في عام 1854 رحل «عباس حلمي الأول» مقتولًا في قصره ببنها، فاعتلى الحكم من بعده الخديوي سعيد (1854-1863) ثم إسماعيل (1863-1879)، فسار الاثنان في طريق تحديث البلاد وبناء دولة عصرية على النمط الأوروبي.

انقلب سعيد على سياسة سلفه في توجيه موارد مصر المحدودة نحو تحقيق شيء من الاستقلال السياسي والاقتصادي إلى اتباع سياسة الباب المفتوح.

في سبيل حلمهما بتحديث مصر على النمط الأوروبي استدان سعيد وإسماعيل، وقد خاض الثاني في أوحالها حتى لم يعد يستطيع منها فكاكًا. تولّي إسماعيل الحكم وديون مصر 11 مليون جنيه، فتركها وديونها تقترب من المائة مليون جنيه، وفائدة ديون تبلغ 6 ملايين جنيه [1]. الأدهى أن مصر لم تستفد سوى من 40 مليون جنيه فقط في الأعمال العامة، فيما ذهب 20 مليون للدائنين ووكلائهم على هيئة سمسرة وعدة تكاليف أخرى ما أنزل الله بها من سلطان. [2]

100 مليون جنيه ديون في بلد لم تتعد ميزانيته 10 ملايين ونصف المليون في أقصى سني الرواج الاقتصادي، يُبيِّن حكم الكارثة التي كانت تمسك بخناق مصر. فكيف انتهت سياسة التنمية بالديون؟

تلفّت إسماعيل فلم يجد سوى أولئك المساكين ساكني مصر، فاعتصرهم كما يعتصر الشربتلي الليمونة!

الضرائب… فنون وجنون!

تفننت دولة إسماعيل في السطو المسلح على جيوب أهل مصر، باستحداث ضرائب شملت كل ما يمشي على رجلين وأربع، وطائر في السماء، والسمك في الماء، وما يُباع في الأسواق، وكل راكب للعربات، وراجل يمر من تحت الكباري، ومركب يطفو على سطح البحر والنهر، وضرائب على الزواج، وضرائب لدفن الموتى. [3]

وليت تلك الضرائب دخلت الميزانية العامة لتُنفَق على الأعمال العامة التي قد يصيب الفلاح منها نصيب، وإنما ضاع قسم كبير منها نهبًا ما بين المُحصِّلين ورجال الإدارة وكبار موظفي الحكومة. [4]

وكلما تمادى إسماعيل في فَرنَجة مصر وإبهار الغرب بالمنشآت المعمارية، تمادى في استحداث ضرائب، فارتفع دخل الدولة من مليونين و154 ألف جنيه في بداية حكمه إلى أكثر من 10 ملايين ونصف المليون عام 1875. افتخر «إسماعيل صديق»، جابي الضرائب غليظ القلب، أنه جمع في بعض السنوات 15 مليونًا من الجنيهات. [5]

قابل الفلاحون تلك المظالم بالهروب من الأراضي، وإحراق وتخريب المحاصيل، ثم انتفاضات مسلحة. حلب البقرة من دون إطعماها يعني جفاف ضرعها، والاستمرار في اعتصارها يعني هلاكها، بما يعني خسارة البقرة وما تدره من لبن وحليب، والكل خاسر في النهاية.

خسارة قناة السويس

مع افتتاح قناة السويس عام 1869، تطلعت بريطانيا إلى السيطرة على القناة، ثم احتلال مصر عسكريًا، ونجحت في ذلك بعد اثني عشر عامًا فقط، فكأن القناة كانت السبب الرئيسي والمباشر للاحتلال البريطاني.

جاءت الفرصة تسعى إلى رئيس وزراء بريطانيا بينجامين دزرائيلي Benjamin Disraeli (1804-1881)، إذ علم أن إسماعيل يعرض أسهم مصر في القناة للبيع، ومقدارها 177.642 سهمًا، أي ما يقارب نصف أسهم الشركة البالغة 400 ألف سهم، وذلك سدادًا للديون التي غرق فيها، فسارع إلى شرائها بـ4 ملايين جنيه إسترليني، وبلغ من هرولته أنه لم ينتظر اجتماع البرلمان الذي كان في إجازة. [6]

بعد خسارة الأسهم، خسرت مصر عام 1880 حصتها الهزيلة في أرباح القناة، وقدرها 15%، إذ باعتها الرقابة الثنائية (الإنجليزية/الفرنسية)، سدادًا للديون، بثمن بخس 848.650 جنيهًا. [7]

مع بيع أسهم مصر وبيع حصتها في أرباح القناة، فَقَدَت البلد كل شيء لها في قناة السويس، رغم ما تحملته من نفقات، بلغت 16 مليون جنيه، بخلاف آلاف المُسخَّرين الذين قضوا نحبهم تحت رمال القناة، وحرمان المدن والقرى الداخلية من مكاسب تجارة المرور التي كانت تمر بها، فتستفيد منها بالضرائب التي تجبيها عليها وبأجور النقل، إذ تحوّلت تجارة المرور إلى القناة، فاستأثرت الشركة وحدها بمكاسبها.

مصر تحت حكم الدائنين

لم يُجدِ بيع أسهم قناة السويس، فالفوائد السنوية على الديون بلغت 6 ملايين جنيه، مبلغ لم تكن ميزانية البلاد تتحمله، فسارت الأمور من سيئ إلى أسوأ، وتوقف إسماعيل عن دفع أقساط الديون، فأعلن إفلاس مصر في 7 أبريل/نيسان 1876. وفي مايو/أيار 1876، تشكّلت لجنة «صندوق الدين»، كأول هيئة رسمية أوروبية لضمان مصالح الدائنين. يصفها المؤرخ «عبد الرحمن الرافعي» بأنها «بمثابة حكومة أجنبية داخل الحكومة المصرية». [8]

أهداف صندوق الدين هي: تسلم المبالغ المخصصة للديون من مصادر الإيرادات المصرية ثم تسليمها إلى الدائنين. وهذه الإيرادات هي: إيرادات مديريات الغربية والمنوفية والبحيرة وأسيوط، وعوائد الدخولية في القاهرة والإسكندرية، والضرائب الجمركية في موانئ الإسكندرية ورشيد ودمياط والعريش وبورسعيد والسويس، وإيرادات السكك الحديدية، ورسوم الدخان، ومصائد الأسماك، ورسوم الكباري، وعوائد الملاحة في النيل، وإيراد كوبري قصر النيل، وإيراد أطيان الدائرة السنية. [9]

وماذا يبقى للإنفاق على الحالة الداخلية بعد تخصيص كل تلك الإيرادات لسداد الديون؟!

لم تقنع بريطانيا بهذا الإجراء. لم يكن هدفها إصلاح الحالة المالية، وإنما دفع العربة إلى المنزلق، وإحكام الشبكة لاصطياد الفريسة. لم ترض بريطانيا إلا بفرض رقابة ثنائية، إنجليزي للإيرادات وفرنسي للمصروفات.

إنشاء الرقابة الثنائية كان له دلالته السياسية، بها خرجت الديوْن من كونها مسألة «دولية» تخص عددًا من الدائنين ينتمون إلى عدة جنسيات أوروبية، إلى مسألة «ثلاثية» بين بريطانيا وفرنسا من جانب، ومصر من جانب آخر، والأيام كفيلة بإزاحة فرنسا لتنفرد إنجلترا بالنفوذ، وتفوز بالكعكة كاملة.

مع فرض الرقابة الثنائية سيطرت بريطانيا وفرنسا على الجهاز الإداري، وازدادت الشبكة إحكامًا للإيقاع بالفريسة. سيطر الغرب عليها من أعلى الجهاز الإداري بالمراقبين، ومن أسفل بواسطة الرعايا الأوروبيين الذين انتشروا في البلاد كالجراد يمتصون دماءها.

لم يكن غرض الغرب أبدًا تنظيم الحالة المالية. الدليل أن 17 دولة أخرى مُفلسة ومُتوقفة عن الوفاء بديون بلغت 400 مليون جنيه للماليين الأوروبيين، لم تُعامل بمثل ما عُوملت مصر. [10] الدليل الثاني أن الأحوال المالية لم تتحسن، فالموظفون الأجانب الذين عيُنوا في صندوق الدين ووزارة المالية تقاضوا مرتبات عالية، إلى جانب زيادة الضرائب واستعمال القسوة في تحصيلها، وانخفاض فيضان النيل ثم علوها في شكل فيضان أغرق معظم الأراضي.

في 1877 تحالف نقص فيضان النيل مع طاعون الماشية فأحدثا مجاعة قضي فيها آلاف الفلاحين بالجوع والمرض. انتاب الصعيد مجاعة لم يُسمع بمثلها منذ أجيال. هام الأطفال والنساء على وجوههم متنقلين من قرية لأخري يستجدون الأكف لقاء لقيمات تدفع عنهم الموت، يقتاتون من فضلات الطرق وقمامة الشوارع. قتلت المجاعة ما يزيد على 10 آلاف نفس [11]، ومن نجا من الموت «أصبحوا مجرد أشباح».

تفاقم أوضاع المصريين والخديوي

حاول إسماعيل تخفيف الأزمة، فطلب من الدائنين تأجيل جمع الديْن فأبوا، ولو بمجرد تأجيل الفوائد. [12] وبينما الناس يموتون على قارعة الطريق جوعًا ومرضًا، ومساحات شاسعة من الأراضي لا تجد من يزرعها، أرسل الموظف الإنجليزي للإيرادات «ويلسون» تعليمات إلى مديري المديريات ومأموري المراكز بتحصيل الضرائب من الفلاحين، ومنْ لا يقدر على الدفع تصادر محاصيله ومواشيه وكل ممتلكاته. [13] وفي العام التالي (1878)، جاء فيضان النيل مرتفعًا، فأتلف أغلب المحاصيل.

فيضان منخفض وطاعون عام 1877، وفيضان مرتفع وإتلاف للمحاصيل عام 1878، وأوروبا لا تريد أن تسمع لآنين الفلاحين، ولا تريد أن تري أن 33 ألف نسمة هلكوا خلال سنتين متعاقبتين.

مع تفاقم الوضع، تألّفت لجنة تحقيق من موظفين مصريين وأجانب لمعرفة سبب تدهور الحالة المالية، وكأنهم لا يعرفون سبب تدهورها، وأين موضع الداء وكيفية استخدام قارورة الدواء!

قدمت اللجنة تقريرًا بالعلاج، تضمن:

  1. أن يتنازل إسماعيل عن جميع أملاكه، وبدلًا من ذلك، يُخصَّص له مرتب سنوي.
  2. إنشاء وزارة مسئولة تحكم البلاد إلى جانب الخديوي.
  3. تنظيم فرض الضرائب وعدم إرهاق الفلاحين. [14]

لم تكن توصيات اللجنة إلا وضعًا لمصر تحت حكم الدائنين، لذلك كان أول ما طلبوا أن يتخلى إسماعيل عن سلطته المطلقة، لا لنواب الأمة، ومجلسها المنتخب، ولكن لوزارة يرأسها وزير مصري، وفي الحقيقة تخضع لوزيرين: إنجليزي وفرنسي.

لم يجد إسماعيل مناصًا من الرضوخ، فتشكلت وزارة نوبار في 28 أغسطس/آب 1878، وهو المعروف بميوله الأوروبية. في وزارة نوبار تحوّل المراقبون الأجانب إلى وزيرين: إنجليزي للمالية، وفرنسي للأشغال، فاشتهرت باسم «الوزارة المختلطة» و«الوزارة الأوروبية».

تشكيل وزارة هي فكرة تنتمي إلى مؤسسات الحداثة، ولم تُطبَّق في مصر نتيجة ضغط شعبي، وإنما فرضتها أوروبا على إسماعيل لكي تحد من طغيانه، وما يخُصم من طغيان واستبداد إسماعيل يصب في الجهة المقابلة لصالح نفوذ وطغيان واستبداد أوروبا. أنهت الوزارة الحكم المطلق لإسماعيل بيد أنها نقلته إلى يد الأجانب.

بدأت وزارة نوبار مهامها بتجريد الخديوي من ممتلكاته، فأجبرته على التنازل عن أراضيه الزراعية لصالح الدولة، وفي الحقيقة تنازل عنها لصالح الدائنين الأوروبيين، لتسديد الدين السائر. [15] وجردت إسماعيل من السلطة السياسية، فمنعته من حضور جلسات مجلس الوزراء. ولإحكام المصيدة أعلن «ويلسون» في مجلس الوزراء ضرورة تسريح الجيش. هذا الاقتراح كشف أن الوزارة تسير وفق برنامج رسمته أوروبا، وصرّح ضباط مصريون علانية: بـ«أن نوبار وويلسون يعملان سويًا لتسليم مصر إلى أوروبا». [16]

بدأت الوزارة تنفذ المقترح فعليًا، فسرّحت جزءًا كبيرًا من الجيش، وأعطت 2500 ضابط نصف راتبهم من دون أن تسلمهم رواتبهم المتأخرة المستحقة عن فترة تراوحت بين 12 و18 شهرًا.

وبينما مرتبات الموظفين المصريين يتأخر صرفها بالشهور، حتى أنهم يضطرون للاقتراض بالربا من المرابين لكي يعيشوا، كانت الحكومة تسدد وبانتظام فوائد الدائنين في أوروبا [17]، ويتقاضى الموظفون الأجانب رواتب تبلغ في مجموعها 600 ألف جنيه سنويًا، من دون أن يؤدوا عملًا يستحقون عليه تلك المبالغ الضخمة، حتى أن مراسل الـ Times ذكر أنه «ليس لهم عمل سوى تناول مرتباتهم». [18]

نهب ميزانية الدولة

وفي عهد الخديوي توفيق، وُضعت مالية مصر لقمة سائغة للدائنين الأجانب، إذ وافق على إصدار «قانون التصفية»، في 17 يوليو/تموز 1880، وقد ظل أساس نظام مصر المالي، حتى توقيع الاتفاق الودي بين بريطانيا وفرنسا عام 1904.

قانون التصفية يُقسِّم إيرادات البلاد إلى قسمين، قسم مُحدد (4 ملايين و897 ألف جنيه) تحصل عليه وزارة المالية، وتُنفِق منه على سداد الرواتب والمشروعات العامة والجزية التي تدفعها مصر لتركيا. والقسم الآخر من الإيرادات (وهو غير مُحدد) يحصل عليه «صندوق الدين» مباشرةً، ويخُصص لسداد الديون. [19]

تحديد مصروفات الحكومة بمبلغ لا يتجاوز 5 ملايين جنيه يعني عرقلة الإصلاح والإنفاق على مشروعات المنفعة العامة، فيما تتكدس الأموال لدى صندوق الدين.

تسريح ضباط من الجيش، واعتصار الفلاحين، وتجريد كبار الملاك الزراعيين من سلطتهم، دفع القوى الوطنية للتحالف، فكان الطريق إلى الثورة، ثورة لم تعش سوى أقل من عام، إذ لم تترك بريطانيا أهل مصر يتحررون من السيطرة الأجنبية، فسعت لاحتلال مصر عسكريًا بعدما نجحت في احتلالها اقتصاديًا.

المراجع
  1. محمد فهمي لهيطة، تاريخ مصر الاقتصادي في العصور الحديثة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1944، ص 323.
  2. لهيطة، مرجع سابق، ص 319.
  3. للإطلاع على هذه الضرائب مفصلة انظر: جرجس حنين، الأطيان والضرائب في القطر المصري، ص 34، 35. عبد العزيز الرفاعي، فجر الحياة النيابية، الدار المصرية للتأليف والترجمة، ص 98. لهيطه، مرجع سابق، ص 332.
  4. لهيطة، ص 358. رمضان صالح، الحياة الاجتماعية في عصر إسماعيل، ص 98: 102.
  5. عليّ بركات، تطور الملكية الزراعية في مصر وأثره على الحركة السياسية 1813-1914، دار الثقافة الجديدة، ص 301: 303.
  6. عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، ج 2، ص 102. لهيطة، ص 328، هامش ص 359.
  7. الرافعي، ص 63: 65. 106. لهيطة، ص 251، 372.
  8. الرافعي، ص 69.
  9. لهيطة، ص 325. الرافعي، ص 68، 69.
  10. الرافعي، ص 77. فوزي جرجس، دراسات في تاريخ مصر السياسي منذ العصر المملوكي، العربي للنشر والتوزيع، ص 66.
  11. تيودور رتشتين، تاريخ المسألة المصرية ص 54.
  12. تيودور رتشتين، ص 54.
  13. السربوني، الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل، ج 1، مكتبة الأسرة، 2012، ص 517، 518.
  14. لهيطة، ص 327.
  15. روتشتين، ص 63، 64.
  16. السربوني، ص 520، 521، 522.
  17. السربوني، ص 522، 523.
  18. روتشتين، ص 65، 66.
  19. لهيطة، ص 373، 374.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.