تعتبر الصيرورة من أكثر الاهتمامات التي تبعث في نفس المؤرخين حماسة اكتشاف الأسرار في تاريخ الفلسفة الغربية، والصيرورة في التأريخ الفلسفي تعنى بتلك العوامل الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية التي تتسبب بالانتقال من إطار معين في الفكر إلى آخر، وعليه، فإن مؤرخي الفلسفة يقومون بدراسة هذا التغير وما يتبعه من تحولات جذرية في تصور الإنسان للوجود والعقل والمعرفة، لأجل تشريحه وفهم مسار تطوره وغاياته.

ويَعتبر المؤرخون أن القرن الثامن عشر أكثر القرون التي تسبّبت بتحول في النظر، فالفكر الغربي شهد عملية قلب ثورية، لأن قبل هذا القرن كانت الفلسفة الغربية تمشي على خط مستقر في المباحث، تبدأ من مبحث الوجود ثم تنتقل إلى المعرفة فالأخلاق، إلا أن القرن الثامن عشر قَلَب هذا الترتيب ليجعل البدء في مبحث المعرفة أولاً ثم الوجود، ولو قرأنا كتب تاريخ الفلسفة الغربية سنلحظ اسماً مشتركاً يرتبط بهذه العملية، وهو موضوع المقالة، الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804م).

الثلاثية النقدية

يتكون مشروع إيمانويل كانط من ثلاثية فلسفية نقدية تمثّل عمدة مشروعه الفلسفي وتعبر عن نسق مدرسته بالكامل، الأول (نقد العقل الخالص) وهو في نظرية المعرفة، بينما الثاني (نقد العقل العملي) وهو في الأخلاق، بينما الكتاب الثالث (نقد ملكة الحكم) وهو في علم الجمال، وقد انتهى كانط من هذه الكتب بعد أن ناهز عمره الستين، ونظراً لطبيعة المقالة المعرفية، فسنتناول بالأخص كتابه الأول الذي قيل عنه ولا يزال، إنه وضع نقلة معرفية هائلة في تاريخ الفكر الغربي.

سنظلم كانط إن سايرنا بعض المؤرخين في قولهم إنه أراد التوفيق بين العقلانية والتجريبية، أو إنه مزيج من كليهما [1]، أي بين مشروع رينيه ديكارت (1596-1650م) وجون لوك (1632-1704م)، فإن كانط أنتج نسقاً فلسفياً مختلفاً، تمحور حول إيجاد حل للصدام الذي حصل بين المدرستين السابقتين، ولم يحاول قط التوفيق بينهما مثلما يُشاع في كثير من المؤلفات البحثية الفلسفية، وشتان بين الاثنين، فإن مشروعه لم ينشأ على الربط، وإنما تفكيك العقل الفلسفي برمته، ومن ثَمَّ إعادة تركيب مفهوم التعقل والإدراك من خلال صياغة جديدة لنظرية المعرفة. [2]

المشروع المعرفي الكانطي

يقف كانط في أولى صفحات كتاب «نقد العقل الخالص» ناقداً الفلسفة ككل، ومنبهراً من الفيزياء، ليتساءل: كيف أنتج العقل الفيزيائي كل هذه المعارف حول الطبيعة وتقدم بهذه السرعة الكبيرة؟ ولماذا لم يستطع العقل الفلسفي أن يتقدم على الرغم من أنه أثمن من العقل الطبيعي؟ [3]

ثم يطرح سؤالاً آخر، فيقول: لماذا لم تدرس الفلسفة العقل فاستعملته؟ وهو هنا يعني أن الفلسفة استعملت أداة دون التفكير فيها، وهذا بحسب كانط خطأ الفلسفة الذي كان من المفترض أن تنتبه إليه، أن تعرف حدود وإمكانات تلك الأداة.

وقد عارض كانط الاتجاه التجريبي القائل إن العقل لوح فارغ كما أشار إليه جون لوك، كما عارض التيار العقلاني المتمثل في ديكارت القائل إن العقل فيه أفكار فطرية، وهو هنا يفصل نفسه عن التجريبية والعقلانية معاً، فيُفصح عن مذهبه قائلاً إن العقل يحتوي على مقولات ترنسندنتالية، أي العقل فيه وحدات تعقّلية قبلية، رافضاً القول إن العقل خاوٍ من أي فكرة، وهو خطأ جون لوك بحسب كانط، كما يخطّئ القول إن العقل مجهّز بالأفكار، الذي هو قول رينيه ديكارت، بينما يقول إن العقل يحمل مقولة قبلية بها ينتج الفكرة، ولا يمكن لإدراك الإنسان أن يحصل دون هذه المقولات القبلية.

ويعتقد كانط أن هذه المقولات القبلية تضع الموضوعات الطبيعية التي نراها عبر الحس في قوالب إدراكية معينة، فنراها كما تظهر لنا، أي إنها ظواهر تتجلى للعقل، ووراء هذا التجلي سنجد «الشيء في ذاته» بحسب تعبيره [4]، إذن فالشيء في ذاته يمثل الحقيقة التي تتشكل بها الأشياء كما هي، ولكن بسبب حواسنا وتركيب عقولنا فإننا نعجز عن إدراك هذه الحقيقة، وتسهيلاً لفهم فكرته بإمكاننا الاستعانة بالمثال الذي طرحه المنطقي الإنجليزي برتراند راسل (1872-1970م) في موسوعته المسماة «تاريخ الفلسفة الغربية» [5]، عندما شبّه المبادئ القبلية التي تحدث عنها كانط بالنظّارات التي يرتديها العقل قسراً فيرى الإنسان الأشياء بعدسة هذه النظارة عوضاً أن يراها بحقيقتها.

ومن هنا يمكننا أن نلخص استنتاجات كانط، التي تأتي في سياق التمييز بين عنصرين رئيسيين، أولهما ما يأتي من الأشياء وهو ما يسميه (مادة المعرفة)، والآخر من العقل وهو السابق عن التجربة ويمثل (صورة المعرفة)، أما العقل فهو عبارة عن القواعد القبلية التي تتمثل في الزمان والمكان، والمقولات الاثنا عشر للذهن التي تترتب تحت المقولات الأربع التي هي الكم والكيف والإضافة والجهة. [6]

وهذا يعني أن الزمان والمكان غير موجودين بالنسبة لكانط ولكنهما قوالب تنظيمية للعقل البشري في ظل وجوده المتحرك، أي إن حركة الأرض وتوالي الأيام متحركات متوالية على الإنسان تحتاج إلى ما ينظمها، فيحتاج إلى إدخال حركة الوجود لمفهوم الصيرورة الزمانية، وعليه ينتج ما نسميه اليوم بالساعات والأيام والأسابيع والسنوات، التي تنظم حركة وجودنا، والأمر مثله بالنسبة للاعتباريات الأخرى، التي لو أراد الإنسان القبض عليها والتحكم بها في صيرورة الوجود، فلا بد من النظر إليها بالمقولات.

ووفقاً للتقسيم السابق، لا يمكن للمعرفة البشرية أن تكون مطلقة وتتعرف على الأشياء بحقائقها، لأن الإنسان لا يملك سبيلاً لمعرفة الأشياء في ذاتها، وإنما جل ما يدركه هو ظاهرها، أي الأشياء كما تظهر لعقولنا من خلال المقولات الكانطية، ومآل هذا يفضي إلى أن مسائل الميتافيزيقيا أمور لا يمكن للعقل أن يتحدث فيه، وإن تحدث فيه سيقع في التناقض المنطقي، لأن عالم الغيب بحسب كانط لا يقع موضوعاً للعلم، وما يُطرح في هذا المدار ليس من العلم ولا يمكن للعقل أن يخطو خطوة واحدة فيه، وعليه، فكل محاولة لإقامة معرفة ميتافيزيقية على أساس فلسفي هي محاولة فاشلة.

الارتحال إلى عالم ما بعد الحداثة

لقد كان العقل البشري محل وثوق منذ عصور اليونان، باستثناء تشكيك السوفسطائية، ولم يبدأ نقد نتائجه إلا مع جون لوك ثم الشكوكي ديفيد هيوم (1711-1776م)، حتى أتى كانط فحوّل النسق، من نسق يتحدث عن غيره إلى نسق يستوجب ضرورة الحديث عن نفسه، فانتهى إلى تأسيس فلسفة أكثر توسعاً في تناول العقل ومكوناته التي تنظم عملية التفكر.

لم يدرك كانط ما سيؤول إليه مشروعه، ولم يرد أن يأخذ المسار الذي اتخذه، فقد أسهم من خلال تقسيمه للشيء في ذاته والشيء كما يبدو لنا بتحول غريب وكارثي في تاريخ الفكر الأوروبي، فعلماء اللاهوت كانوا يستخدمون أدلة كانط للرد على التيارات الإلحادية، كما أن التيارات الإلحادية كانت تستخدم أدلة كانط لإثبات عدم قدرة العقل على الخوض في الميتافيزيقيا، وبعد مشروع «نقد العقل الخالص» شيع أن أدلة الإيمان صارت تتكافأ مع أدلة الإلحاد، وعلت الأصوات التي صارت تنادي باللاأدرية والتوقف في الحكم، وبدأت الثقة في العقل تقل تدريجياً، إلى أن صار محل الاهتمام يدور حول فكرة البحث عن بديل.

تصاعدت حدة الاتجاهات التي نقدت العقل بعد كانط استكمالًا لمشروعه إلى درجة التصريح بتحطيمه والاعتقاد الفعلي بعجزه عن نيل الحقيقة والقدرة على الفعل، وظهر ذلك في القراءات المتعددة للعقل، فنشأت الكانطية الماركسية التي أضفت مفهوم الترنسندنتال على المادية التاريخية على يد ماكس أدلر (1873-1930م)، والكانطية البنيوية على يد كلود ليفي ستروس (1908-2009م)، وصولًا إلى فريدريش نيتشه (1844-1900م) الذي قال إن الوقت قد جاء لتحطيم العقل. [7]

وهنا نلاحظ المسار الغريب الذي خطّته فلسفة كانط، لتصنع كل هذه المتواليات الخطيرة من المذاهب التي أسقط العقل من عرشه، والسؤال هنا: ماذا لو علم كانط أن فلسفته ستقود العقل الأوروبي إلى بؤس نيتشه، ويأس هايدغر (1889-1976م)، بل وموت الإنسان عند فوكو (1926-1986م)، فهل سيقول ما قال؟

وقفة نقدية

ولا بد من الوقوف على نظرية كانط النقدية وما يترتب عليه من اتجاهات إلحادية خطيرة ذاع صيتها وعظم شأنها في الأوساط العربية الإسلامية إلى حد مبالغ، رغم أن إشكالاته على نظرية المعرفة أُشبعت بحثاً ودراسةً وتحليلاً في التراث الكلامي والحكمي، ورُدّ عليها حتى قبل ظهوره، ولكي لا نغوص في عمق هذه الردود، دعونا نتطرق لبعض النقاط النقدية للأفكار التي جاء بها بصورة عامة تتناسب مع طبيعة المقالة. وترتكز هذه النقودات في نقطتين رئيسيتين:

1. مسألة الشيء في ذاته والشيء كما يبدو لنا:

لقد فرّق كانط بين الشيء في ذاته والشيء كما يبدو لنا، وعليه فلا يمكن للأشياء الخارجية أن ترد إحساسنا دون تغير، والسؤال الذي يضع التفسير الكانطي في مأزق تفسيري: هل ذلك القانون المفروض يشمل نفسه أم لا؟

إننا في هذه النظرية نريد أن نقرر حقيقة الواقع الخارجي وكونه لا يدرَك كما هو في ذاته، وحينها فنظرية كانط لا تعدو كونها محكومة لقانون الشيء في ذاته والشيء كما يبدو لنا، وعندئذ لن يكون لنظريته أي واقعية، نظراً للوقوع في النسبية، بمعنى أن كانط كان يرى استحالة أن يخوض العقل في الحجرات الداخلية للأشياء، لكنه في الوقت ذاته دخل حجرات العقل، بل وكشف متاهاته الداخلية، وهذا دحض ذاتي لمشروع نقد العقل.

2. قانون السببية:

لقد استند كانط في قوله بوجود الشيء في ذاته خلف الشيء كما يبدو لنا إلى قانون السببية، بتصريحه في نقد العقل الخاص [8]، على الرغم من أن كانط نفسه يقول إن السببية قانون لا يصدق إلا في نطاق التجربة ذاتها، والاستناد إليه لا يمكّن الإنسان من إدراك الواقع كما هو، والسؤال الذي يجب أن يطرح: كيف شرّع كانط لنفسه أن يتخذ هذا دليلًا للقول بوجود الشيء في ذاته خارج ذواتنا وكون الشيء في ذاته علة لإحساساتنا؟ إذ من الأجدر أن ينكر كل وجود خارج تصورات الإنسان الذاتية.

خاتمة

إن البحث في مشروع كانط النقدي وسبر أغواره يلزم من الباحثين الالتفات إلى ثلاثة محاور رئيسية:

  1. تاريخي: يتعلق بالسياق الفلسفي قبل كانط، ودراسة المشتركات مع نقد ديفيد هيوم للعقل والميتافيزيقيا، فهو الذي قال عنه كانط إنه أنقذه من سباته الدوغمائي.
  2. منهجي: يرتبط بالأسس الثلاثة لمشروعه المعرفي، وهي الميتافيزيقيا والرياضيات والطبيعيات.
  3. طبيعي: فأفكاره كانت مرتبطة بالثورة العلمية في عصره، التي قامت على يد نيكولاس كوبرينكس (1473-1543م) وإسحاق نيوتن (1643-1727م).

أما عدم ذكر تلك المحاور، فقد جاء مراعاة للإيجاز في المقالة، بما يتناسب مع موضوعها الذي يتمحور بالأصل حول فلسفة كانط وكيف أسّست جسراً لم يرده، اتجه بالعقل الغربي إلى عالم ما بعد الحداثة، عالم تأليه اللاعقل.

المراجع
  1. وهو اتجاه ذهب إليه الدكتور «عبد الرحمن بدوي» في موسوعته الفلسفية.
  2. ولهذا سمى كانط نفسه بمعماري العقل، الذي أعاد هندسته لكي يصف جميع حجراته لنا.
  3. مقصود كانط هنا أن العقول الفلسفية أكثر عمقاً وثراءً من العقول التي انشغلت في البحث الطبيعي.
  4. إيمانويل كانط، “نقد العقل الخالص”، ترجمة: موسى وهبة، الطبعة الثانية، منشورات مركز الإنماء القومي، ص 45.
  5. تاريخ الفلسفة الغربية: الفلسفة الحديثة (ترجمة: محمد فتحي الشنيطي)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 311.
  6. إيمانويل كانط، “نقد العقل الخالص”، ترجمة: موسى وهبة، الطبعة الثانية، منشورات مركز الإنماء القومي، ص 145.
  7. عبد الرزاق الدواي، “موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر”، دار الطليعة، ص 36.
  8. إيمانويل كانط، “نقد العقل الخالص”، ترجمة: موسى وهبة، الطبعة الثانية، منشورات مركز الإنماء القومي، ص 318.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.