون أو المجاعات أو مخاطر الطوفان، ليكون كل ذلك بمثابة مسعى خفي مقصود بحكمة من كيان أعلى، يبدأ وينتهي كما جاء دون تدخل بشري، بغائية أن تكون الأزمات دافعًا قويًا لتطوير وتهذيب جميع الميول والمواهب الإنسانية، التي يمكن أن تستفيد مِنها الثقافة البشرية.

ورغم هذا لا نستطيع أن ننكِر خطورة الشر الذي سينهمر علينا، لكنه في المجمل سيكون بمثابة تصفية للوصول إلى تطوير البشرية وجعلها كائنات أفضل قادرة على أن تغير من فلسفتها وقت الأزمات، وتدرِك أنه عِندما يحيد الإنسان عن الطريق تلجأ الطبيعة إلى طرقها لإعادته إلى المسار، وتذكيره بـِ الغائية، لعله يعود ويلتزم بها.

وربما كان أكبر مثال دلّل على الخطة الغائية للطبيعة هو ما حدث مع «إسحاق نيوتن»، والذي كان في عام 1664م -كما قال- يفكِر في المادة والمكان والوقت والحركة والنظام الكوني والضوء والألوان والرؤية، إلا أنه كان يقضي أغلب وقته في دراسته في «كامبريدج» ثم جاء عام 1665م وهو عام انتشار الطاعون مما استلزم الحجر الصحي والعزل الاجتماعي، فاستغل نيوتن ذلك ليعمل على أفكاره، فأخرج للبشرية رؤيته بشأن قوانين القوة والجاذبية، فساعد بذلك في بذر بذور «التنوير» في النهضة الأوروبية، ووصف نيوتن في مذكراته فترة العزل تلك بأنها الفترة الأكثر إنتاجية لأفكاره الإبداعية.

بالتأكيد ليس علينا جميعًا أن نكون نيوتن، ولكن علينا على الأقل -كما ترى الطبيعة- ألا نكون كـ الغوغائية، كل ما يهمنا يتمثل في التنظير للظهور بأننا نعرِف ما لا يعرفه الجميع؛ علينا ألا نتعامل مع الوضع معاملة التريند الواجب المشاركة فيه بالآراء، التي في الغالب إما أنها تحبط وتُخيِف السواد الأعظم من الناس أو أنها تتعدى على الآخرين بوصمهم على أنهم سبب البلاء بعاداتهم الغذائية.

علينا أن نكف عن السذاجة في التناول وأن نكف عن الثرثرة ونستغل مساحة الصمت والهِدوء للتفكير في ذواتنا وما حولها، والسْعي لفِهم المتغيرات حتى تتغير فلسفتنا وننضج ويزداد وعينا وندرِك الرسالة، وحينها ستكون الأزمة عابِرة لأننا حققنا غائية الطبيعة، وإلا سنبقى سُذجًا ساخرين فـ نظل مُكدَرين ونزيد الأزمة بدلاً من وعينا، فتُعاقبنا الطبيعة بزيادة (تأثير نظرية الفراشة).

وهذا ما عبر عنه اختصارًا الروائي الصيني وأستاذ الثقافة في جامعة هونج كونج «يان ليانكه» في جزء من مضمون محاضرِته يوم 21 فبراير/شباط 2020، حين قال:

آمل بعد انتهاء هذه الأزمة ألا نظل فارغين ومجوفين… لا نتساءل ولا نسْعى إلى الفِهمْ… وإلا سنكون في التاريخ كـ مجموعة من الأساطير الخيالية الضائعة.

لو أن بيننا ماركوس أوريليوس والرواقيين

قبل قرون من آراء «إيمانويل كانط»، كان يعتقد الفلاسفة الرواقيون في اليونان القديمة أن هناك أشياء تفرضها الطبيعة، خارجة عن سيطرتنا، وبالتالي هناك العديد من الأشياء التي يمكن أن تصيبنا وتجعل حياتنا صعبة، كـ المرض والفقر والموت وغيرها من المآسي التي تصيب البشر عادةً، لذلك إذا قررت «قوة الله الفاعلة» أن مرضًا مريعًا يجب أن يحِل بنا، حينها لا يمكننا فعل الكثير إلا انتظار أن تمر الأزمة، لأنها في النهاية ليست شرًا حتى وإن بدت كذلك في الظاهر، حيث الشر هنا جزئي فقط وليس كليًا، لأنه يكون مجرد حدث ضمن سلسلة حوادث الزمان، والتي تهدف إلى كمال المجموع، بمعنى أن وجود بعض الشرور في الأحداث الزمنية هو شرط لحدوث الخير في العموم، فـ الكون كـ المسرحية إذا أخذت بعض فقراتها على حدة ستبدو سخيفة بلا معنى، في حين أنها ذات أهمية بالغة في المجمل لتسلسل الأحداث.

لذلك لو كان بيننا الملك الفيلسوف الرواقي «ماركوس أوريليوس» لكانت الأولوية هي تغيير النظرة للأحداث بين العامة، ولكانت أشهر جمل الفلسفة الرواقية هي ما تسود بين الناس، والتي كانت تتردد على ألسنتهم دائمًا:

ليست الأشياء هي ما يُكرِب الناس بل فكرتهم ونظرتهم للأشياء. (2)

وكانوا موقنين بذلك تمام اليقين، والحقيقة أننا إذا أمعنا التفكير سندرِك أن الفلسفة الرواقية في مضمونها هي أكثر ما يُناسِب الوضع المتأزم الحالي، حيث إن مضمونها قائم على أن لكل شيء علة غائية على الرغم من أنها قد تكون خبيئة عنا، مما قد يجعلنا نعلق أحكامنا على الموجودات، ولكن تظل هناك علة رئيسية وإن لم نعرفها الآن فـ سنعرفها مستقبلاً.

ورغم أن الخلط بين العلم والفلسفة كان شائعًا في المدارس الفلسفية القديمة، إلا أن الرواقية ساعدت بشكل كبير في محاولة إزالة الخلط والربط بينهم بفلسفتها، حيث كانت ترى أن «قانون اللوجوس يسري في الكون متفاعلاً مع كل أجزائه ومستخدمًا الأسباب الصغيرة كـ الفيروسات مثلاً في تفاعل دينامي لحدوث أحداث كبيرة كـ الأوبئة، مما يشير إلى أن كل حركة أو حدث في الكون وراءهم حكمة عالية وليست مجرد مصادفة». ففكرة النظر إلى حدث على أنه مصادفة أو علة عارضة نتجت عن تصرف عابر كما حدث في (ووهان)؛ ستكون نظرة مرادفة للجهل الإنساني بحقيقة وغائية الطبيعة والوجود. (3)

وكان هذا الرأي في الفلسفة الرواقية هو استباق لما قاله الفيلسوف الهولندي «باروخ سبينوزا» في كتابه «علم الأخلاق»، حين قال موحدًا بين معنى الوجود ومعنى الضرورة التي حلت في فلسفته محل الغائية:

لقد بيّنت بوضوح أشد من وضوح الشمس، أنه لا يوجد شيء قد يسمى «عرضيًا»، فكل شيء يحدث هو «ضروري» أي له «غاية» كبرى، والقول عكس ذلك إنما هو نابع من زاوية نظرتنا للأمر التي تعبر عن عدم كمال فهمنا. (4)

لذلك فـكما أننا بحاجة إلى السير في الطريق الأول، الذي يمثِل الإجابة الفعلية، وهو الطريق الذي تسلكه المؤسسات والحكومات سعيًا للأمصال واللقاحات، على البشرية أيضًا ككل في الوقت الحالي أن تسير في الطريق الآخر، لأننا في أشد الاحتياج إلى فهم الغائية والفلسفة الرواقية واكتساب الوعي عن طريق الصمت والتأمل والسعي إلى الثقافة الشخصية، لأن مهمتهم الرئيسية هي الارتفاع ببصائرِ البشر ووهبهم شيئًا من الرؤية الإلهية بدلاً من الغوغائية.

فـ ليس عليك أن تفهم المِحنة بمعزلٍ أو تفهم البلاء على حِدة، بل يتعين أن تضعه في المخطّط الكلي للأشياء، علينا أن نجعل معدل نضجنا العقلي والروحاني موازيًا لمعدل نضجنا المادي والعلمي. صحيح أن ذلك قد لا يغيِّر الأحداث مباشرة، ولكنه سينتِج لنا عقل مبدع آخر كـ «نيوتن»، أو يُنتِج ويقدِم لنا فهمًا ووعيًا للعقل الجمعي البشري تعود بعده أحداث الحياة مفهومة، وهذا ما ترغب به الطبيعة أو بمعنى آخر «قوة الله الفاعلة».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. إيمانويل كانط، “نقد ملكة الحكم”، ترجمة: سعيد الغانمي، الطبعة الأولي، بيروت، منشورات الجمل ومشروع كلمة للترجمة، 2009، ص ص 370-371.
  2. عثمان أمين، “الفلسفة الرواقية”، الطبعة الثالثة، القاهرة، المكتبة الأنجلو المصرية، 1971، ص 201.
  3. مصطفي لبيب، “في فلسفة الطبيعة عند الرواقيين”، الطبعة الأولي، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1990، ص ص 28-29.
  4. باروخ سبينوزا، “علم الأخلاق”، ترجمة: جلال الدين سعيد، الطبعة الأولي، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص ص 67-68.